الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 88 ] ( الفصل الثاني )

أن العمرة أيضا - واجبة ، نص عليه أحمد في مواضع فقال : - في رواية الأثرم ، وبكر بن محمد ، وإسحاق بن إبراهيم ، وأبي طالب [ ص: 89 ] وحرب والفضل : العمرة واجبة ، والعمرة فريضة . وذكر بعض أصحابنا عنه رواية أخرى : أنها سنة لأن الله - سبحانه وتعالى - قال : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) ولم يذكر العمرة . ولو كانت واجبة [ ص: 90 ] لذكرها ، كما ذكرها لما أمر بإتمامها وبالسعي فيها في قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) وقوله سبحانه - ( فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) وكذلك أمر خليله - عليه السلام - بدعاء الناس إلى الحج بقوله تعالى : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ) - إلى قوله : ( ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ) والاختصاص بأيام معلومات هو للحج فقط دون العمرة ، فعلم أنه لم يأمرهم بالعمرة ، وإن كانت حسنة مستحبة لأنه -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر معاني الإسلام قال : " وحج البيت من استطاع إليه سبيلا " وقال في حديث جبريل : " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " ، ولم يذكر العمرة - وسأله ضمام بن ثعلبة عن فرائض الإسلام - إلى أن قال : " وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ؟ قال : "صدق " ، ثم ولى ، ثم قال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ، ولا أنقص منهن ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن صدق ليدخلن الجنة " . ولو كانت العمرة واجبة لأنكر قوله : لا أزيد عليهن ولم يضمن له الجنة - مع ترك أحد فرائض الإسلام . ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حج حجة الوداع كان معه من المسلمين ما لا يحصيهم إلا الله - تعالى - وكل قد جاء يؤدي [ ص: 91 ] فرض الله - تعالى - عليه فلما قضى أيام منى بات بالمحصب بعد النفر ، وخرج من الغد قافلا إلى المدينة ولم يعتمر بعد ذلك ، ولم يأمر من معه بالعمرة ، ولا بأن يسافروا لها سفرة أخرى ، وقد كان فيهم المفرد ، والقارن ، وهم لا يرون أنه قد بقي عليهم فريضة أخرى ، بل قد سمعوا منه أن الحج لا يجب إلا في عام واحد ، وقد فعلوه ، فلو كانت العمرة واجبة كالحج لبين لهم ذلك أو لأقام ريثما أن يعتمر من لم يكن اعتمر .

وعن الحجاج بن أرطاة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال : أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- أعرابي فقال : أخبرني عن العمرة أواجبة هي ؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- - : "لا وإن تعتمر خير لك " رواه [ ص: 92 ] أحمد والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، ورواه الدارقطني من غير طريق الحجاج .

وعن أبي هريرة موقوفا ، ومرفوعا ، أنه قال : " العمرة تطوع " قال [ ص: 93 ] الدارقطني : والصحيح أنه موقوف على أبي هريرة .

وعن طلحة بن عبيد الله أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : " الحج جهاد ، والعمرة تطوع " رواه ابن ماجه ، وفي طريقه الحسن بن يحيى الخشني عن عمر بن قيس ، أخبرني طلحة بن يحيى عن عمه [ ص: 94 ] إسحاق بن طلحة ، عن طلحة بن عبيد الله .

وعن أبي صالح الحنفي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " الحج جهاد ، والعمرة تطوع " رواه الشافعي ، وسعيد .

وربما احتج بعضهم بقوله : " دخلت العمرة في الحج " وليس بشيء .

[ ص: 95 ] ولأن العمرة بعض الحج فلم تجب على الانفراد كالطواف ، وهذا لأن الحج لم يجب على وجه التكرار ، وإنما وجب مرة واحدة ، فلو وجبت العمرة لكان قد وجب على الإنسان حجتان صغرى ، وكبرى ، فلم يجز ، كما لم يجب عليه حج وطواف ، وكل ما يفعله المعتمر فقد دخل في الحج فليس في العمرة شيء يقتضي إفراده بالإيجاب لكن جعل الله المناسك على ثلاث درجات أتمها هو الحج المشتمل على الإحرام والوقوف والطواف والسعي والرمي والإحلال .

وبعده العمرة المشتملة على الإحرام ، والطواف والسعي والإحلال . وبعده الطواف المجرد . . . ولأنها نسك غير مؤقت الابتداء والانتهاء ، فلم تجب كالطواف .

ولأنها عبادة غير مؤقتة من جنسها فرض مؤقت ، فلم تجب كصلاة النافلة وهذا لأن العبادات المحضة إذا وجبت وقتت كما وقتت الصلاة والصيام والحج . فإذا شرعت في جميع الأوقات علم أنها شرعت رحمة وتوسعة للتقرب إلى الله - تعالى - بأنواع شتى من العبادة ، وسبل متعددة لئلا يمتنع الناس من التقرب إلى الله - تعالى - في غالب الأوقات .

ووجه الأول : ما احتج به بعضهم من قوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) .

[ ص: 96 ] وعن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ، ولا الظعن ، فقال : "حج عن أبيك واعتمر " رواه الخمسة ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .

وفي رواية لأحمد : " إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير " فأمره بفعلهما عن أبيه ، ولولا وجوبهما على الأب لما أمره بفعلهما عنه . لكن يمكن أن يقال : إنما سأله عن جواز الحج والعمرة عن أبيه ; لأن الابن لا يجب ذلك عليه وفاقا .

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت يا رسول الله : هل على النساء جهاد ؟ قال : "نعم عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة " رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارقطني بإسناد شرط الصحيح ، لكن في لفظ أحمد والنسائي " ألا نخرج فنجاهد معك " وكلمة على تقتضي الإيجاب لا سيما [ ص: 97 ] وقد سألته عما يجب على النساء من الجهاد . فجعله جهادهن . كما روي عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " الحج جهاد كل ضعيف " رواه أحمد وابن ماجه .

واحتج أحمد بحديث أبي رزين ، وبحديث ذكره عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : جاء رجل [ ص: 98 ] إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : أوصني ، فقال : "تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ، وتحج وتعتمر " .

قال : وعن ابن عباس وابن عمر : أنها واجبة ، وهذا أمر والأمر للإيجاب لا سيما ، وهو إنما أمره بمباني الإسلام ودعائمه . قال جابر بن عبد الله : " ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وعليه عمرة واجبة " ذكره ابن أبي موسى .

وفي حديث عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : - يعني جبريل عليه السلام - لما جاء في صورة الأعرابي - : يا محمد ما الإسلام ؟ فقال : "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة ، وتتم الوضوء ، وتصوم رمضان " رواه الجوزقي في كتابه المخرج على الصحيحين ، والدارقطني ، وقال : هذا [ ص: 99 ] إسناد صحيح أخرجه مسلم بهذا الإسناد .

وهذه الزيادة وإن لم تكن في أكثر الروايات فإنها ليست مخالفة لها ، لكن هي مفسرة لما أجمل في بقية الروايات ، فإن الحج يدخل فيه الحج الأكبر والأصغر ، كما أن الصلاة يدخل فيها الوضوء والغسل ، وإنما ذكر ذلك بالاسم الخاص تبيينا خشية أن يظن أنه ليس داخلا في الأول . وقد روى الدارقطني بإسناد ضعيف عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت " . وروى القاضي بإسناده عن قتيبة ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء ، عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم [ ص: 100 ] - : " الحج والعمرة فريضتان واجبتان " .

وروى سعيد بن أبي عروبة - في المناسك - عن قتادة أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " إنما هي حجة وعمرة ، فمن قضاهما فقد قضى الفريضة ، ومن أصاب بعد ذلك فهو تطوع " . وعن قتادة أن عمر بن الخطاب - رحمه الله - قال : " يا أيها الناس كتب عليكم الحج ، يا أيها الناس كتب عليكم العمرة ، يا أيها الناس كتب عليكم أن يأخذ أحدكم من ماله فيبتغي به من فضل الله فإن فيه الغنى والتصديق ، وأيم الله لأن أموت وأنا أبتغي بما لي في الأرض من فضل الله عز وجل أحب إلي من أن أموت على فراشي " وأيضا فإن العمرة هي الحج الأصغر بدليل قوله - سبحانه - : ( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ) فإن الصفة إذا لم تكن مبينة لحال الموصوف فإنها تكون مقيدة له ومميزة له عما يشاركه في الاسم . فلما قال : ( يوم الحج الأكبر ) علم أن هناك حجا أصغر لا يختص بذلك اليوم . لأن الحج الأكبر له [ ص: 101 ] وقت واحد لا يصح في غيره ، والحج الأصغر لا يختص بوقت . وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال : " الحج الأكبر يوم النحر ، والحج الأصغر العمرة " .

وأيضا ففي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن : " وأن العمرة الحج الأصغر " رواه الدارقطني من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده [ ص: 102 ] وهذا الكتاب : ذكر هذا فيه مشهور مستفيض عند أهل العلم . وهو عند كثير منهم أبلغ من خبر الواحد العدل المتصل ، وهو صحيح بإجماعهم .

وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بين أنها الحج الأصغر كما دل عليه كتاب الله عز وجل : علم أنها واجبة ، لأن قوله : ( ولله على الناس حج البيت ) وسائر الأحاديث التي فيها ذكر فرض الحج إما أن يعم الحجين الأكبر والأصغر كما أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " يعم نوعي [ ص: 103 ] الطهور الأكبر والأصغر ، وإما أن تكون مطلقة ولا يجوز أن يكون المفروض مطلق الحج ، لأن ذلك يحصل بوجود الأكبر أو الأصغر فيلزم أن تكفيه العمرة فقط وذلك غير صحيح . فيجب أن يكون عاما ولا يجوز أن يعني الحج الأكبر فقط ; لأنه يكون تخصيصا للعام ، وتقييدا للمطلق ، وذلك لا يجوز إلا بدليل . ولو أريد ذلك لقيد كما قيد في قوله : ( يوم الحج الأكبر ) بل الناس إلى التقييد هنا أحوج لأن هذا ذكر للمفروض الواجب ، والاسم يشملها ، وذاك أمر بالنداء يوم الحج الأكبر ، والنداء لا يمكن إلا في المجتمع ، والاجتماع العام إنما يقع في الحج الأكبر لا سيما وقوله : ( يوم ) والحج الأصغر لا يختص به . وبهذا يجاب عن كل موضع أطلق فيه ذكر الحج . وأما المواضع التي عطف فيها فللبيان والتفسير وقطع الشبهة لئلا يتوهم متوهم أن حكم العمرة مخالف لحكم الحج ، وأنها خارجة عنه في هذا الموضع لأنها كثيرا ما تذكر بالاسم الخاص ، وكثيرا ما يكون لفظ الحج لا يتناولها .

وأما الأحاديث فضعيفة .

وأما كونها لا تختص بوقت ، وكونها بعض الحج فلا يمنع الوجوب . وأيضا فإنها عبادة تلزم بالشروع ، ويجب المضي في فاسدها فوجبت بالشرع كالحج ، وعكس ذلك الطواف

التالي السابق


الخدمات العلمية