الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الباب الحادي عشر

                                                                                                                                                                                                                                            في بعض النكت المستخرجة من قولنا : بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                            النكتة الأولى : مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه ، فشكا إلى الله تعالى ، فدله على عشب في المفازة ، فأكل منه فعوفي بإذن الله تعالى ، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه ، فقال : يا رب ، أكلته أولا فانتفعت به ، وأكلته ثانيا فازداد مرضي ، فقال : لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء ، وفي المرة الثانية ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض ، أما علمت أن الدنيا كلها سم قاتل وترياقها اسمي ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الثانية : باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة ، فلما انفجر الصبح نامت ، فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها ، وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب ، فوضعها فوجد الباب ، ففعل ذلك ثلاث مرات ، فنودي من زاوية البيت : ضع القماش واخرج ، فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالثة : كان بعض العارفين يرعى غنما ، وحضر في قطيع غنمه الذئاب ، وهي لا تضر أغنامه ، فمر عليه رجل وناداه : متى اصطلح الذئب والغنم ؟ فقال الراعي : من حين اصطلح الراعي مع الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابعة : قوله : ( بسم الله ) معناه أبدأ باسم الله ، فأسقط منه قوله " أبدأ " تخفيفا ، فإذا قلت بسم الله ، فكأنك قلت أبدأ باسم الله ، والمقصود منه التنبيه على أن العبد من أول ما شرع في العمل كان مدار أمره على التسهيل والتخفيف والمسامحة ، فكأنه تعالى في أول كلمة ذكرها لك جعلها دليلا على الصفح والإحسان .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامسة : روي أن فرعون قبل أن يدعي الإلهية بنى قصرا وأمر أن يكتب " بسم الله " على بابه [ ص: 141 ] الخارج ، فلما ادعى الإلهية وأرسل إليه موسى عليه السلام ودعاه فلم ير به أثر الرشد قال : إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيرا ، فقال تعالى : يا موسى ، لعلك تريد إهلاكه ، أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه ، والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمنا من الهلاك وإن كان كافرا ، فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله ؟

                                                                                                                                                                                                                                            السادسة : سمى نفسه رحمانا رحيما ، فكيف لا يرحم ؟ روي أن سائلا وقف على باب رفيع فسأل شيئا ، فأعطي قليلا ، فجاء في اليوم الثاني بفأس وأخذ يخرب الباب فقيل له : ولم تفعل ؟ قال : إما أن يجعل الباب لائقا بالعطية أو العطية لائقة بالباب ، إلهنا إن بحار الرحمة بالنسبة إلى رحمتك أقل من الذرة بالنسبة إلى العرش ، فكما ألقيت في أول كتابك على عبادك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين عن رحمتك وفضلك .

                                                                                                                                                                                                                                            السابعة : " الله " إشارة إلى القهر والقدرة والعلو ، ثم ذكر عقيبه الرحمن الرحيم ، وذلك يدل على أن رحمته أكثر وأكمل من قهره .

                                                                                                                                                                                                                                            الثامنة : كثيرا ما يتفق لبعض عبيد الملك أنهم إذا اشتروا شيئا من الخيل والبغال والحمير وضعوا عليها سمة الملك لئلا يطمع فيها الأعداء ، فكأنه تعالى يقول : إن لطاعتك عدوا وهو الشيطان ، فإذا شرعت في عمل فاجعل عليه سمتي وقل : بسم الله الرحمن الرحيم ؛ حتى لا يطمع العدو فيها .

                                                                                                                                                                                                                                            التاسعة : اجعل نفسك قرين ذكر الله تعالى حتى لا تبعد عنه في الدارين ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دفع خاتمه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال : اكتب فيه لا إله إلا الله ، فدفعه إلى النقاش وقال : اكتب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فكتب النقاش فيه ذلك ، فأتى أبو بكر بالخاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى النبي فيه لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، أبو بكر الصديق ، فقال : يا أبا بكر ما هذه الزوائد ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك عن اسم الله ، وأما الباقي فما قلته ، وخجل أبو بكر ، فجاء جبريل عليه السلام وقال : يا رسول الله ، أما اسم أبي بكر فكتبته أنا ؛ لأنه ما رضي أن يفرق اسمك عن اسم الله ، فما رضي الله أن يفرق اسمه عن اسمك ، والنكتة أن أبا بكر لما لم يرض بتفريق اسم محمد صلى الله عليه وسلم عن اسم الله عز وجل وجد هذه الكرامة ، فكيف إذا لم يفارق المرء ذكر الله تعالى ؟

                                                                                                                                                                                                                                            العاشرة : أن نوحا عليه السلام لما ركب السفينة قال : ( بسم الله مجراها ومرساها ) [ هود : 41 ] فوجد النجاة بنصف هذه الكلمة ، فمن واظب على هذه الكلمة طول عمره كيف يبقى محروما عن النجاة ؟ وأيضا أن سليمان عليه السلام نال مملكة الدنيا والآخرة بقوله : ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) [ النمل : 30 ] فالمرجو أن العبد إذا قاله فاز بملك الدنيا والآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الحادية عشرة : إن قال قائل : لم قدم سليمان عليه السلام اسم نفسه على اسم الله تعالى في قوله : ( إنه من سليمان ) فالجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن بلقيس لما وجدت ذلك الكتاب موضوعا على وسادتها ، ولم يكن لأحد إليها طريق ، ورأت الهدهد واقفا على طرف الجدار ، علمت أن ذلك الكتاب من سليمان ، فأخذت الكتاب وقالت : إنه من سليمان ، فلما فتحت الكتاب ورأت بسم الله الرحمن الرحيم قالت : وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ، فقوله : ( إنه من سليمان ) من كلام بلقيس لا كلام سليمان .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب " إنه من سليمان " وفي داخل الكتاب ابتدأ بقوله : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) كما هو العادة في جميع [ ص: 142 ] الكتب ، فلما أخذت بلقيس ذلك الكتاب قرأت ما في عنوانه ، فقالت : إنه من سليمان ، فلما فتحت الكتاب قرأت : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالت : وإنه بسم الله الرحمن الرحيم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن بلقيس كانت كافرة ، فخاف سليمان أن تشتم الله إذا نظرت في الكتاب ، فقدم اسم نفسه على اسم الله تعالى ؛ ليكون الشتم له لا لله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثانية عشرة : الباء من " بسم " مشتق من البر ، فهو البار على المؤمنين بأنواع الكرامات في الدنيا والآخرة ، وأجل بره وكرامته أن يكرمهم يوم القيامة برؤيته .

                                                                                                                                                                                                                                            مرض لبعضهم جار يهودي قال : فدخلت عليه للعيادة ، وقلت له : أسلم ، فقال : على ماذا ؟ قلت : من خوف النار ، قال : لا أبالي بها ، فقلت : للفوز بالجنة ، فقال : لا أريدها ، قلت : فماذا تريد ؟ قال : على أن يريني وجهه الكريم ، قلت : أسلم على أن تجد هذا المطلوب ، فقال لي : اكتب بهذا خطا ، فكتبت له بذلك خطا ، فأسلم ومات من ساعته ، فصلينا عليه ودفناه ، فرأيته في النوم كأنه يتبختر ، فقلت له : يا شمعون ، ما فعل بك ربك ؟ قال : غفر لي ، وقال لي : أسلم تشوقا إلي .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما السين فهو مشتق من اسمه السميع ، يسمع دعاء الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى .

                                                                                                                                                                                                                                            روي أن زيد بن حارثة خرج مع منافق من مكة إلى الطائف ، فبلغا خربة فقال المنافق : ندخل هاهنا ونستريح ، فدخلا ، ونام زيد ، فأوثق المنافق زيدا وأراد قتله ، فقال زيد : لم تقتلني ؟ قال : لأن محمدا يحبك وأنا أبغضه ، فقال زيد : يا رحمن أغثني ، فسمع المنافق صوتا يقول : ويحك لا تقتله ، فخرج من الخربة ونظر فلم ير أحدا ، فرجع وأراد قتله فسمع صائحا أقرب من الأول يقول : لا تقتله ، فنظر فلم يجد أحدا ، فرجع الثالثة وأراد قتله فسمع صوتا قريبا يقول : لا تقتله ، فخرج فرأى فارسا معه رمح ، فضربه الفارس ضربة فقتله ، ودخل الخربة وحل وثاق زيد ، وقال له : أما تعرفني ؟ أنا جبريل حين دعوت كنت في السماء السابعة ، فقال الله عز وجل : أدرك عبدي ، وفي الثانية كنت في السماء الدنيا ، وفي الثالثة بلغت إلى المنافق .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الميم فمعناه أن من العرش إلى ما تحت الثرى ملكه وملكه .

                                                                                                                                                                                                                                            قال السدي : أصاب الناس قحط على عهد سليمان بن داود عليهما السلام ، فأتوه فقالوا له : يا نبي الله ، لو خرجت بالناس إلى الاستسقاء ، فخرجوا ، وإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ، ولا غنى لي عن فضلك ، قال : فصب الله تعالى عليهم المطر ، فقال لهم سليمان عليه السلام : ارجعوا فقد استجيب لكم بدعاء غيركم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية