الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      ( فصل ) وأما العامر فضربان : [ ص: 241 ] أحدهما ما تعين مالكه فلا نظر للسلطان فيه إلا ما يتعلق بتلك الأرض من حقوق بيت المال إذا كانت في دار الإسلام سواء كانت لمسلم أو ذمي ، فإن كانت في دار الحرب التي لا يثبت للمسلمين عليها يد فأراد الإمام أن يقطعها ليملكها المقطع عند الظفر بها جاز .

                                      { وقد سأل تميم الداري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطعه عيون البلد الذي كان منه بالشام قبل فتحه ففعل . وسأله أبو ثعلبة الخشني أن يقطعه أرضا كانت بيد الروم فأعجبه ذلك ، وقال : ألا تسمعون ما يقول ؟ فقال : والذي بعثك بالحق ليفتحن عليك . فكتب له بذلك كتابا } .

                                      وهكذا لو استوهب من الإمام مال في دار الحرب وهو على ملك أهلها أو استوهب أحد من سبيها وذراريها ليكون أحق به إذا فتحها جاز وصحت العطية فيه مع الجهالة بها لتعلقها بالأمور العامة . روى الشعبي : { أن حريم بن أوس بن حارثة الطائي . قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فتح الله عليك الحيرة فأعطني بنت نفيلة } .

                                      فلما أراد خالد صلح أهل الحيرة قال له حريم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لي بنت نفيلة فلا تدخلها في صلحك وشهد له بشير بن سعد محمد بن مسلمة فاستثناها من الصلح ودفعها إلى حريم فاشتريت منه بألف درهم وكانت عجوزا قد حالت عن عهده فقيل له ويحك لقد أرخصتها كان أهلها يدفعون إليك ضعف ما سألت بها فقال : ما كنت أظن أن عددا يكون أكثر من ألف .

                                      وإذا صح الإقطاع والتمليك على هذا الوجه نظر حال الفتح ، فإن كان صلحا خلصت الأرض لمقطعها ، وكانت خارجة عن حكم الصلح بالإقطاع السابق ، وإن كان الفتح عنوة كان المستقطع والمستوهب أحق بما استقطعه واستوهبه من الغانمين ونظر في الغانمين ، فإن علموا بالإقطاع والهبة قبل الفتح فليس [ ص: 242 ] لهم المطالبة بعوض ما استقطع ووهب ; وإن لم يعلموا حتى فتحوا عاوضهم الإمام عنه بما يستطيب به نفوسهم كما يستطيب نفوسهم عن غير ذلك من الغنائم . وقال أبو حنيفة : لا يلزمه استطابة نفوسهم عنه ولا عن غيره من الغنائم إذا رأى المصلحة في أخذها منهم .

                                      والضرب الثاني من العامر ما لم يتعين مالكوه ولم يتميز مستحقوه ، وهو على ثلاثة أقسام : أحدها ما اصطفاه الإمام لبيت المال من فتوح البلاد ، إما بحق الخمس فيأخذه باستحقاق أهله له ، وإما بأن يصطفيه باستطابة نفوس الغانمين عنه فقد اصطفى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أرض السواد أموال كسرى وأهل بيته وما هرب عنه أربابه أو هلكوا فكان مبلغ غلتها تسعة آلاف ألف درهم كان يصرفها في مصالح المسلمين ولم يقطع شيئا منها ، ثم إن عثمان رضي الله عنه أقطعها ; لأنه رأى إقطاعها أوفر لغلتها من تعطيلها وشرط على من أقطعها إياه أن يأخذ منه حق الفيء فكان ذلك منه إقطاع إجارة لا إقطاع تمليك فتوفرت غلتها حتى بلغت على ما قيل خمسين ألف ألف درهم فكان منها صلاته وعطاياه ثم تناقلها الخلفاء بعده فلما كان عام الجماجم سنة اثنتين وثمانين في فتنة ابن الأشعث أحرق الديوان وأخذ كل قوم ما يليهم ، فهذا النوع من العامر لا يجوز إقطاع رقبته ; لأنه قد صار باصطفائه لبيت المال ملكا لكافة المسلمين فجرى على رقبته حكم الوقوف المؤبدة ، وصار استغلاله هو المال الموضوع في حقوقه . والسلطان فيه بالخيار على وجه النظر في الأصلح بين أن يستغله لبيت المال كما فعل عمر رضي الله عنه وبين أن يتخير له من ذوي المكنة والعمل من يقوم بعمارة رقبته بخراج يوضع عليه مقدر بوفور الاستغلال ونقصه كما فعل عثمان رضي الله عنه ويكون الخراج أجرة تصرف وجوه المصالح إلا أن يكون مأخوذا بالخمس فيصرف في أهل الخمس ، فإن كان ما وضعه من الخراج مقاسمة على الشطر من الثمار والزروع جاز في النخل كما { ساقى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على النصف من ثمار النخل } ، [ ص: 243 ] وجوازها في الزرع معتبر باختلاف الفقهاء في جواز المخابرة ، فمن أجازها أجاز الخراج بها ، ومن منع منها منع من الخراج بها ، وقيل بل يجوز الخراج بها ، وإن منع المخابرة لما يتعلق بها من عموم المصالح التي يتسع حكمها عن أحكام العقود الخاصة ، ويكون العشر واجبا في الزرع دون الثمر ; لأن الزرع ملك لزارعيه ، والثمرة ملك لكافة المسلمين مصروفة في مصالحهم .

                                      والقسم الثاني من العامر : أرض الخراج فلا يجوز إقطاع رقابهم تمليكا لأنها تنقسم على ضربين ضرب يكون رقابهم وقفا وخراجها أجرة ، فتمليك الوقف لا يصح بإقطاع ولا بيع ولا هبة . وضرب يكون رقابها ملكا ، وخراجها جزية فلا يصح إقطاع مملوك تعين مالكوه ، فأما إقطاع خراجها فنذكره بعد في إقطاع الاستغلال .

                                      والقسم الثالث : ما مات عنه أربابه ولم يستحقه وارثه بفرض ولا تعصيب فينتقل إلى بيت المال ميراثا لكافة المسلمين مصروفا في مصالحهم . وقال أبو حنيفة ميراث من لا وارث له مصروف في الفقراء خاصة صدقة عن الميت ، ومصرفه عند الشافعي في وجوه المصالح أعم لأنه قد كان من الأملاك الخاصة وصار بعد الانتقال إلى بيت المال من الأملاك العامة . وقد اختلف أصحاب الشافعي فيما انتقل إلى بيت المال من رقاب الأموال هل يصير وقفا عليه بنفس الانتقال إليه ؟ على وجهين : أحدهما : أنها تصير وقفا لعموم مصرفها الذي لا يختص بجهة ، فعلى هذا لا يجوز بيعها ولا إقطاعها .

                                      والوجه الثاني لا تصير وقفا حتى يقفها الإمام ، فعلى هذا يجوز له بيعها إذا رأى بيعها أصلح لبيت المال ويكون ثمنها مصروفا في عموم المصالح ، وفي ذوي الحاجات من أهل الفيء وأهل الصدقات ، وأما إقطاعها على هذا الوجه فقد قيل بجوازه ; لأنه لما جاز بيعها وصرف ثمنها إلى من يراه من ذوي الحاجات وأرباب المصالح جاز إقطاعها له ، ويكون تمليك رقبتها كتمليك ثمنها وقيل : إن إقطاعها لا يجوز وإن جاز بيعها لأن البيع معاوضة وهذا الإقطاع صلة والأثمان إذا صارت ناضة لها حكم يخالف في العطايا حكم الأصول الثابتة فافترقا ; وإن كان الفرق بينهما ضعيفا ، وهذا الكلام في إقطاع التمليك .

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية