الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 246 ] ( فصل : يشترك الكتاب والسنة والإجماع في سند ، ويسمى إسنادا ) لما فرغ من الأبحاث المختصة بكل واحد من الكتاب والسنة والإجماع .

شرع في الأبحاث المشتركة بين هذه الثلاثة . واعلم أن الكلام في الشيء إنما يكون بعد ثبوته ، ثم يتلوه ما يتوقف عليه من حيث دلالة الألفاظ . لأنه بعد الصحة يتوجه النظر إلى ما دل عليه ذلك الثابت ، ثم يتلوه ما يتوقف عليه من حيث استمرار الحكم وبقاؤه بأنه لم ينسخ ، ثم يتلوه ما يتوقف عليه الدليل ، وهو القياس ، من بيان أركانه وشروطه وأحكامه ; لأنه مفرع على الثلاثة الأول . وقوله " يشترك كذا . . . في سند " إشارة إلى أن المراد صحة وصولها إلينا لا ثبوتها في نفسها ، ولا كونها حقا ( وهو ) أي السند ( إخبار عن طريق المتن ) قولا أو فعلا تواترا أو آحادا . ولو كان الإخبار بواسطة مخبر واحد فأكثر عمن ينسب المتن إليه ( و ) يشترك الكتاب والسنة والإجماع أيضا ( في متن وهو المخبر به ) وأصل السند في اللغة : ما يستند إليه ، أو ما ارتفع من الأرض ، وأخذ المعنى الاصطلاحي من الثاني أكثر مناسبة . فلذلك يقال : أسندت الحديث ، أي رفعته إلى المحدث . فيحتمل أنه اسم مصدر من أسند يسند ، أطلق على المسند إليه ، وأن يكون موضوعا لما يسند إليه . والمسند - بكسر النون - من يروي الحديث بإسناده ، سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد روايته . وأما مادة المتن : فإنها في الأصل راجعة إلى معنى الصلابة . ويقال لما صلب من الأرض : متن ، والجمع متان . ويسمى أسفل الظهر من الإنسان والبهيمة متنا ، والجمع متون . فالمتن هنا : ما تضمنه الثلاثة ، التي هي الكتاب والسنة والإجماع من أمر ونهي ، وعام وخاص ، ومجمل ومبين ، ومنطوق ومفهوم ونحوها ( والخبر ) يحد عند الأكثر . ولهم فيه حدود كثيرة قل أن يسلم واحد منها من خدش . وأسلمها قولهم ( ما يدخله صدق وكذب ) وهو لأبي الخطاب في التمهيد ، وابن البنا وابن عقيل . وأكثر المعتزلة . ونقض بمثل محمد ومسيلمة صادقان . وبقول من يكذب دائما : كل أخباري كذب . فخبره هذا لا يدخله صدق ، وإلا [ ص: 247 ] كذبت أخباره وهو منها . ولا كذب وإلا كذبت أخباره مع هذا ، وصدق في قوله : كل أخباري كذب فتناقض . ويلزم الدور لتوقف معرفتها على معرفة الخبر ; ولأن الصدق : الخبر المطابق ، والكذب : ضده . وباباهما متقابلان فلا يجتمعان في خبر واحد . فيلزم امتناع الخبر أو وجوده مع عدم صدق الحد ، وبخبر الباري . وأجيب عن الأول : بأنه في معنى خبرين لإفادته حكما لشخصين . ولا يوصفان بهما . بل يوصف بهما الخبر الواحد من حيث هو خبر . ورد لا يمنع ذلك من وصفه بهما بدليل الكذب في قول القائل : كل موجود حادث . وإن أفاد حكما لأشخاص . وأجيب : بأنه كذب ; لأنه أضاف الكذب إليهما معا . وهو لأحدهما . وسلمه بعضهم . ولكن لم يدخله الصدق . وأجيب : بأن معنى الحد بأن اللغة لا تمنع القول للمتكلم به ، صدقت أم كذبت . ورد برجوعه إلى التصديق والتكذيب . وهو غير الصدق والكذب في الخبر . وقوله : كل أخباري كذب . إن طابق فصدق ، وإلا فكذب . ولا يخلو عنهما . وقال بعض أصحابنا : يتناول قوله ما سوى هذا الخبر . إذ الخبر لا يكون بعض المخبر . قال : ونص أحمد على مثله . ولا جواب عن الدور . وقد قيل : لا تتوقف معرفة الصدق والكذب على الخبر لعلمهما ضرورة . وأجيب عن الأخير وما قبله بأن المحدود جنس الخبر ، وهو قابل لهما كالسواد والبياض في جنس اللون . ورد ، لا بد من وجود الحد في كل خبر وإلا لزم وجود الخبر دون حده ، وأجيب : بأن الواو وإن كانت للجمع ، لكن المراد الترديد بين القسمين تجوزا ، لكن يصان الحد عن مثله . والحد الثاني للقاضي في العدة وغيره : أنه كل ما دخله الصدق والكذب . والثالث : للموفق في الروضة وغيره : ما يدخله التصديق أو التكذيب . فيرد عليهما الدور المتقدم . وما قبل الدور أيضا ، وبمنافاة " أو " للتعريف ; لأنها للترديد . فلهذا أتى الطوفي في مختصره وغيره بالواو ، وهو الحد الرابع . والحد الخامس لأبي الحسين المعتزلي : أن الخبر كلام يفيد بنفسه نسبة ، والكلمة عنده كلام ; لأنه حده بما انتظم [ ص: 248 ] من حروف مسموعة متميزة . السادس : لابن الحاجب في مختصره وغيره : هو الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية . قال : ونعني الخارج عن كلام النفس . فنحو : طلبت القيام حكم بنسبة لها خارجي ، بخلاف قم . قال الأصفهاني : ونعني بالكلام ما تضمن كلمتين بالإسناد . والمراد بالنسبة الخارجية : الأمر الخارج عن كلام النفس الذي تعلق به كلام النفس بالمطابقة واللا مطابقة . ويسمى ذلك الأمر : النسبة الخارجية . فيدخل في هذا التعريف : نحو طلبت القيام . فإنه قد حكم بنسبة لها خارجي ، وهو نسبة طلب القيام إلى المتكلم في الزمان الماضي ، وهذه النسبة الخارجية عن الحكم النفسي تعلق بها الحكم النفسي بالمطابقة واللا مطابقة بخلاف قم . فإنه متعلق بالحكم النفسي ، وليس له تعلق خارجي . الحد السابع للبرماوي : أن الخبر ما له من الكلام خارج . أي لنسبته وجود خارجي في زمن غير زمن الحكم بالنسبة . الحد الثامن لابن حمدان في المقنع : أنه قول يدل على نسبة معلوم إلى معلوم أو سلبها عنه ، ويحسن السكوت عليه . والقول الثاني - وهو أن الخبر لا يحد كالوجود والعدم للقائلين به - مأخذان : أحدهما : عسره . كما قيل في العلم . المأخذ الثاني : أن تصوره ضروري ; لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه موجود ، أي يعلم معنى قوله : أنا موجود ، من حيث وقوع النسبة فيه على وجه محتمل للصدق والكذب ، وهو خبر خاص . فمطلق الخبر الذي هو جزء هذا الخبر الخاص أولى أن يكون ضروريا ( ويطلق ) الخبر ( مجازا ) أي من جهة اللغة ( على دلالة معنوية وإشارة حالية ) كقولهم : عيناك تخبرني بكذا ، والغراب يخبر بكذا . قال أبو الطيب المتنبي :

وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية تكذب

( و ) يطلق الخبر ( حقيقة على الصيغة ) قال ابن قاضي الجبل : ويطلق حقيقة على قول مخصوص . وذلك لتبادر الفهم عند الإطلاق إلى ذلك ( وتدل ) الصيغة ( بمجردها ) أي من غير قرينة ( عليه ) أي على كونه خبرا عند القاضي أبي يعلى [ ص: 249 ] وغيره . وناقشه ابن عقيل . وقال : الصيغة . هي الخبر . فلا يقال له صيغة ، ولا هي دالة عليه . واختار كثير من أصحابنا ما قاله القاضي . وقالوا : لأن الخبر هو اللفظ والمعنى ، لا اللفظ فقط . فتقديره لهذا المركب جزء ، ويدل بنفسه على المركب . وإذا قيل : الخبر الصيغة فقط ، بقي الدليل هو المدلول عليه . وقالت المعتزلة : لا صيغة له ، ويدل اللفظ عليه بقرينة هي قصد المخبر إلى الإخبار . كالأمر عندهم . وقالت الأشعرية : هو المعنى النفسي . وقال الآمدي : يطلق على الصيغة وعلى المعنى ، والأشبه لغة : حقيقة في الصيغة لتبادرها عند الإطلاق ( ولا يشترط فيه ) أي في الخبر ( إرادة ) الإخبار ، بل هو مفيد بذاته إفادة أولية . واحترز بذلك عما يفيد باللازم أو بالقرينة . نحو أنا أطلب منك أن تخبرني بكذا ، أو أن تسقيني ماء ، أو أن تترك الأذى ونحوه . فإن هذا وإن كان دالا على الطلب ، لكنه لا بذاته بل هذه إخبارات لازمها الطلب ، ولا يسمى الأول استفهاما ، ولا الثاني أمرا ، ولا الثالث نهيا . وكذا قوله : أنا عطشان . كأنه قال : اسقني . فإن هذا طلب بالقرينة لا بذاته . إذا علمت ذلك ( فإتيانه ) أي مجيئه ( دعاء ) نحو غفر الله له ورحمه ( أو تهديدا ) نحو قوله تعالى سنفرغ لكم أيه الثقلان ونحو قول السيد لعبده : قد علمت أنك لا تنتهي عن سوء فعلك بدون المعاقبة ( أو أمرا ) نحو قوله سبحانه وتعالى { والمطلقات يتربصن } { والوالدات يرضعن } وأمرتك أن تفعل كذا ، وأنت مأمور بكذا ( مجاز ) لأن ذلك لا يدخله صدق ولا كذب . إذا تقرر هذا : فالخبر يشتمل على محكوم عليه ومحكوم به . ويعبر عنه البيانيون بمسند إليه ومسند ، ويعدونه إلى مطلق الكلام . والمناطقة يسمون الخبر قضية ، لما فيها من القضاء بشيء على شيء ، ويسمون المقضي عليه موضوعا ، والمقضي به محمولا ; لأنك تضع الشيء وتحمل عليه حكما ، ويقسمون القضية إلى : طبيعية ، وهي ما حكم فيها بأحد أمرين من حيث هو على الآخر من حيث هو ، لا بالنظر إلى أفراده نحو : الرجل خير من المرأة ، ونحو : الماء مرو .

وغير الطبيعية ، وهي التي قصد الحكم فيها على شخص في الخارج لا على الحقيقة من [ ص: 250 ] حيث هي ، ثم ينظر . فإن حكم فيها على جزء معين سميت شخصية . نحو زيد قائم ، أو لا على معين . فإن ذكر فيها سور الكل أو البعض في نفي أو إثبات .

سميت محصورة . نحو كل إنسان كاتب بالقوة ، وبعض الإنسان كاتب بالفعل ، ونحو لا شيء ، أو لا واحد من الإنسان بجماد ، وليس بعض الإنسان بكاتب بالفعل ، أو بعض الإنسان ليس كذلك ، وإن لم يكن للقضية سور ، والمراد الحكم فيها على الأفراد لا على الحقيقة من حيث هي : سميت مهملة ، نحو الإنسان في خسر . والحكم فيها على بعض ضروري ، فهو المتحقق . ولا يصدق عليها كلية ، لكن إذا كان فيها " أل " كما في : الإنسان كاتب ، يطلق عليها ابن الحاجب وغيره كثيرا أنها كلية ، نظرا إلى إفادة " أل " للعموم . فهي مثل : كل ، وإن لم يكن ذلك من اصطلاح المناطقة ( وغيره ) أي وغير الخبر من الكلام ( إنشاء وتنبيه ) وهما لفظان مترادفان على مسمى واحد ، سمي إنشاء لأنك ابتكرته من غير أن يكون موجودا قبل ذلك في الخارج ، وسمي تنبيها لأنك تنبه به على مقصودك ( ومنه ) أي من غير الخبر ( الأمر ) نحو قم ( ونهي ) نحو لا تقعد ( واستفهام ) نحو هل عندك أحد ؟ ( وتمن ) نحو ليت الشباب يعود ( وترج ) نحو قوله تعالى { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم } والفرق بين التمني والترجي : أن التمني يكون في المستحيل والممكن ، والترجي لا يكون إلا في الممكن ( وقسم ) نحو قوله تعالى : { تالله لأكيدن أصنامكم } ( ونداء ) نحو : قوله تعالى { يا أيها الناس اتقوا ربكم } ( وصيغة عقد ) نحو وهبت ونحو قبلت ( و ) صيغة ( فسخ ) نحو أقلت . وقيل : إن صيغ العقود والفسوخ ليست بإنشاء ، وأنها باقية على أصلها من الإخبار . فإن معنى قولك : الإخبار عما في قلبك . فإن أصل البيع : هو التراضي . فصار " بعت " ونحوها : لفظا دالا على الرضى بما في ضميرك .

فيقدر وجودها قبل اللفظ للضرورة . وغاية ذلك أن يكون مجازا . وهو أولى من النقل ودليل الصحيح من مذهبنا ومذهب أكثر العلماء : أن صيغة العقد والفسخ [ ص: 251 ] ونحوهما ، مما اقترن معناه بوجود لفظه ، نحو بعت واشتريت وأعتقت وطلقت وفسخت ونحوها مما يشابه ذلك ، مما تستحدث بها الأحكام إنشاء ; لأن ذلك لو كان خبرا لكان إما عن ماض أو حال أو مستقبل ، والأولان باطلان ، لئلا يلزم أن لا يقبل الطلاق ونحوه التعليق . لأنه يقتضي توقف شيء لم يوجد على ما لم يوجد ، والماضي والحال قد وجدا ، لكن قبوله التعليق إجماع ، والمستقبل يلزم منه أن لا يقع به شيء ; لأنه بمنزلة سأطلق ، والفرض خلافه ، إلى غير ذلك من أدلته . وأيضا لا خارج لها ، ولا تقبل صدقا ولا كذبا . ولو كانت خبرا لما قبلت تعليقا ، لكونه ماضيا ; ولأن العلم الضروري قاطع بالفرق بين طلقت إذا قصد به الوقوع وطلقت إذا قصد به الإخبار ( ولو قال لرجعية : طلقتك ، طلقت ) على الصحيح الذي عليه الأكثر لأنه إنشاء للطلاق . فعلى هذا : لا يقبل قوله : أنه أراد الإخبار ، وهو المراد بقوله ( وفي وجه وإن ادعى ماضيا ) وقد تقدم في خطبة الكتاب " أني متى قلت في وجه : كان المقدم خلافه " فعلم منها : أن الصحيح أنها تطلق ، ولو قال : أردت الإخبار . وذهب بعضهم إلى أنها لا تطلق ، وكأنه يعني أنه قصد الإخبار عن الطلاق الماضي ( و ) قول الشاهد ( أشهد : إنشاء تضمن إخبارا ) عما في نفسه ، وهذا هو المختار . وقيل : إن ذلك إخبار محض ; وهو ظاهر كلام أهل اللغة ، قال ابن فارس في المجمل : الشهادة خبر عن علم . وقال الرازي : قوله أشهد إخبار عن الشهادة . وهي الحكم الذهني المسمى بكلام النفس . وقيل : إن ذلك إنشاء محض ; لأنه لا يدخله تكذيب شرعا . وإليه ميل القرافي . وأما قوله تعالى { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } فراجع إلى تسميتهم ذلك شهادة ; لا أنها ما واطأ فيها القلب اللسان . وإنما اختير القول الأول لاضطراب الناس في ذلك . فقائل بأنها إخبار . كما في كتب اللغة ، وقائل بأنها إنشاء ; لأنه لا يدخل تكذيب شرعا . فالقائل بالثالث - رأى أن كلا من القولين - له وجه .

فجمع بينهما . وقال الكوراني : إذا أردت تحقيق المسألة ، فاعلم أنا قدمنا أن دلالة [ ص: 252 ] الألفاظ إنما هي على الصور الذهنية القائمة بالنفس . فإن أريد بالكلام الإشارة إلى أن النسبة القائمة بالنفس مطابقة لأخرى خارجية في أحد الأزمنة الثلاثة .

فالكلام خبر ، سواء كانت تلك الخارجية قائمة بالنفس أيضا ، كعلمت وظننت .

أو بغيره كخرجت ودخلت ، وإن لم يرد مطابقة تلك النسبة الذهنية لأخرى خارجية . فالكلام إنشاء . فإذا قال القائل : أشهد بكذا . لا يشك أحد في أنه لم يقصد أن تلك النسبة القائمة بنفسه تطابق نسبة أخرى في أحد الأزمنة ، بل مراده الدلالة على ما في نفسه من ثبوت هذه النسبة . مثل : اضرب ، ولا تضرب .

فهو إنشاء محض ، ولا يرجع الصدق ولا الكذب إليه ، وكون المشهود به خبرا لا يخرجه عن كونه إنشاء محضا ; لأن تلك النسبة مستقلة بحكم ، ولو كان كون الشيء متضمنا لآخر يخرجه عن كونه محض ذلك الشيء لم يبق إنشاء محض قط إذ قولك : اضرب . متضمن لقولك : الضرب منك مطلوب ، أو أطلب الضرب منك . وهذا مما لا يقول به عاقل . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية