الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 398 ] ( قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ) .

                          هذه الآيات الأربع والآيتان اللتان بعدها ختم للسورة بالنداء العام ، في الدعوة إلى عقيدة الإسلام ، أجملت أمرا ونهيا وخبرا في خاتمتها ، كما فصلت في جملتها ، قال تعالى : ( قل ياأيها الناس إن كنتم في شك من ديني ) أي إن كنتم في شك من صحة ديني الذي دعوتكم إليه ، أو من ثباتي واستقامتي عليه ، وترجون تحويلي عنه ( فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ) أي فلا أعبد في وقت من الأوقات ، ولا حال من الأحوال ، أحدا من الذين تعبدونهم غير الله ، من ملك أو بشر ; أو كوكب أو شجر أو حجر ، مما اتخذتم من الأصنام والأوثان ( ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ) أي يقبضكم إليه بالموت ثم يبعثكم فيحاسبكم ويجزيكم ، ولا يفعل أحد غيره هذا ولا يقدر عليه ، وإنما قال : ( إن كنتم في شك من ديني ) وشرطه يدل على الشك في شكهم وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يشك فيه ، لأنه نزل دينه منزلة ما لا ينبغي أن يشكوا فيه لشدة ظهوره ، وتألق نوره ، كما بينا مثله في تفسير : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) ( 2 : 23 ) الآية وما بعدها . ووصف الله بتوفيهم دون غيره من صفاته وأفعاله ، لتذكير كل منهم بما لا يشك فيه من عاقبة أمره ، وأنه سيكون كما وعده في الدنيا والآخرة ( وأمرت أن أكون من المؤمنين ) الذين وعدهم الله بالنجاة من عذابه ، وينصرهم على أعدائهم وأعدائه ، واستخلافهم في أرضه ، وإنه لإيجاز بليغ .

                          [ ص: 399 ] ( وأن أقم وجهك للدين حنيفا ) أي أمرت بأن أكون من المؤمنين ، وبأن أقيم وجهي للدين القيم الذي لا عوج فيه حالة كوني حنيفا ، أي مائلا عن غيره من الشرك والباطل ، ولكن اختير هنا صيغة الطلب وفيما قبله الخبر ؛ ذلك بأن الخبر هو المناسب لعلاقة هذا الأمر بالماضي وهو أن يكون من جماعة المؤمنين ، الموعودين بما تقدم من سنة الله في النبيين ، والطلب هو المناسب لعلاقته هو وما عطف عليه من النهي بالحال والاستقبال ، من دعوة هذا الدين الموجهة إلى أهل مكة وسائر الناس - ولا فرق بينهما في الإعراب كما حققه سيبويه وغيره - وإقامة الوجه للدين هنا وفي سورة الروم ( 30 - 43 ) عبارة عن التوجه فيه إلى الله تعالى وحده في الدعاء وغيره بدون التفات إلى غيره ، والمراد به توجه القلب ، وفي معناه: ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ) ( 6 : 79 ) ومثله إسلام الوجه لله في سورة البقرة ( 2 : 112 ) وآل عمران ( 3 : 20 ) والنساء ( 4 : 125 ) وإسلامه إلى الله في سورة لقمان ( 31 : 22 ) وكذا توجيه الوجه الحسي إلى القبلة في آياتها وهو الأصل في اللغة ، والمراد به وجهة الإنسان ، فمن توجه قلبه في عبادة من العبادات ( ولا سيما مخ العبادة وروحها وهو الدعاء ) إلى غير الله فهو عابد له مشرك بالله ، وأكده بالنهي عن ضده معطوفا عليه فقال : ( ولا تكونن من المشركين ) أصحاب الديانات الوثنية الباطلة ، الذين يجعلون بينهم وبين الله تعالى حجابا من الوسطاء والأولياء والشفعاء يوجهون قلوبهم إليهم عند الشدة تصيبهم ، والحاجة التي تستعصي على كسبهم ، ووجوههم وجملتهم إلى صورهم وتماثيلهم في هياكلهم ، أو قبورهم في معابدهم ، ويدعونهم لقضاء حوائجهم إما بأنفسهم وإما بشفاعتهم ووساطتهم عند ربهم ، ثم بين هذا بالإشارة إلى سببه عند المشركين والنهي عن مثله معطوفا عليه فقال :

                          ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ) أي ولا تدع غيره تعالى ( دعاء عبادة ، وهو ما فيه معنى القربة والجري على غير المعتاد في طلب الناس بعضهم من بعض ) لا على سبيل الاستقلال ، ولا على سبيل الاشتراك بوساطة الشفعاء - ما لا ينفعك إن دعوته لا بنفسه ولا بوساطته ، ولا يضرك إن تركت دعاءه ولا إن دعوت غيره ( فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ) أي فإن فعلت هذا بأن دعوت غيره فإنك أيها الفاعل في هذه الحال من طغامة الظالمين لأنفسهم الظلم الأكبر ، وهو الشرك الذي فسر به النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: إن الشرك لظلم عظيم ) ( 31 : 13 ) فإنه لما كان دعاء الله وحده هو أعظم العبادة ومخها - كما ورد في الحديث - كان دعاء غيره هو معظم الشرك ومخه ، كما كررنا التصريح به بتكرار تفسير الآيات الناهية عنه ، ومنها في هذه السورة قوله تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ( 218 ) وقوله: ( قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ) ( 49 ) وقوله قبلهما : ( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ) ( 12 ) [ ص: 400 ] وقوله في أهل الفلك ( السفينة ) المشركين عند إحاطة الخطر بهم : ( دعوا الله مخلصين له الدين ) ( 22 ) .

                          والآيات في هذا المعنى كثيرة متفرقة في السور ، كررت لأجل انتزاع هذا الشرك الأكبر من قلوب الجمهور الأكبر ، وقد انتزع من قلوب الذين أخذوا دينهم من القرآن ، وكان جل عبادتهم تكرار تلاوته بالغدو والآصال ، والليل والنهار ، ثم عاد بقضه وقضيضه إلى الذين هجروا تدبر القرآن وهم يدعون الإسلام ، وأكثرهم يتلقون عقائدهم من الآباء والأمهات والمعاشرين ، وأكثر هؤلاء من الخرافيين الأميين ، الجاهلين ، وأكثر القارئين منهم على قلتهم يأخذونها من كتب مقلدة متأخري المتكلمين الجدلية والمتصوفة الخرافية ، ولا يكاد مسجد من مساجدهم يخلو من قبر مشرف مشيد ، توقد عليه السرج والمصابيح ، وقد لعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاعليها ، ويتوجه إليه الرجال والنساء ، في كل صباح ومساء ، يدعون من دون الله من يعتقدون أنهم أحياء يقيمون فيها ، ويتقربون إليهم بالهدايا والنذور من الأميين ، وبعرائض الاستغاثة والدعاء من المتعلمين ، ليكشفوا عنهم الضر ، ويهبوا لهم ما يرجون من النفع ، ومن أمامهم وورائهم عمائم مكورة ، ولحى طويلة أو مقصرة ، يسمون شركهم الأكبر توسلا ، واستغاثتهم استشفاعا ، ونذورهم لغير الله صدقات مشروعة ، وطوافهم بالقبور المعبودة زيارات مقبولة ، ويتأولون هذه الآيات الكثيرة ، بل يحرفونها عن مواضعها ، بزعمهم أنها خاصة بعبادة الأصنام ، والنذور للأوثان ، والتعظيم للصلبان ، كأن الإشراك بالله جائز من بعض الناس ببعض المخلوقات دون بعض ، ومن البلاء الأكبر على الإسلام والمسلمين بمصر أن أصدرت لهم مشيخة الأزهر الرسمية في هذا العصر مجلة رسمية دينية ، تفتيهم بشرعية كل هذه البدع الشركية القبورية ، سمتها ( نور الإسلام ) وألف لهم أحد خطباء الفتنة كتابا في هذا واطأه عليه وأمضاه له سبعون عالما من علماء الأزهر بزعمه ، بل طبع في طرته خواتم بعضهم وتواقيع آخرين منهم بخطوطهم وذكر جميع أسمائهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وبه وحده المستعان لإنقاذ الإسلام من هذا الطغيان ، ومنهم من يحتج على نفع هذا الدعاء لغير الله بالتجارب ، كما يحتج الهنود الوثنيون والنصارى ، فهو مشترك الإلزام وقد أبطله الله بقوله :

                          ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ) هذه الآية مؤكدة لما قبلها داحضة لشبهة الذين يدعون غير الله بأنهم طالما استفادوا من دعائهم والاستغاثة بهم فشفيت أمراضهم ، وكبتت أعداؤهم ، وكشف الضر عنهم ، وأسدي الخير إليهم ، يقول تعالى لكل مخاطب بهذه الدعوة إلى توحيد الإسلام ، بكلام الله وتبليغ محمد عليه أفضل الصلاة والسلام: ( وإن يمسسك الله ) [ ص: 401 ] أيها الإنسان ( بضر ) كمرض يصيبك بمخالفة سننه في حفظ الصحة ، أو نقص من الأموال والثمرات بأسبابه لك فيه عبرة ، أو ظلم يقع عليك من الحكام المستبدين ، أو غيرهم من الأعداء المعتدين ( فلا كاشف له إلا هو ) وقد جعل لكل شيء سببا يعرفه خلقه بتجاربهم ، ككشف الأمراض بمعرفة أسبابها ، وخواص العقاقير التي تداوى بها ، وتجارب الأعمال الجراحية التي يزاولها أهلها ، فعليك أن تطلبها من أسبابها ، وتكل أعمالها إلى أربابها ، وتأتي سائر البيوت من أبوابها ، مع الإيمان والشكر لمسخرها ، فإن جهلت الأسباب أو أعياك أمرها ، فتوجه إلى الله وحده ، وادعه مخلصا له الدين متوكلا عليه وحده ، يسخر لك ما شاء أو من شاء من خلقه ، أو يشفك من مرضك بمحض فضله ، كما ضرب لك الأمثال في هذه السورة وغيرها من كتابه ( وإن يردك بخير ) يهبه بتسخير أسبابه لك ، وبغير سبب ولا سعي منك ، ( فلا راد لفضله ) أي فلا أحد ولا شيء يرد فضله الذي تتعلق به إرادته ، فما شاء كان حتما ، فلا ترج الخير والنفع إلا من فضله ، ولا تخف رد ما يريده لك من أحد غيره ( يصيب به من يشاء من عباده ) يصيب بالخير من يشاء من عباده بكسب وبغير كسب وبسبب مما قدره في السنن العامة وبغير سبب ، ففضله تعالى على عباده عام بعموم رحمته ، بخلاف الضر فإنه لا يقع إلا بسبب من الأسباب الخاصة بكسب العبد ، أو العامة في نظام الخلق ، فالأول معلوم كالأمراض التي تعرض بترك أسباب الصحة والوقاية جهلا أو تقصيرا ، وفساد العمران وسقوط الدول الذي يقع بترك العدل ، وكثرة الفسق والظلم ، والثاني كالضرر الذي يعرض من كثرة الأمطار ، وطغيان البحار والأنهار ، وزلازل الأرض وصواعق السماء ( وهو الغفور الرحيم ) ولولا مغفرته الواسعة ورحمته العامة لأهلك جميع الناس بذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) ( 42 : 30 ) ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ) ( 35 : 45 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية