الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1024 وفي هذا الباب :

                                                                                                                        979 - مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، أنه قال : قدم على أبي بكر الصديق مال من البحرين . فقال : من كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأي أو عدة ، فليأتني . فجاءه جابر بن عبد الله ، فحفن له ثلاث حفنات .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        20646 - قال أبو عمر : هذا الحديث لم يختلف عن مالك في انقطاعه ، وهو [ ص: 348 ] حديث متصل من وجوه صحاح ، عن جابر .

                                                                                                                        20647 - رواه عنه جماعة منهم أبو جعفر محمد بن علي ، ومحمد ابن المنكدر وعبد الله بن محمد بن عقيل ، وأبو الزبير ، والشعبي .

                                                                                                                        20648 - وقد ذكرنا كثيرا من طرقه في " التمهيد " .

                                                                                                                        20649 - من أحسنها : ما حدثناه خلف بن قاسم الحافظ ، قال : حدثنا أحمد أبو الحسين ابن جعفر الزيات ، قال : حدثنا يوسف بن زيد القراطيسي ، قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن المنكدر قال : سمعت جابر بن عبد الله .

                                                                                                                        20650 - قال سفيان : وحدثنا عمرو بن دينار ، عن محمد بن علي ، عن جابر بن عبد الله - يزيد أحدهما على الآخر - قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو قد جاءنا مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا " ، وقال بيديه جميعا ، فما قدم مال من البحرين حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قدم مال من البحرين ، قال أبو بكر : من كان له على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دين أو عدة ، فليأتنا .

                                                                                                                        قال جابر : فأتيت أبا بكر ، فقلت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدني إذا قدم مال من البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا ، قال : فحثى لي أبو بكر حثية ، ثم قال لي : عدها ، فإذا هي خمس مائة : قال : خذ مثلها مرتين
                                                                                                                        .

                                                                                                                        [ ص: 349 ] 20651 - وزاد فيه ابن المنكدر : ثم أتيت أبا بكر بعد ذلك ، فردني ، فسألته ، فردني ، فقلت في الثالثة : سألتك مرتين ، فلم تعطني ؟ فقال : إنك لم تأتني مرة إلا وأنا أريد أعطيك وأي داء أدوأ من البخل .

                                                                                                                        20652 - وفي هذا من الفقه : أن العدة واجب الوفاء بها وجوب سنة ، وذلك من أخلاق أهل الإيمان .

                                                                                                                        20653 - وقد جاء في الأثر أي المؤمن واجب ، أي واجب في أخلاق المؤمنين .

                                                                                                                        20654 - وإنما قلنا : إن ذلك ليس بواجب فرضا لإجماع الجميع من الفقهاء على أن من وعد بمال ما كان لم يضرب به مع الغرماء كذلك قلنا : إيجاب الوفاء به حسن في المروءة ، ولا يقضى به .

                                                                                                                        20655 - ولا أعلم خلافا أن ذلك مستحسن ، يستحق صاحبه الحمد والشكر والمدح على الوفاء به ، ويستحق على الخلف في ذلك الذم .

                                                                                                                        20656 - وقد أثنى الله - عز وجل - على من صدق وعده ، ووفى بنذره ، وكفى بهذا مدحا وبما خالفه ذما .

                                                                                                                        20657 - والوأي : العدة .

                                                                                                                        20658 - ولما كان هذا من مكارم الأخلاق ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس [ ص: 350 ] بها وأنذرهم إليها ، وكان أبو بكر خليفته أدى ذلك عنه ، وقام مقامه من الموضع الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقيمها منه ولذلك لم يسأل أبو بكر الصديق البينة على ما ادعاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العدة ؛ لأن تلك العدة لم يكن شيئا ادعاه جابر في ذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما ادعى شيئا في بيت المال ، وإنما ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام .

                                                                                                                        20659 - واختلف الفقهاء في ما يلزم من العدة ، وما لا يلزم منها .

                                                                                                                        20660 - وكذلك اختلفوا في تأخير الدين الحال . هل يلزم أم لا يلزم ؟ وهو من هذا الباب :

                                                                                                                        20661 - فقال مالك وأصحابه : من أقرض رجلا مالا : دنانير ، أو دراهم ، أو شيئا مما يكال أو يوزن ، أو غير ذلك إلى أجل ، ثم طاع له ، فأخرجه إلى الأجل ، ثم أراد الانصراف في ذلك ، وأراده قبل الأجل لم يكن ذلك له ؛ لأن هذا مما يتقرب به إلى الله - عز وجل - ، وهو من باب الحسبة والصدقة التي لا يجوز الرجوع فيها .

                                                                                                                        20662 - قال أبو عمر : من الحجة لمالك - رحمه الله - عموم قوله تعالى : أوفوا بالعقود ، [ أول المائدة ] ، وقوله عليه السلام : " كل معروف صدقة " .

                                                                                                                        20663 - وأجمعوا أنه لا يتصرف في الصدقات ، فكذلك سائر الهبات .

                                                                                                                        20664 - قال مالك : وأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة ، فيقول له : نعم ، ثم يبدو له ألا يفعل ، فما أرى ذلك يلزمه .

                                                                                                                        [ ص: 351 ] 20665 - قال مالك : ولو كان ذلك في قضاء دين ، فسأله أن يقضيه عنه قال : نعم ، وثم رجال يشهدون عليه ، فما أحراه : أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان .

                                                                                                                        20666 - وفي سماع عيسى قلت لابن القاسم : إن باع رجل سلعة من رجل ، ثم قال له قبل البيع : بع ، ولا نقصان عليك قال : إذا يلزمه ذلك إن باع بنقصان .

                                                                                                                        20667 - وهو قول مالك .

                                                                                                                        20668 - قال عيسى : قلت له : رجل اشترى من رجل سلعة ، ونقده الثمن ، ثم جاءه يستوضعه ، فقال له : اذهب بع ، ولا نقصان عليك ، قال : لا بأس بهذا ، نقده أو لم ينقده ، إلا أن يقول له : انقدني وبع ، ولا نقصان عليك ، فهو الأخير فيه .

                                                                                                                        20669 - قال : قلت : لم ذلك ؟ قال : لأنه يكون فيه عيوب وخصوم حر .

                                                                                                                        20670 - وقال ابن القاسم : إذا وعد الغرماء ، فقال : أشهدكم أني قد وهبت لهذا من أين يؤدى إليكم ، فإن هذا يلزمه ، وإما أن يقول : نعم ، أنا أقبل ، ثم يبدو له ، فلا أرى ذلك عليه .

                                                                                                                        20671 - قال أبو بكر ابن اللباد : أخبرنا يحيى بن عمر ، عن إسحاق البرقي ، قال : سمعت أشهب يقول في رجل له ابنة بكر ، فقال لرجل : إن طلقت زوجتك ثلاثا ، فأنا أزوجك ابنتي ، فقال الرجل : اشهدوا أني قد طلقت زوجتي ثلاثا فبدا لأبي الجارية أن يزوجها منه ، فقال أشهب : فوعده ما خلفه ، ولا يلزمه إن يزوجه .

                                                                                                                        [ ص: 352 ] 20672 - قال ، أشهب : ولكن لو قال أبو الجارية : إن طلقت امرأتك ثلاثا ، فقد زوجتك ابنتي ، فقال الرجل : اشهدوا أني قد طلقت امرأتي ثلاثا فبدا لأبي الجارية أن يزوجها أن النكاح لازم له .

                                                                                                                        20673 - ويقال للرجل قد قيد أوجب لك النكاح إن أنت فرضت لها صداق مثلها ، ففرق أشهب بين قول الأب : أنا أزوجك ، وقد زوجتك ، وجعل قوله : أنا أزوجك عدة منه ، إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، وجعل قوله : قد زوجتك واجبا ، ليس له فيه رجوع ، وإذا فرض للجارية صداق مثلها .

                                                                                                                        20674 - وقال سحنون : اختلف أصحابنا في رجوع العدة ، وهو الذي عليه أكثرهم ، وهو الذي يلزمه من العدة في السلف والعارية ، أن يقول للرجل : اهدم دارك ، وأنا أسلفك ما تبنيها به ، أو اخرج إلى الحج ، وأنا أسلفك ما يبلغك ، أو اشتر سلعة كذا ، أو تزوج ، وأنا أسلفك ثمن السلعة ، وصداق المرأة ، وما أشبه ذلك مما يدخله فيه وينشبه به ، فهذا كله يلزمه .

                                                                                                                        20675 - قال : وإما أن يقول : أنا أسلفك ، وأنا أعطيك ، بغير شيء يلزم المأمور نفسه فإن هذا لا يلزمه منه شيء .

                                                                                                                        20676 - قال أصبغ : العدة إذا لم تكن في نفس البيع ، وكانت بعد فهي موضوعة عين المشتري ، وتلزم البائع .

                                                                                                                        20677 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والأوزاعي ، والشافعي ، وعبيد الله بن [ ص: 353 ] الحسن وسائر الفقهاء : أما العدة فلا يلزمه منها شيء ؛ لأنها منافع ، لم يقبضها في العارية ؛ لأنها طارئة ، وهي بغير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة ، لم تقبض ، فلصاحبها الرجوع فيها .

                                                                                                                        20678 - وأما القرض فقال أبو حنيفة وأصحابه : وسواء كان القرض إلى أجل ، أو إلى غير أجل ، له أن يأخذه متى أحب ، وكذلك العارية ، وما كان مثل ذلك كله ، ولا يجوز ، تأخير القرض البتة بحال ، ويجوز عندهم تأخير المغصوب وقيم المستهلكات إلا زفر فإنه قال : لا يجوز التأجيل في القرض ، ولا في الغصب واضطرب قول يوسف في هذا الباب .

                                                                                                                        20679 - وقال الشافعي : إذا أخره بدين حال ، فله أن يرجع فيه متى شاء ، سواء كان من قرض ، أو غير قرض ، أو من أي وجه كان ، فكذلك العارية وغيرها ، لأن ذلك من باب العدة والهبة غير المقبوضة ، وهبة ما لم يخلق .

                                                                                                                        20680 - قال أبو عمر : في هذا الحديث أيضا دليل على أن يقضي الإنسان عن غيره ، بغير إذنه ، فيبرأ ، وأن الميت يسقط ما كان عليه بقضاء من قضى عنه .

                                                                                                                        20681 - وذكر أهل السير أن النبي - عليه السلام - كان قد وعد عمرو بن العاص حين بعثه إلى المنذر بن ساوى أن يستعمله على صدقة سعد هديم ، فلما قدم بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمله عليها أبو بكر إنفاذا لرأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        20682 - أخبرنا يحيى بن يوسف الأشعري قال : حدثنا أحمد بن يوسف المكي ، قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن محمد الترمذي ، قال : حدثنا محمد بن [ ص: 354 ] عيسى بن سورة بن عيسى الترمذي قال : حدثنا واصل بن عبد الأعلى الكندي ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي جحيفة قال : أمر لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة عشر قلوصا ، فذهبنا نقبضها فأتانا موته ، فلم يعطونا شيئا ، فلما قام أبو بكر قال : من كانت له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة ، فليجئ فقمت إليه ، فأخبرته ، فأمر لنا بها .

                                                                                                                        20683 - قال أبو عمر : هو غريب ليس له غير هذا الإسناد .




                                                                                                                        الخدمات العلمية