الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 403 ] الخلاصة الإجمالية لسورة يونس عليه السلام

                          وفيها ستة أبواب

                          ( جميع آيات هذه السورة في أصول عقائد الإسلام التي كان ينكرها مشركو العرب ، وهي : توحيد الله تعالى ، والوحي والرسالة ، والبعث والجزاء ، وما يناسب هذه الثلاث ويمدها من صفاته تعالى وأفعاله وتنزيهه وآياته وسننه في خلقه ، وشئون البشر في صفاتهم وعاداتهم وأعمالهم ، ومحاجة مشركي مكة في ذلك كله ، ولا سيما هداية القرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والعبرة بأحوال الرسل مع أقوامهم ، فهي كسورة الأنعام في السور المكية إلا أنها أكثر منها ومن سائر السور إثباتا للوحي والرسالة ، وتحديا بالقرآن وبيانا لإعجازه وحقيته وصدق وعده ووعيده ، وهذه المقاصد أو العقائد مكررة فيها بالأسلوب البديع ، والنظم البليغ ، بحيث يحدث في نفس سامعها وقارئها أروع الإقناع والتأثير ، من حيث لا يشعر بما فيه من التكرير ، وإنني أوجز في تلخيص هذه الأصول في أبوابها ; لما سبق في هذا الجزء من بسطها في مباحث الوحي من تفسير أول السورة ، ولا سيما مسائل إعجاز القرآن ، وإثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي امتازت بها على سائر السور ) .

                          الباب الأول

                          ( في توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وصفات عظمته وعلوه ، وتدبيره لأمور عباده ، وتصرفه فيهم وفضله عليهم ورحمته بهم ، وعلمه بشئونهم ، وتنزيهه عن ظلمهم ، وعما لا يليق به من أوهامهم ، وفي آياته الدالة على ما ذكر كله وفيه ثلاثة فصول )

                          ( الفصل الأول : في توحيد الربوبية والألوهية )

                          أجمع الآيات في هذا التوحيد الآية الثالثة من هذه السورة ، التي خاطبت الناس بأن ربهم هو الذي خلق السماوات والأرض أطوارا في ستة أيام أي أزمنة ، تم فيها خلقها وتكوينها فكانت ملكا عظيما ، ثم استوى على عرش هذا الملك الاستواء اللائق به ، الدال على علوه المطلق على جميع خلقه ، وإحاطته به بعلمه وقدرته ، وتدبير الأمر فيه بمشيئته وحكمته ورحمته ، بغير حد ولا تشبيه ، ولا شريك له في الخلق والتقدير ، ولا في التصرف والتدبير ، ما من شفيع عنده إلا من بعد إذنه ، فله وحده الأمر ، وبيده النفع والضر .

                          بعد تقرير هذه الحقيقة في توحيد الربوبية قال تعالى محتجا بها على توحيد الألوهية : ( ذلكم الله ربكم فاعبدوه ) 3 أي فاعبدوه وحده ، ولا تعبدوا معه غيره بطلب شفاعة ولا دعاء [ ص: 404 ] ولا ما دونهما من مظاهر العبادة ; إذ لا رب لكم غيره ، وإنما تجب العبادة لرب العباد دون غيره . واستدل على توحيد الربوبية بما في الآيات 3 - 6 من الآيات ( الدلائل ) الكونية .

                          ثم عاد إلى توحيد الألوهية وهو العبادة الخاصة في الآية : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ( 18 ) ودحض هذا القول منزها نفسه عن هذا الشرك .

                          ثم احتج على بطلان شركهم هذا بما في الآيتين 22 و 23 من ضرب مثل لهم يعرفونه بالتجربة ; لوقوعه لكثير منهم في أزمنة مختلفة ، وهو أنهم إذا ركبوا في الفلك وعصفت بهم الريح ، وهاج بهم البحر وأشرفوا على الهلاك ، يدعون الله وحده مخلصين له الدين ، وينسون عند شدة الخطر ما كانوا يشركون به من الشفعاء والأولياء .

                          ثم عاد إلى التذكير بالآيات الكونية على وحدانية الربوبية في الآيات 31 - 36 وإلى توحيد الألوهية في الآية : ( قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ) ( 49 ) .

                          ثم عاد إلى التذكير بتوحيد الربوبية في سياق آخر فبين في الآية 55 أن لله ما في السماوات وما في الأرض ، وأن الذين يدعون من دون الله لا يتبعون شركاء لله إذ لا شركاء له ، ما يتبعون إلا الظن والخرص .

                          ثم بين في الآيتين 71 و 85 أن كمال التوحيد في التوكل على الله وحده .

                          ومن شئون الرب وحقه على عباده التشريع الديني ، وقد بين في الآية 15 والآية 109 أن الرسول متبع لما يوحى إليه عملا وتبليغا ، لا مشرع مستقل فيه ولا متحول عنه .

                          وفي الآيتين 59 و 60 أن جميع ما أنزله الله تعالى لعباده وأنعم به عليهم من أنواع الرزق فهو حلال لهم ، ليس لأحد منهم حق أن يحرمه عليهم لذاته تحريما دينيا . وأن من تحكم فيه بالتحريم والتحليل فهو معتد على حقه تعالى مفتر عليه .

                          ( الفصل الثاني : في صفات الذات من العلم والمشيئة والعزة والرحمة )

                          أما العلم فحسبك من هذه السورة قوله تعالى : ( وما تكون في شأن ) ( 61 ) إلخ . فراجع تفسيرها وتأمل عجائب بلاغتها ، وإحاطتها بعظائم الأمور وصغائرها ، وظواهر الأعمال وخفاياها ، وذرات الوجود قريبها وبعيدها جليها وخفيها ، وما تدركه المشاعر وما لا تدركه من خلايا مركباتها ودقائق بسائطها . وتدبر تعلق علم الله تعالى بها كلها ، وكتابته لها من قبل إيجادها ، وشهوده إياك في كل ما تكون فيه منها ، تجده رافعا لك إلى أعلى درجات الإيمان والإسلام والإحسان .

                          [ ص: 405 ] ثم تأمل قوله تعالى في الذين يشركون بالله غيره بما يرجون من نفعهم لهم ، وكشفهم الضر عنهم بشفاعتهم عنده تعالى من الآية: ( قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ) ( 18 ) تعلم مقدار جهل الإنسان وجنايته على نفسه ، بما يقوله على الله تعالى بغير علم ، من تصغير أمر الربوبية ، والشرك في الألوهية بالتوجه في الدعاء والرجاء والخوف إلى غيره تعالى بما هو عين الشرك به كما تقدم آنفا .

                          وأما صفة المشيئة فتأمل فيها أمره تعالى لرسوله الأعظم في الآية : ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ) ( 16 ) إلخ . وفي الآية : ( قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ) ( 49 ) تعلم منه قدر إيمانه - صلى الله عليه وسلم - بمشيئة ربه عز وجل ، ثم انظر قوله تعالى له : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) ( 99 ) تعلم منه كيف شاء الله تعالى أن يخلق المكلفين في هذه الأرض مختلفي الاستعداد للإيمان والكفر والخير والشر ، وأن ما وهبه من المشيئة والاستطاعة لأعظمهم قدرا وفضلا لا يمكن أن يخرج عن مقتضى مشيئته وسننه في نظام خلقه ، ويؤكده قوله تعالى بعده : ( وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ) ( 100 ) وهو بيان لسنته التي اقتضتها مشيئته في اختيارهم لكل من الإيمان والكفر ، وما يستلزمان من عمل الخير والشر .

                          وفي معناه قوله فيما يصيبهم من ضر ونفع وخير وشر ، وكون كل منهما بالأسباب المقيدة بسننه في الخلق بمقتضى إرادته : ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ) ( 107 ) الآية : فلا يقدر الأولياء ومن يسمونهم الشفعاء على النفع ولا على الضر من غير أسبابهما المشتركة بين جميع الناس ، وإنما يقدر على ذلك واضع السنن والأسباب وحده ، والمراد من كل هذه الآيات سد ذرائع الشرك وإعتاق البشر من رقه ، باعتمادهم في أمورهم على ما وهبهم من القوى ، وطلب كل شيء من أسبابه التي سخرها الله لهم ، والتوجه إليه وحده في تسخير ما يعجزون عنه ، ومع هذا كله نرى من سرت إليهم عدوى الوثنية من أهلها ، يتوجهون إلى غيره تعالى من الأحياء والأموات المعتقدين فيما لا يقدرون عليه بكسبهم ، وفيما هو من كسبهم أيضا . ولكنهم يجهلون قدرتهم أو قدرة أمثالهم كالأطباء عليه ، ويظنون أن معتقديهم - المتصرفين في الكون بزعمهم - أقرب منالا ، كما بسطناه في تفسير كل هذه الآيات وأمثالها مكررا اتباعا لكتابه تعالى .

                          وأما صفة العزة فليس في هذه السورة ذكر لها إلا قوله تعالى: ( ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم ) ( 65 ) ومعناها المنعة والقوة التي شأنها أن يغلب صاحبها ولا يغلب على أمره ، وينال خصمه منه . وكان المشركون يعتزون بكثرتهم وقوتهم وثروتهم تجاه قلة المؤمنين وضعفهم وفقرهم ، فيطعنون في الرسول وفي الإسلام وأهله فيحزنه - صلى الله عليه وسلم - ما يقولون ، فنهاه عز وجل عن هذا الحزن وعلله بأن العزة الحق هي لله وحده ، فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء ، وقد كتبها لرسوله وللمؤمنين كما [ ص: 406 ] بيناه في تفسير الآية ، وفي هذه الآية ذكر السمع والعلم ; لتذكيره - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه من المؤمنين بسمعه تعالى لأقوالهم ، كإحاطته علما بأعمالهم ، فهو قدير على إعزازه وإذلالهم .

                          وأما صفة الرحمة فقد جاءت مقترنة بالمغفرة في فاصلة الآية 107 الناطقة بانفراده تعالى بكشف الضر وإرادة الخير كما تقدم .

                          وذكرت الرحمة بآثارها ومتعلقاتها في الرزق من الآية 21 . وفي خصائص القرآن التشريعية من الآية 57 وفيما يعمهما من الآية 58 وفي التنبيه من الظلم وحكم الكافرين في الآية 86 فنسأله تعالى أن يعمنا بأنواع رحمته كلها ويجعلنا من الشاكرين .



                          ( الفصل الثالث : في تقديسه تعالى وتنزيهه وغناه عن كل ما سواه )

                          نزه الله تعالى نفسه في هذه السورة في مواضع : ( أولها ) أن يكون عنده شفعاء ينفعون من يشفعون لهم أو يكشفون الضر عنهم ، فيكون لتأثيرهم شرك في أفعاله تعالى . وهذه شبهة شرك العرب وغيرهم ، وقد فشا في أكثر النصارى وكذا جهلاء المسلمين كما بيناه تكرارا ، وهو نص قوله في الآية 18 : ( سبحانه وتعالى عما يشركون ) .

                          ونزه نفسه عن اتخاذ الولد وهو ضرب من الشرك أيضا بقوله : ( قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني ) ( 68 ) الآية .

                          ونزه نفسه عن ظلم عباده في الدنيا والآخرة ، وبين أنهم هم الذين يظلمون أنفسهم في الآيات 44 و 47 و 52 و 54 .

                          ( الفصل الرابع : في أفعاله تعالى وآياته في التقدير والتدبير والرزق )

                          ونجملها في عشرين مسألة

                          ( 1 ) خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، أي أزمنة يحدد كلا منها طور من أطوار التكوين .

                          ( 2 ) استواؤه تعالى بعد هذا الخلق على عرشه يدبر أمر ملكه ، والمراد بهذه الآية في هذا الباب أن للعالم في جملته عرشا هو مركز التدبير والنظام العام له . ( راجع تفسير الآية الثالثة في بيانهما وما نحيل عليه في معناهما ) .

                          ( 3 ) بدء الخلق ثم إعادته في الآيتين 4 و 34 .

                          ( 4 - 6 ) جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل وحكمة ذلك في الآية الخامسة .

                          [ ص: 407 ] ( 7 ) اختلاف الليل والنهار في الآية السادسة ، وبيان حكمة ذلك في الآية 67 .

                          ( 8 ) مثل الحياة الدنيا في زينتها وغرور الناس بها وزوالها في الآية 24 .

                          ( 9 ) إنزال الرزق من السماء والأرض في الآيتين 31 و 59 .

                          ( 10 ) ملك السمع والأبصار في 31 أيضا .

                          ( 11 ) إخراج الحي من الميت والميت من الحي فيها ( 31 ) .

                          ( 12 ) تدبير أمر الخلق في الآيتين 3 و 31 .

                          ( 13 ) كون خلقه للشمس والقمر ضياء ونورا وحسبانا بالحق لا عبثا ، في الآية 5 .

                          ( 14 ) هدايته تعالى إلى الحق ، ويؤيده أن الظن لا يغني من الحق في الآيتين 35 و 36 ، وأنه ليس بعد الحق إلا الضلال في 32 ، وأنه يحق الحق بكلماته في 82 .

                          ( 15 ) لله ما في السماوات وما في الأرض ، أي من غير العقلاء في الآية 55 .

                          ( 16 ) لله من في السماوات ومن في الأرض من العقلاء في الآية 66 .

                          ( 17 ) الأمر بنظر ما في السماوات والأرض والاعتبار بهما في الآية 101 .

                          ( 18 ) سرعة مكره تعالى من إحباط مكر الماكرين ، والإملاء للظالمين ، في الآية 21 .

                          ( 19 و 20 ) تسييره تعالى للناس في البر والبحر ، وإنجاؤهم من الغرق بعد اليأس في الآيتين 22 ، 33 .

                          فهذه الآيات المنزلة ، والمرشدة إلى النظر في الآيات الكونية ، تدل على عناية هذا الدين بالعلم بكل ما خلق الله ، وما أودع فيه من الحكم والمنافع للناس ، ليزدادوا في كل يوم علما بدنياهم ، وعرفانا وإيمانا بربهم ، كلما رتلوا كتابه ، وتدبروا آياته : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ( 38 : 29 ) فنسأله تعالى أن يجعلنا من خيارهم وأبرارهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية