الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب القران وهو أفضل [ ص: 530 ]

لحديث " { أتاني الليلة آت من ربي وأنا بالعقيق فقال : يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا } " ولأنه أشق والصواب أنه عليه الصلاة والسلام أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لبيان الجواز فصار قارنا ( ثم التمتع ثم الإفراد والقران ) لغة الجمع بين شيئين وشرعا ( أن يهل ) أي يرفع صوته بالتلبية ( بحجة وعمرة معا ) حقيقة أو حكما بأن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج قبل أن يطوف لها أربعة أشواط ، أو عكسه بأن يدخل إحرام العمرة على الحج قبل أن يطوف للقدوم [ ص: 531 ] وإن أساء ، أو بعده وإن لزمه دم ( من الميقات ) إذ القارن لا يكون إلا آفاقيا ( أو قبله في أشهر الحج أو قبلها ويقول ) إما بالنصب والمراد به النية ، أو مستأنف والمراد به بيان السنة ، إذ النية بقلبه تكفي كالصلاة مجتبى ( بعد الصلاة : اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني ) ويستحب تقدم العمرة في الذكر لتقدمها في الفعل

التالي السابق


باب القران

أخره عن الإفراد وإن كان أفضل لتوقف معرفته على معرفة الإفراد ( قوله هو أفضل ) أي من التمتع وكذا من الإفراد بالأولى ، وهذا عند الطرفين . وعند الثاني هو والتمتع سواء قهستاني ، والكلام في الآفاقي ، وإلا فالإفراد أفضل كما سيأتي ، وعند مالك التمتع أفضل . وعند الشافعي الإفراد أي إفراد كل واحد من الحج والعمرة بإحرام على حدة كما جزم به في النهاية والعناية والفتح خلافا للزيلعي . قال في الفتح أما مع الاقتصار على أحدهما فلا شك أن القران أفضل بلا خلاف .

وفي البحر : وما روي عن محمد أنه قال : حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل عندي من القران فليس بموافق لمذهب الشافعي فإنه يفضل الإفراد مطلقا ومحمد إنما فضله إذا اشتمل على سفرين ، خلافا لما فهمه الزيلعي من أنه موافق للشافعي ثم منشأ الخلاف اختلاف الصحابة في حجته عليه الصلاة والسلام . قال في البحر : وقد أكثر الناس الكلام وأوسعهم نفسا في ذلك الإمام الطحاوي ، فإنه تكلم في ذلك زيادة على ألف ورقة ا هـ . ورجح علماؤنا أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا ، إذ بتقديره يمكن الجمع بين الروايات ، بأن من روى الإفراد سمعه يلبي بالحج وحده ، ومن روى التمتع سمعه يلبي بالعمرة وحدها ، ومن روى القران سمعه يلبي بهما ، والأمر الآتي له عليه الصلاة والسلام فإنه لا بد له من امتثال ما أمر به الذي هو وحي ، وقد أطال في الفتح في بيان تقديم أحاديث القران فارجع إليه . [ تنبيه ]

اختار العلامة الشيخ عبد الرحمن العمادي في منسكه التمتع لأنه أفضل من الإفراد وأسهل من القران ، لما على القارن من المشقة في أداء النسكين ، لما يلزمه بالجناية من الدمين ، وهو أحرى لأمثالنا لإمكان المحافظة على صيانة إحرام الحج من الرفث ونحوه فيرجى دخوله في الحج المبرور المفسر بما لا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه ، وذلك لأن القارن والمفرد يبقيان محرمين أكثر من عشرة أيام ، وقلما يقدر الإنسان على الاحتراز فيها من هذه المحظورات سيما الجدال مع الخدم والجمال ، والمتمتع إنما يحرم بالحج يوم التروية من الحرم فيمكنه الاحتراز في ذينك اليومين فيسلم حجه إن شاء الله تعالى . قال شيخ مشايخنا الشهاب أحمد المنيني في مناسكه : وهو كلام نفيس يريد به أن القران في حد ذاته أفضل من التمتع ، لكن قد يقترن به ما يجعله مرجوحا ، فإذا دار الأمر بين أن يقرن ولا يسلم عن المحظورات وبين أن يتمتع ويسلم عنها ، فالأولى التمتع ليسلم حجه ويكون مبرورا لأنه وظيفة العمر . ا هـ .

قلت : ونظيره ما قدمناه عن المحقق ابن أمير حاج من تفضيله تأخير الإحرام إلى آخر المواقيت لمثل هذه العلة وهذا كله بناء على أن المراد من حديث " { من حج فلم يرفث } إلخ من ابتداء الإحرام لأنه قبله لا يكون حاجا [ ص: 530 ] كما قدمنا التصريح به عن النهر عند قوله فاتق الرفث والله تعالى أعلم .

( قوله لحديث إلخ ) لم أر من ذكر الحديث بهذا اللفظ ، نعم قال في الهداية : ولنا قول عليه الصلاة والسلام " { يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا } " وأسنده في الفتح إلى الطحاوي في شرح الآثار . وقال : وروى أحمد من حديث أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " { أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج } " وفي صحيح البخاري عن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول " { أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال : صل في هذا الوادي المبارك ركعتين ، وقل حجة في عمرة } " .

قلت : وهو في شرح الآثار كذلك ، فإن كان ما ذكره الشارح مخرجا فيها ، وإلا فهو ملفق من هذين الحديثين وضمير فقال يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا إلى الآتي ( قوله ولأنه أشق ) لكونه أدوم إحراما وأسرع إلى العبادة ، وفيه جمع بين النسكين ط عن المنح ( قوله والصواب إلخ ) نقله في البحر عن النووي في شرح المهذب ط ( قوله لبيان الجواز ) إنما قال ذلك لأنه مكروه كما يأتي ط وكذا هو مكروه عند الشافعية كما في البحر عن النووي ( قوله ثم التمتع ) أي بقسميه : أي سواء ساق الهدي أم لا ط ( قوله ثم الإفراد ) أي بالحج أفضل من العمرة وحدها ، كذا في النهر ط ( قوله لغة الجمع بين شيئين ) أي بين حج وعمرة أو غيرهما . قال في الصحاح : قرن بين الحج والعمرة قرانا بالكسر ، وقرنت البعيرين أقرنهما قرانا : إذا جمعتهما في حبل واحد وذلك الحبل يسمى القران ، وقرنت الشيء بالشيء : وصلته ، وقرنته صاحبته ومنه قران الكواكب ( قوله أي يرفع صوته بالتلبية ) تفسير لحقيقة الإهلال ، وإلا فالمراد هنا التلبية مع النية ، وإنما عبر عن ذلك بالإهلال للإشارة إلى أن رفع الصوت بها مستحب بحر ( قوله معا حقيقة ) بأن يجمع بينهما إحراما في زمان واحد ، أو حكما بأن يؤخر إحرام إحداهما عن إحرام الأخرى ويجمع بينهما أفعالا ، فهو قران بين الإحرامين حكما .

وقد عد في اللباب للقران سبعة شروط .

الأول : أن يحرم بالحج قبل طواف العمرة كله أو أكثره ، فلو أحرم به بعد أكثر طوافها لم يكن قارنا .

الثاني : أن يحرم بالحج قبل إفساد العمرة .

الثالث : أن يطوف للعمرة كله أو أكثره قبل الوقوف بعرفة ، فلو لم يطف لها حتى وقف بعرفة بعد الزوال ارتفعت عمرته وبطل قرانه وسقط عنه دمه ، ولو طاف أكثره ثم وقف أتم الباقي منه قبل طواف الزيارة .

الرابع : أن يصونهما عن الفساد ، فلو جامع قبل الوقوف وقبل أكثر طواف العمرة بطل قرانه وسقط عنه الدم ، وإن ساقه معه يصنع به ما شاء .

الخامس : أن يطوف للعمرة كله أو أكثره في أشهر الحج ، فإن طاف الأكثر قبل الأشهر لم يصر قارنا .

السادس : أن يكون آفاقيا ولو حكما ، فلا قران لمكي إلا إذا خرج إلى الآفاق قبل أشهر الحج .

السابع عدم فوات الحج ، فلو فاته لم يكن قارنا وسقط الدم ، ولا يشترط لصحة القران عدم الإلمام بأهله ، فيصح من كوفي رجع إلى أهله بعد طواف العمرة ، وتمامه فيه ( قوله قبل أن يطوف لها أربعة أشواط ) فلو طاف [ ص: 531 ] الأربعة ثم أحرم بالحج لم يكن قارنا كما ذكرناه ، بل يكون متمتعا إن كان طوافه في أشهر الحج ، فلو قبلها لا يكون قارنا ولا متمتعا كما في شرح اللباب ( قوله وإن أساء ) أي وعليه دم شكر لقلة إساءته ، ولعدم وجوب رفض عمرته ، شرح اللباب ( قوله أو بعده ) أي بعدما شرع فيه ولو قليلا أو بعد إتمامه ، سواء كان الإدخال قبل الحلق أو بعده ولو في أيام التشريق ولو بعد الطواف لأنه بقي عليه بعض واجبات الحج فيكون جامعا بينهما فعلا . والأصح وجوب رفضها وعليه الدم والقضاء ، وإن لم يرفض فدم جبر لجمعه بينهما كما في شرح اللباب وسيأتي تفصيل المسألة في آخر الجنايات ( قوله إذ القارن لا يكون إلا آفاقيا ) أي والآفاقي إنما يحرم من الميقات أو قبله ، ولا تحل مجاوزته بغير إحرام ; حتى لو جاوزه ثم أحرم لزمه دم ما لم يعد إليه محرما كما سيأتي في باب مجاوزة الميقات بغير إحرام ح .

والحاصل أنه يصح من الميقات وقبله وبعده ، لكن قيد به لبيان أن القارن لا يكون إلا آفاقيا . قال في البحر وهذا أحسن مما في الزيلعي من أن التقييد بالميقات اتفاقي ( قوله أو قبله ) أي ولو من دويرة أهله ، وهو الأفضل لمن قدر عليه ، وإلا فيكره كما مر ، وقوله أو قبلها : أي قبل أشهر الحج ، لكن تقديمه على الميقات الزماني مكروه مطلقا كما مر أيضا ، وهذا في الإحرام ; وأما الأفعال فلا بد من أدائها في أشهر الحج كما قدمناه آنفا ، بأن يؤدي أكثر طواف العمرة وجميع سعيها وسعي الحج فيها ، لكن ذكر في المحيط أنه لا يشترط في القران فعل أكثر أشواط العمرة في أشهر الحج ، وكأن مسنده ما روي عن محمد : أنه لو طاف لعمرته في رمضان فهو قارن ، ولا دم عليه إن لم يطف لعمرته في أشهر الحج ، وأجاب في الفتح بأن القران في هذه الرواية بمعنى الجمع لا القران الشرعي ، بدليل أنه نفى لازم القران بالمعنى الشرعي وهو لزوم الدم شكرا ، ونفي اللازم الشرعي نفي لملزومه ، وتمامه في البحر ، لكن قال في شرح اللباب : ويظهر لي أنه قارن بالمعنى الشرعي كما هو المتبادر من إطلاق محمد وغيره أنه قارن ، بدليل أنه إذا ارتكب محظورا يتعدد عليه الجزاء ، وغايته أنه ليس عليه هدي شكر لأنه لم يقع على الوجه المسنون ا هـ تأمل .

( قوله إما بالنصب إلخ ) حاصله كما في البحر أن قوله ويقول إن كان منصوبا عطفا على يهل يكون من تمام الحد فيراد بالقول النية لا التلفظ لأنه غير شرط ، وإن كان مرفوعا مستأنفا يكون بيانا للسنة ، فإن السنة للقارن التلفظ بذلك ، وتكفيه النية بقلبه . وأورد في النهر على الأول أن الإرادة غير النية ، فالحق أنه ليس من الحد في شيء ا هـ يعني أن قوله إني أريد إلخ ليس نية وإنما هو مجرد دعاء ، وإنما النية هي العزم على الشيء والعزم غير الإرادة ، وهو ما يكون بعد ذلك عند التلبية كما مر تقريره في باب الإحرام تأمل . على أنه لو أريد به النية فلا ينبغي إدخالها في الحد لأنها شرط خارج عن الماهية . وقد يجاب بأن الماهية الشرعية هنا لا وجود لها بدون النية تأمل ، وقدمنا هناك الكلام على حكم التلفظ بالنية فافهم ( قوله ويستحب إلخ ) وإنما أخرها المصنف إشعارا بأنها تابعة للحج في حق القارن ، ولذلك لا يتحلل عن إحرامها بمجرد الحلق بعد سعيها قهستاني .




الخدمات العلمية