الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 56 ] [ ص: 57 ] ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة من الهجرة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها كان مقتل الخليفة المقتدر بالله ، وكان سبب ذلك أن مؤنسا الخادم خرج من بغداد في المحرم من هذه السنة مغاضبا للخليفة في مماليكه وحشمه ، متوجها نحو الموصل ورد من أثناء الطريق مولاه بشرى إلى المقتدر ليستعلم له ، وبعث معه رسالة يخاطب بها أمير المؤمنين ، فلما وصل أمره الوزير الحسين بن القاسم - وكان من أكبر أعداء مؤنس - بأن يؤديها إليه ، فامتنع من أدائها إلا إلى الخليفة ، فأحضره بين يديه ، فأمره أن يقولها للوزير ، فامتنع ، وقال : ما أمرني صاحبي بهذا . فشتمه الوزير وشتم صاحبه ، وأمر بضربه ومصادرته بثلاثمائة ألف دينار ، وأخذ خطه بها ، وأمر بنهب داره ، ثم أمر الوزير بالقبض على أقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك من معه ، فحصل من ذلك مال عظيم ، وارتفع أمر الوزير عند المقتدر ، ولقبه عميد الدولة ، وضرب اسمه على الدراهم والدنانير ، وتمكن من الأمور جدا ، فعزل وولى ، وقطع ووصل ، وفرح بنفسه حينا قليلا . وأرسل إلى هارون بن غريب في الحال ، وإلى محمد بن ياقوت يستحضرهما إلى الحضرة ، عوضا عن مؤنس ، فصمم المظفر مؤنس في مسيره إلى الموصل وجعل يقول لأمراء الأعراب : إن الخليفة قد ولاني الموصل وديار ربيعة . فالتف عليه خلق [ ص: 58 ] كثير ، وجعل ينفق فيهم الأموال الجزيلة ، وله إليهم قبل ذلك أياد سابغة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كتب الوزير إلى آل حمدان - وهم ولاة الموصل وتلك النواحي - يأمرهم بمحاربة مؤنس الخادم فركبوا إليه في ثلاثين ألفا ، وواجههم مؤنس في ثمانمائة من مماليكه وخدمه ، فهزمهم ولم يقتل منهم سوى رجل واحد يقال له : داود ، كان من أشجعهم ، وقد كان مؤنس رباه وهو صغير . ودخل مؤنس الموصل فقصدته العساكر من كل جانب يدخلون في طاعته ; لإحسانه إليهم قبل ذلك ، من أهل بغداد والشام ومصر ومن الأعراب ، حتى صار في جحافل من الجنود .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما الوزير الحسين بن القاسم ، فإنه ظهرت خيانته وعجزه ، فعزله المقتدر في ربيع الآخر ، وولى مكانه الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات ، فكان آخر وزراء المقتدر . وأقام مؤنس بالموصل تسعة أشهر ، ثم ركب في الجيوش في شوال قاصدا بغداد ; ليطالب المقتدر بأرزاق الأجناد وإنصافهم ، فسار - وقد بعث بين يديه الطلائع - حتى جاء فنزل بباب الشماسية من بغداد وقابله عنده ابن ياقوت وهارون بن غريب - عن كره منه - وأشير على الخليفة بأن يستدين من والدته ما ينفق في الأجناد ، فقال : لم يبق عندها شيء ، وعزم الخليفة على الهرب إلى واسط وأن يترك بغداد لمؤنس حتى يتراجع أمر الناس ، ثم يعود إليها . فرده عن ذلك ابن ياقوت ، وأشار عليه بمواجهة مؤنس وأصحابه ، فإنهم متى ما رأوه كروا كلهم إليه ، وتركوا مؤنسا ، فركب وهو كاره ، وبين يديه الفقهاء ، ومعهم [ ص: 59 ] المصاحف منشرة ، وعليه البرد والناس حوله ، فوقف على تل عال بعيد من المعركة ونودي في جيشه : من جاء برأس فله خمسة دنانير ، ومن جاء بأسير فله عشرة دنانير ، ثم بعث إليه أمراؤه يعزمون عليه أن يتقدم ، فامتنع من التقدم إلى محلة المعركة ، ثم ألحوا عليه ، فجاء بعد تمنع شديد ، فما وصل إليهم حتى انهزموا وفروا راجعين ، ولم يلتفتوا إليه ولا عطفوا عليه ، فكان أول من لقيه من أمراء مؤنس علي بن يلبق ، فلما رآه ترجل ، وقبل الأرض بين يديه ، وقال : لعن الله من أشار عليك بالخروج في هذا اليوم ، ثم وكل به قوما من المغاربة البربر ، فلما تركهم وإياه شهروا عليه السلاح ، فقال لهم : ويلكم ! أنا الخليفة . فقالوا : قد عرفناك يا سفلة ، إنما أنت خليفة إبليس ، تنادي في جيشك : من جاء برأس فله خمسة دنانير ، ومن جاء بأسير فله عشرة دنانير ؟! وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه ، فسقط إلى الأرض ، وذبحه آخر ، وتركوا جثته ، وقد سلبوه كل شيء كان عليه ، حتى سراويله ، وبقي مكشوف العورة مجدلا على الأرض ، حتى جاء رجل فغطى عورته بحشيش ، ثم دفنه في موضعه ، وعفا أثره . وأخذت المغاربة رأس المقتدر على خشبة قد رفعوها وهم يلعنونه ، فلما انتهوا به إلى مؤنس - ولم يكن حاضرا الوقعة - فحين نظر إلى رأس المقتدر لطم رأسه ووجهه ، وقال : ويلكم ! لم آمركم بهذا ، لعنكم الله قتلتموه ! والله لنقتلن كلنا . ثم ركب ووقف عند دار الخلافة حتى لا تنهب ، وهرب عبد الواحد بن المقتدر وهارون بن غريب وابنا رائق إلى المدائن ، وكان صنيع مؤنس هذا سببا لطمع أصحاب الأطراف في الخلفاء ، وضعف أمر الخلافة جدا ، مع ما كان المقتدر يعتمده من التبذير والتفريط في الأموال ، وطاعة النساء ، وعزل الوزراء ، حتى [ ص: 60 ] قيل إن جملة ما صرفه في الوجوه الفاسدة والتبذير ما يقارب ثمانين ألف ألف دينار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية