الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              سمعت أبا الحسن علي بن هارون بن محمد السمسار ، يقول : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : " اعلم يا أخي أن الوصول إذا ما سألت عنه مفاوز مهلكة ومناهل متلفة لا تسلك إلا بدليل ، ولا تقطع إلا بدوام رحيل وأنا واصف لك منها مفازة واحدة ، فافهم ما أنعته لك منها ، وقف عند ما أشير لك فيها ، واستمع لما أقول ، وافهم ما أصف ، اعلم أن بين يديك مفازة إن كنت ممن أريد بشيء منها ، وأستودعك الله من ذلك ، وأسأله أن يجعل عليك واقية باقية ، فإن الخطر في سلوكها عظيم ، والأمر المشاهد في الممر بها جسيم ، فإن من أوائلها أن يوغل بك في فيح برزخ لا أمد له إيغالا ، ويدخل بك بالهجوم فيه إدخالا ، وترسل في جويهنته إرسالا ، ثم تتخلى منك لك ، ويتخلى منك له ، فمن أنت [ ص: 260 ] حينئذ ؟ وماذا يراد بك ؟ وماذا يراد منك ؟ وأنت حينئذ في محل أمنه روع ، وأنسه وحشة ، وضياؤه ظلمة ، ورفاهيته شدة ، وشهادته غيبة ، وحياته ميتة ، لا درك فيه لطالب ، ولا مهمة فيه لسارب ، ولا نجاة فيه لهارب ، وأوائل ملاقاته اصطلام ، وفواتح بدائعه احتكام ، وعواطف ممره احترام ، فإن غمرتك غوامره انتسفتك بوادره ، وذهب بك في الارتماس ، وأغرقتك بكثيف الانطماس فذهبت سفالا في الانغماس إلى غير درك نهاية ، ولا مستقر لغاية ، فمن المستنقذ لك مما هنالك ؟ ومن المستخرج لك من تلك المهالك ؟ وأنت في فرط الإياس من كل فرج مشوه بك في إغراق لجة اللجج ؟ فاحذر ثم احذر ، فكم من متعرض اختطف ومتكلف انتسف ، وأتلف بالغرة نفسه ، وأوقع بالسرعة حتفه ، جعلنا الله وإياك من الناجين ، ولا حرمنا وإياك ما خص به العارفين . واعلم يا أخي أن الذي وصفته لك من هذه المفاوز وعرضت ببعض نعته إشارة إلى علم لم أصفه ، وكشف العلم بها يبعد ، والكائن بها يفقد ، فخذ في نعت ما تعرفه من الأحوال ، وما يبلغه النعت والسؤال ، ويوجد في المقاربين والأشكال ، فإن ذلك أقرب بظفرك لظفرك وأبعد من حظك لحظك ، واحذر من مصادمات ملاقاة الأبطال ، والهجوم على حين وقت النزال ، والتعرض لأماكن أهل الكمال ، قبل أن تمات من حياتك ثم تحيى من وفاتك وتخلق خلقا جديدا ، وتكون فريدا وحيدا ، وكل ما وصفته لك إشارة إلى علم ما أريده " .

              سمعت علي بن هارون يقول : سمعت الجنيد بن محمد يقول - وقرأه علينا في كتاب كتب به إلى بعض إخوانه - : " اعلم رضي الله عنك أن أقرب ما استدعي به قلوب المريدين ، ونبه به قلوب الغافلين ، وزجرت عنه نفوس المتخلفين ، ما صدقته من الأقوال جميع ما اتبع به من الأفعال ، فهل يحسن يا أخي أن يدعو داع إلى أمر لا يكون عليه شعاره ولا تظهر منه زينته وآثاره ، وألا يكون قائله عاملا فيه بالتحقيق ، وبكل فعل بذلك القول يليق ، وأفك من دعا إلى الزهد وعليه شعار الراغبين ، وأمر بالترك وكان من [ ص: 261 ] الآخذين وأمر بالجد في العمل وكان من المقصرين ، وحث على الاجتهاد ولم يكن من المجتهدين ، إلا قل قبول المستمعين لقيله ، ونفرت قلوبهم لما يرون من فعله ، وكان حجة لمن جعل التأويل سببا إلى اتباع هواه ، ومسهلا لسبيل من آثر آخرته على دنياه ، أما سمعت الله تعالى يقول وقد وصف نبيه شعيبا وهو شيخ الأنبياء وعظيم من عظماء الرسل والأولياء ، وهو يقول : ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) ، وقول الله جل ذكره لمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله ) ، وأمر الله له بالدعاء إليه بقوله عز من قائل : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) ، فهذه سيرة الأنبياء والرسل والأولياء ، والذي يجب يا أخي على من فضله الله بالعلم به والمعرفة له أن يعمل في استتمام واجبات الأحوال وأن يصدق القول منه الفعل بذلك أولا عند الله ويحظى به من اتبعه آخرا ، واعلم يا أخي أن لله ضنائن من خلقه أودع قلوبهم المصون من سره وكشف لهم عن عظيم أثرهم به من أمره فهم بما استودعهم من ذلك حافظون وبجليل قدر ما أمنهم عليه علماء عارفون ، قد فتح لما اختصهم به من ذلك أذهانهم ، وقرب من لطيف الفهم عنه لما أراده أفهامهم ، ورفع إلى ملكوت عزه همومهم ، وقرب من المحل الأعلى بالإدناء إلى مكين الإيواء بحبهم ، وأفرد بخالص ذكره قلوبهم ، فهم في أقرب أماكن الزلفى لديه ، وفي أرفع مواطن المقبلين به عليه ، أولئك الذين إذا نطقوا فعنه يقولون ، وإذا سكتوا فبوقار العلم به يصمتون ، وإذا حكموا فبحكمه لهم يحكمون ، جعلنا الله يا أخي ممن فضله بالعلم ، ومكنه بالمعرفة ، وخصه بالرفعة ، واستعمله بأكمل الطاعة ، وجمع له خيري الدنيا والآخرة " .

              أخبرني جعفر بن محمد بن نصر في كتابه ، وحدثني عنه محمد بن إبراهيم ، قال : قال أبو القاسم الجنيد بن محمد ، وسئل عما تنهى الحكمة ؟ فقال : " الحكمة تنهى عن كل ما يحتاج أن يعتذر منه ، وعن كل ما إذا غاب علمه عن غيرك أحشمك ذكره في نفسك ، فقال له السائل : فبم تأمر الحكمة ؟ [ ص: 262 ] قال : تأمر الحكمة بكل ما يحمد في الباقي أثره ويطيب عند جملة الناس خبره ويؤمن في العواقب ضرره ، قال : فمن يستحق أن يوصف بالحكمة ؟ قال : من إذا قال بلغ المدى والغاية ، فيما يتعرض لنعته بقليل القول ويسير الإشارة ومن لا يتعذر عليه من ذلك شيء مما يريد ؛ لأن ذلك عنده حاضر عتيد ، قال : فبمن تأنس الحكمة ؟ وإلى من تستريح وتأوي ؟ قال : إلى من انحسمت عن الكل مطامعه ، وانقطعت من الفضل في الحاجات مطالبه ، ومن اجتمعت همومه وحركاته في ذات ربه ، ومن عادت منافعه على سائر أهل دهره " .

              حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن يعقوب قال : سمعت أبا القاسم الجنيد بن محمد ، يقول : " إن لله عبادا صحبوا الدنيا بأبدانهم وفارقوها بعقود أيمانهم ، أشرف بهم علم اليقين على ما هم إليه صائرون وفيه مقيمون وإليه راجعون ، فهربوا من مطالبة نفوسهم الأمارة بالسوء ، والداعية إلى المهالك ، والمعينة للأعداء ، والمتبعة للهوى ، والمغموسة في البلاء ، والمتمكنة بأكناف الأسواء ، إلى قبول داعي التنزيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل إذ سمعوه يقول : ( ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) فقرع أسماع فهومهم حلاوة الدعوة لتصفح التمييز ، وتنسموا بروح ما أدته إليهم الفهوم الطاهرة من أدناس خفايا محبة البقاء في دار الغرور ، فأسرعوا إلى حذف العلائق المشغلة قلوب المراقبين معها ، وهجموا بالنفوس على معانقة الأعمال ، وتجرعوا مرارة المكابدة ، وصدقوا الله في معاملته ، وأحسنوا الأدب فيما توجهوا إليه ، وهانت عليهم المصائب ، وعرفوا قدر ما يطلبون ، واغتنموا سلامة الأوقات وسلامة الجوارح ، وأماتوا شهوات النفوس وسجنوا همومهم عن التلفت إلى مذكور سوى وليهم ، وحرسوا قلوبهم عن التطلع في مراقي الغفلة ، وأقاموا عليها رقيبا من علم من لا يخفى عليه مثقال ذرة في بر ولا بحر ، ومن أحاط بكل شيء علما وأحاط به خبرا فانقادت تلك النفوس بعد اعتياصها ، واستبقت منافسة لأبناء جنسها ، نفوس ساسها وليها ، وحفظها بارئها ، وكلأها كافيها ، فتوهم يا أخي إن كنت ذا بصيرة ماذا يرد عليهم في وقت [ ص: 263 ] مناجاتهم ؟ وماذا يلقونه من نوازل حاجاتهم ؟ تر أرواحا تتردد في أجساد قد أذبلتها الخشية ، وذللتها الخدمة وتسربلها الحياء ، وجمعها القرب وأسكنها الوقار وأنطقها الحذار ، أنيسها الخلوة وحديثها الفكرة وشعارها الذكر ، شغلها بالله متصل ، وعن غيره منفصل ، لا تتلقى قادما ولا تشيع ظاعنا ، غذاؤها الجوع والظمأ وراحتها التوكل وكنزها الثقة بالله ومعولها الاعتماد ودواؤها الصبر وقرينها الرضا ، نفوس قدمت لتأدية الحقوق ورقيت لنفيس العلم المخزون وكفيت ثقل المحن : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) ( نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم ) .

              سمعت أبا بكر محمد بن أحمد يقول : سمعت الجنيد ، يقول : " ما من شيء أسقط للعلماء من عين الله من مساكنة الطمع مع العلم في قلوبهم " .

              قال : وسمعت الجنيد يقول : " فتح كل باب وكل علم نفيس بذل المجهود " .

              سمعت عثمان بن محمد العثماني ، يقول : سمعت أحمد بن عطاء ، يقول : قال الجنيد : " لولا أنه يروى أنه يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم ما تكلمت عليكم " .

              حدثنا عثمان بن محمد ، ثنا بعض أصحابنا قال : قيل للجنيد : ما القناعة ؟ قال : " ألا تتجاوز إرادتك ما هو لك في وقتك " .

              سمعت علي بن عبد الله الجهضمي ، يقول : سمعت أحمد بن عطاء ، يقول : سمعت محمد بن الحريض ، يقول : لما قال الجنيد : إن بدت عين من الكرم ألحقت المسيء بالمحسن ، قال أبو العباس بن عطاء : متى تبدو ؟ فقال له الجنيد : " هي بادية ، قال الله : " سبقت رحمتي غضبي " .

              أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير ، في كتابه ، وحدثني عنه ، محمد بن إبراهيم قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : " لو أن العلم الذي أتكلم به من عندي لفني ولكنه من حق بدا ، وإلى الحق يعود ، وربما وقع في قلبي أن زعيم القوم أرذلهم " .

              [ ص: 264 ] سمعت محمد بن الحسين ، يقول : سمعت أبا عبد الله الدارمي يقول : سمعت أبا بكر العطوي ، يقول : كنت عند الجنيد حين مات فختم القرآن ثم ابتدأ من البقرة فقرأ سبعين آية ثم مات رحمه الله .

              حدثنا أبو الحسن علي بن هارون قال : سمعت أبا القاسم الجنيد بن محمد ، يقول وسأله جعفر : ما تقول أكرمك الله في الذكر الخفي ؟ ما هو الذي لا تعلمه الحفظة ؟ ومن أين زاد عمل السر على عمل العلانية سبعين ضعفا ؟ فأجابه فقال : " وفقنا الله وإياكم لأرشد الأمور وأقربها إليه ، واستعملنا وإياكم بأرضى الأمور ، وأحبها إليه ، وختم لنا ولكم بخير ، فأما الذكر الذي يستأثر الله بعلمه دون غيره فهو ما اعتقدته القلوب وطويت عليه الضمائر مما لا تحرك به الألسنة والجوارح وهو مثل الهيبة لله والتعظيم لله والإجلال لله واعتقاد الخوف من الله وذلك كله فيما بين العبد وربه لا يعلمه إلا من يعلم الغيب ، والدليل على ذلك قوله عز وجل : ( يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ) ، وأشباه ذلك وهذه أشياء امتدح الله بها فهي له وحده جل ثناؤه ، وأما ما تعلمه الحفظة فما وكلت به وهو قوله : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ، وقوله ( كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) فهذا الذي وكل به الملائكة الحافظون ما لفظ به وبدا من لسانه ، وما يعلنون ويفعلون هو ما ظهر به السعي ، وما أضمرته القلوب مما لم يظهر على الجوارح وما تعتقده القلوب فذلك يعلمه جل ثناؤه ، وكل أعمال القلوب ما عقد لا يجاوز الضمير فهو مثل ذلك والله أعلم .

              وما روي في الخبر من فضل عمل السر على عمل العلانية وأن عمل السر يزيد على عمل العلانية سبعين ضعفا ، فذلك والله أعلم لأن من عمل لله عملا فأسره فقد أحب أن ينفرد الله عز وجل بعلم ذلك العمل منه ، ومعناه أن يستغني بعلم الله في عمله عن علم غيره ، وإذا استغنى القلب بعلم الله أخلص العمل فيه ، ولم يعرج على من دونه فإذا علم جل ذكره بصدق قصد العبد إليه وحده ، وسقط عن ذكره من دونه أثبت ذلك العمل في أعمال الخالصين الصالحين المؤثرين الله على من سواه ، وجازاه الله بعلمه بصدقه من الثواب [ ص: 265 ] سبعين ضعفا على ما عمل من لا يحل محله ، والله أعلم " .

              حدثنا علي بن هارون قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول في كتابه إلى أبي العباس الدينوري : " من استخلصه الحق بمفرد ذكره وصافاه يكون له وليا منتخبا مكرما مواصلا يورثه غرائب الأنبياء ويزيده في التقريب زلفى ويثبته في محاضر النجوى ، ويصطنعه للخلة والاصطفاء ، ويرفعه إلى الغاية القصوى ويبلغه في الرفعة إلى المنتهى ويشرف به من ذروة الذرى على مواطن الرشد والهدى ، وعلى درجات البررة الأتقياء ، وعلى منازل الصفوة والأولياء فيكون كله منتظما ، وعليه بالتمكين محتويا ، وبأنبائه خبيرا عالما وعليه بالقوة والاستظهار حاكما ، وبإرشاد الطالبين له إليه قائما ، وعليهم بالفوائد والعوائد والمنافع دائما ، ولما نصب له الأئمة من الرعاية لديه به لازما ، وذلك إمام الهداة السفراء العظماء الأجلة الكبراء الذين جعلهم للدين عمدا وللأرض أوتادا ، جعلنا الله وإياك من أرفعهم لديه قدرا وأعظمهم في محل عزه أمرا إن ربي قريب سميع " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية