الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر عن حفصة أم المؤمنين أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          897 883 - ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر عن ) أخته ( حفصة أم المؤمنين أنها قالت لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ما شأن ) أي أمر وحال ( الناس حلوا ) هكذا ليحيى الليثي النيسابوري وابن بكير والقعنبي وأبي مصعب وغيرهم ، وزاد التنيسي وإسماعيل بن أبي أويس وابن وهب : بعمرة ، والمعنى واحد عند أهل العلم ، قاله ابن عبد البر ، أي أن إحرامهم بعمرة كان سببا لسرعة حلهم ( ولم تحلل ) بفتح أوله ، وكسر ثالثه ( أنت من عمرتك ؟ فقال : إني لبدت رأسي ) بفتح اللام والموحدة الثقيلة ، من التلبيد ، وهو جعل شيء فيه من نحو صمغ ليجتمع الشعر ولا يدخل فيه قمل ( وقلدت هديي ) : علقت شيئا في عنقه ليعلم ( فلا أحل ) بفتح الهمزة وكسر الحاء والرفع ، من إحرامي ( حتى أنحر ) الهدي ، واحتج به أبو حنيفة ، وأحمد ، ومن وافقهما على أن من ساق الهدي لا يحل من العمرة حتى يهل بالحج ، ويفرغ منه ، لأنه جعل علة بقائه على إحرامه كونه أهدى ، وكذا في حديث جابر في الصحيحين ، وأخبرهم أنه لا يحل حتى ينحر الهدي ، والأحاديث بذلك متظاالفرة .

                                                                                                          وأجاب بعض المالكية والشافعية بأن السبب في عدم تحلله من العمرة ، كونه أدخلها على الحج ، وهو مشكل عليه ، لأنه يقول : إنه - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج ، وقال بعض العلماء : ليس لمن قال كان مفردا عن هذا الحديث انفصال ، لأنه إن قال به أشكل عليه بتعليله عدم التحلل بسوق الهدي ، لأن التحلل يمتنع على من كان قارنا عنده ، وجنح الأصيلي وغيره إلى توهيم مالك في قوله : " ولم تحلل أنت من عمرتك " ، وأنه لم يقله أحد في حديث حفصة غيره .

                                                                                                          وتعقبه ابن عبد البر على تقدير تسليم انفراده بأنها زيادة حافظ ، فيجب قبولها على أنه لم ينفرد ، فقد تابعه أيوب ، وعبيد الله بن عمر ، وهما مع مالك حفاظ أصحاب نافع ، انتهى .

                                                                                                          ورواية عبيد الله عن مسلم وأخرجه البخاري عن موسى بن عقبة ومسلم عن ابن جريج ، والبيهقي عن شعيب بن أبي حمزة ثلاثتهم عن نافع بدونها .

                                                                                                          وفي رواية عبيد الله عند الشيخين : " فلا أحل حتى أحل من الحج ، ولا تنافي هذه [ ص: 519 ] رواية مالك ، لأن القارن لا يحل من العمرة ، ولا من الحج حتى ينحر ، فلا حجة فيه لمن قال : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان متمتعا ؛ لأن قول حفصة : ولم تحلل عمرتك ، وقوله : حتى أحل من الحج ; ظاهر في أنه كان قارنا .

                                                                                                          وأجاب الإمام الشافعي بأن معنى قولها : من عمرتك : من إحرامك الذي ابتدأته معهم بنية واحدة بدليل قوله : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " ، أي فأطلقت اسم العمرة على الإحرام بنية الحجة الواحدة تجوزا ، وقيل : معناه ولم تحلل من حجك بعمرة كما أمرت أصحابك ، ومن تأتي بمعنى الباء ، كقوله تعالى : ( يحفظونه من أمر الله ) ( سورة الرعد : الآية 11 ) أي بأمره ، والتقدير : ولم تحلل أنت بعمرة من إحرامك وقيل : ظنت أنه فسخ حجه بعمرة كما صنع أصحابه بأمره ، فقالت : لم لم تحلل أنت أيضا من عمرتك ؟ وقيل : المراد بالعمرة هنا الحج ، لأنهما يشتركان في كونهما قصدا .

                                                                                                          وجزم به المنذري ، وأيده بأنه روي حلوا ، ولم تحلل أنت من حجتك ، وهذا نحو جواب الشافعي ، وضعفت هذه التأويلات بما في الصحيح ، عن عمر مرفوعا : وقل عمرة في حجة .

                                                                                                          وعن أنس : " ثم أهل بحج وعمرة " .

                                                                                                          ولمسلم عن عمران بن حصين : جمع بين حجة وعمرة .

                                                                                                          ولأبي داود والنسائي عن البراء ، مرفوعا : " إني سقت الهدي وقرنت " .

                                                                                                          وللنسائي من حديث علي مثله ، ولأحمد عن سراقة : " أنه - صلى الله عليه وسلم - قرن في حجة الوداع " ، وله عن طلحة ، وللدارقطني عن أبي سعيد ، وأبي قتادة ، والبزار عن ابن أبي أوفى : " أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الحج والعمرة " ، وأجاب البيهقي عن هذه الأحاديث وغيرها نصرة لمن قال : كان مفردا ، فنقل عن سليمان بن حرب أن رواية أبي قتادة عن أنس : أنه سمعهم يصرخون بهما جميعا ، أثبت من رواية من روى عنه : أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الحج والعمرة ، ثم تعقبه بأن قتادة وغيره من الحفاظ رووه عن أنس كذلك ، فالاختلاف فيه على أنس نفسه ، قال : فلعله سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم غيره كيف يهل بالقران ، فظن أنه أهل عن نفسه ، وأجاب عن حديث حفصة بما تقدم عن الشافعي ، وعن حديث عمر بأن جماعة رووه بلفظ : صل في هذا الوادي وقل عمرة في حجة ، وهؤلاء أكثر عددا ممن رواه وقل ، فقال ذلك ليكون إذنا في القران لا أمرا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حال نفسه .

                                                                                                          وعن حديث عمران بأن المراد إذنه لأصحابه في القران بدليل روايته الأخرى : أنه - صلى الله عليه وسلم - تمتع ، فإن مراده بكل ذلك إذنه .

                                                                                                          وعن حديث البراء : بأنه ساقه في قصة علي ، وقد رواها أنس ، يعني في الصحيحين ، وجابر في مسلم ، وليس فيها لفظ : وقرنت .

                                                                                                          وأجاب عن باقيها بما حاصله أنه أذن في ذلك ، لا أنه فعله في نفسه .

                                                                                                          وقال الخطابي : اختلفت الرواية فيما كان - صلى الله عليه وسلم - به محرما ، والراجح أنه أفرد الحج ، وأن كلا أضاف إليه ما أمر به اتساعا ، وهذا هو المشهور عند المالكية والشافعية ومر له مزيد .

                                                                                                          وقال النووي : الصواب أنه كان قارنا ، ويؤيده أنه لم يعتمر في تلك السنة بعد الحج ، ولا شك أن القران أفضل من الإفراد الذي لم يعتمر [ ص: 520 ] في سنته ، ولم يقل أحد أن الحج وحده أفضل من القران ، وتعقبه الحافظ بأن الخلاف ثابت قديما وحديثا ، أما قديما فالثابت عن عمر أنه قال : إن أتم لحجكم ولعمرتكم أن تنشئوا لكل منهما سفرا . وعن ابن مسعود نحوه ، أخرجه ابن أبي شيبة .

                                                                                                          وأما حديثا ، فقد صرح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد ، ولو لم يعتمر في تلك السنة ، انتهى . وهو مقتضى مذهب مالك .

                                                                                                          وهذا الحديث رواه البخاري عن إسماعيل ، وعبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى ، وأبو داود عن القعنبي ، ومسلم أيضا من رواية خالد بن مخلد ، كلهم عن مالك به ، وتابعه عبيد الله بن عمر في الصحيحين ، وموسى بن عقبة في البخاري ، وابن جريج في مسلم عن نافع .




                                                                                                          الخدمات العلمية