الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال : ) وإذا اختلف الزوجان في المهر فقال الزوج : ألف ، وقالت المرأة : ألفان ففي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى : يحكم مهر مثلها ، وفي قول أبي يوسف وابن أبي ليلى رحمهما الله تعالى : القول قول الزوج إلا أن يأتي بشيء مستنكر جدا ، وجه قولهما : أنهما اختلفا في بدل عقد لا يتحمل الفسخ بالإقالة فيكون القول قول المنكر للزيادة كما لو اختلفا في بدل الخلع ، والعتق بمال ، ولا معنى للمصير إلى تحكيم مهر المثل ; لأن وجود مهر المثل عند عدم التسمية ، وهنا مع اختلافهما اتفقا على أصل المسمى ، وذلك مانع وجوب مهر المثل ، ولا معنى للتحالف بينهما ; لأن التحالف لفسخ العقد بعد تمامه ، والنكاح لا يتحمل هذا النوع من الفسخ ، والدليل عليه أنه لو طلقها قبل الدخول كان لها نصف ما يقوله الزوج ، ولا يصار إلى تحكيم المتعة فكذا في حال قيام العقد ; لأن المتعة بعد الطلاق موجب نكاح لا تسمية فيه كمهر المثل قبله ، وأما أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا لصحة النكاح في الشرع موجب ، وهو مهر المثل لا تقع البراءة عنه إلا بتسمية صحيحة فعند الاختلاف في المسمى يجب المصير إلى الموجب الأصلي كالصباغ ورب الثوب إذا اختلفا في الأجر فإنه يصار إلى تحكيم قيمة الصبغ لهذا المعنى ، وهذا بخلاف القصار ورب الثوب إذا اختلفا في الأجر ; لأنه ليس لعمل القصار موجب بدون التسمية ثم النكاح عقد محتمل للفسخ فإنه يفسخ بخيار العتق ، وبخيار البلوغ وعدم الكفاءة ، ويستحق فيه التسليم ، والتسلم فيشبه البيع من هذا الوجه فإذا وقع الاختلاف في البدل يجب التحالف [ ص: 66 ] بخلاف الطلاق بمال ، والعتق بمال .

وأما إذا طلقها قبل الدخول يصار إلى تحكيم المتعة على ما نص عليه في الجامع ، ووضع المسألة فيما إذا كان الاختلاف بينهما في المائة ، والمائتين فأما في كتاب النكاح فإنه وضع المسألة فيما إذا كان الاختلاف في الألف ، والألفين ، والمتعة لا تزيد على خمسمائة فلهذا قال : لها نصف ما يقوله الزوج على أنه يجوز أن يصار إلى مهر المثل قبل الطلاق ، ولا يصار إلى المتعة بعد الطلاق كما إذا تزوجها على ألف وكرامة يكون لها نصف الألف بعد الطلاق ، ويكون لها كمال مهر المثل قبل الطلاق إذا لم يف بما شرط لها من الكرامة ، وفي معنى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى إلا أن يأتي بشيء مستنكر جدا قولان لمشايخنا .

أحدهما : أن يدعي ما دون العشرة فإنه مستنكر شرعا ; لأنه لا مهر أقل من عشرة دراهم ، والأصح أن مراده أن يدعي شيئا قليلا يعلم أنه لا يتزوج مثل تلك المرأة على ذلك المهر عادة ، فإنه ذكر هذا اللفظ في البيع أيضا فيما إذا اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة ، فالقول قول المشتري إلا أن يأتي بشيء مستنكر جدا ، وليس في الثمن تقدير شرعا ، وأما بيان قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فقد كان الكرخي يقول : يتحالفان في الابتداء ثم يحكم مهر المثل بعد ذلك .

وكان أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول : يحكم مهر المثل أولا فإن كان مهر مثلها ألفين أو أكثر ، فالقول قولها مع يمينها ; لأن الظاهر يشهد لها ، وإن كان ألف درهم أو أقل فالقول قول الزوج مع يمينه ; لأن الظاهر يشهد للزوج ، وإن كان مهر مثلها ألفا وخمسمائة ، فحينئذ يتحالفان ثم يقضى لها بمقدار مهر مثلها ; لأن المصير إلى التحالف إذا لم يمكن ترجيح قول أحدهما على الآخر بشهادة الظاهر له ، وذلك في هذا الموضع ، والأصح ما ذكره الكرخي رحمه الله تعالى ; لأن ظهور مهر المثل عند عدم التسمية ، وذلك إنما يكون بعد التحالف فإن ما يدعي كل واحد منهما من المسمى ينتفي بيمين صاحبه فيبقى نكاحا بلا تسمية فيكون موجبه مهر المثل فعرفنا أنه لا بد من المصير إلى التحالف في الابتداء ، وأصل النكاح ، وإن كان لا يحتمل الفسخ بالتحالف ، فالتسمية تحتمل الانتفاء ، فإذا تحالفا نظر إلى مهر مثلها فإن كان ألفين أو أكثر فلها ألفان ، وإن كان ألفا أو أقل فلها الألف ; لإقرار الزوج به ، وإن كان ألفا وخمسمائة فلها مهر المثل ، وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه ، وأيهما أقام البينة وجب قبول بينته ; لأنه نور دعواه بالحجة فإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة ; لأنها تثبت الزيادة ، والبينة مشروعة للإثبات ، وكذلك لو مات أحدهما قبل أن يتفقا ثم وقع الاختلاف [ ص: 67 ] بين الحي وورثة الميت فهو وورثة الميت على ما ذكرنا ; لأن الوارث يقوم مقام المورث .

فأما إذا ماتا معا فهنا فصلان .

( أحدهما ) : أن يتفق الورثة أنه لم يكن في العقد تسمية .

( والثاني ) : أن يختلف الورثة في المسمى .

أما في الأول : فإنه يقضى لورثتها في تركة الزوج بمهر المثل في القياس ، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ; لأن مهر المثل وجب بنفس العقد كالمسمى فكما لا يسقط المسمى بعد موتهما فكذلك مهر المثل ، ألا ترى أن بعد موت أحدهما لا يسقط مهر المثل ، وورثة الميت يقومون مقامه في ذلك فكذلك بعد موتهما ، واستحسن أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال : لا يقضى بشيء ، واستدل في الكتاب فقال : أرأيت لو ادعى ورثة علي رضي الله عنه على ورثة عثمان رضي الله عنه مهر أم كلثوم أكنت تقضي فيه بشيء ، وهذا إشارة إلى أنه إنما يفوت هذا بعد تقادم العهد ; لأن مهر المثل يختلف باختلاف الأوقات ، فإذا تقادم العهد ، وانقرض أهل ذلك العصر يتعذر على القاضي الوقوف على مقدار مهر المثل ، وعلى هذا الطريق إذا لم يكن العهد متقادما يقضى بمهر مثلها .

والطريق الآخر : أن المستحق بالنكاح ثلاثة أشياء : المسمى ، وهو الأقوى ، والنفقة وهي الأضعف ، ومهر المثل ، وهو متوسط على ما قررنا ، فالمسمى لقوته لا يسقط بموتهما وموت أحدهما ، والنفقة لضعفها تسقط بموتهما وبموت أحدهما ، ومهر المثل يتردد بين ذلك فيسقط بموتهما ، ولا يسقط بموت أحدهما ; لأن ما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما ، ألا ترى أن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا أن مهر المثل هل يسقط بموت أحدهما فيكون ذلك اتفاقا منهم على أنه يسقط بموتهما .

فأما إذا وقع الاختلاف في مقدار المسمى بعد موتهما فعلى قول محمد رحمه الله تعالى : يصار إلى تحكيم مهر المثل ; لأن من أصله أن مهر المثل لا يسقط بموتهما فيكون هذا كالاختلاف الواقع بين الزوجين ، وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى القول قول ورثة الزوج إلا أن يأتوا بشيء مستنكر جدا ، كما لو وقع الاختلاف في حياتهما ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى القول قول ورثة الزوج أيضا ; لأن مهر المثل عنده لا يبقى بعد موتهما فلا يمكن المصير إلى التحالف وتحكيم مهر المثل ، فيبقى ظاهر الدعوى ، والإنكار فيكون القول قول ورثة الزوج ، إلا أن يقوم لورثة المرأة بينة على ما ادعوا من المسمى فحينئذ يقضى بذلك ، ويستوي في هذا كله إن دخل بها أو لم يدخل بها ; لأن ما قبل الدخول إنما يفارق ما بعد الدخول عند الطلاق أما عند الموت لا فرق ; لأن النكاح ينتهي بالموت .

التالي السابق


الخدمات العلمية