الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر استيلاء الروم على مدينة حلب ( وعودهم عنها بغير سبب )

في هذه السنة استولى الروم على مدينة حلب دون قلعتها .

وكان سبب ذلك أن الدمستق سار إلى حلب ، ولم يشعر به المسلمون ; لأنه كان قد خلف عسكره بقيسارية ودخل بلادهم كما ذكرناه ، فلما قضى صوم النصارى ، خرج إلى عسكره من البلاد جريدة ، ولم يعلم به أحد ، وسار بهم عند وصوله ، فسبق خبره ، وكبس مدينة حلب ، ولم يعلم به سيف الدولة بن حمدان ولا غيره .

فلما بلغها وعلم سيف الدولة الخبر ، أعجله الأمر عن الجمع والاحتشاد ، فخرج إليه [ ص: 238 ] فيمن معه ، فقاتله فلم يكن له قوة الصبر لقلة من معه ، فقتل أكثرهم ، ولم يبق من أولاد داود بن حمدان أحد ، قتلوا جميعهم ، فانهزم سيف الدولة في نفر يسير ، وظفر الدمستق بداره ، وكانت خارج مدينة حلب ، ( تسمى الدارين ) ، فوجد فيها لسيف الدولة ثلاثمائة بدرة من الدراهم ، وأخذ له ألفا وأربعمائة بغل ، ومن خزائن السلاح ما لا يحصى ، فأخذ الجميع ، وخرب الدار ، وملك الحاضر ، وحصر المدينة ، فقاتله أهلها .

وهدم الروم في السور ثلمة ، فقاتلهم أهل حلب عليها ، فقتل من الروم كثير ، ودفعوهم عنها ، فلما جنهم الليل عمروها ، فلما رأى الروم ذلك ، تأخروا إلى جبل جوشن .

ثم إن رجالة الشرطة بحلب قصدوا منازل الناس ، وخانات التجار لينهبوها ، فلحق الناس أموالهم ليمنعوها ، فخلا السور منهم ، فلما رأى الروم السور خاليا من الناس ، قصدوه وقربوا منه ، فلم يمنعهم أحد ، فصعدوا إلى أعلاه ، فرأوا الفتنة قائمة في البلد بين أهله ، فنزلوا وفتحوا الأبواب ، ودخلوا البلد بالسيف يقتلون من وجدوا ، ولم يرفعوا السيف إلى أن تعبوا وضجروا .

وكان في حلب ألف وأربعمائة من الأسارى ، فتخلصوا ، وأخذوا السلاح وقتلوا الناس ، وسبي من البلد بضعة عشر ألف صبي وصبية ، وغنموا ما لا يوصف كثرة ، فلما لم يبق مع الروم ما يحملون عليه الغنيمة أمر الدمستق بإحراق الباقي ، وأحرق المساجد ، وكان قد بذل لأهل البلد الأمان على أن يسلموا إليه ثلاثة آلاف صبي وصبية ( ومالا ذكره ) ، وينصرف عنهم ، فلم يجيبوه إلى ذلك ، فملكهم كما ذكرنا ، وكان عدة عسكره مائتي ألف رجل ، منهم ثلاثون ألف رجل بالجواشن ، وثلاثون ألفا للهدم ، وإصلاح الطرق من الثلج ، وأربعة آلاف بغل يحمل الحسك الحديد .

ولما دخل الروم البلد ، قصد الناس القلعة ، فمن دخلها نجا بحشاشة نفسه ، وأقام الدمستق تسعة أيام ، وأراد الانصراف عن البلد بما غنم ، فقال له ابن أخت الملك ، وكان معه : هذا البلد قد حصل في أيدينا ، وليس من ( يدفعنا عنه ) ، فلأي سبب ننصرف عنه ؟ فقال الدمستق : قد بلغنا ما لم يكن الملك يؤمله ، وغنمنا وقتلنا ، وخربنا وأحرقنا ، وخلصنا أسرانا ، وبلغنا ما لم يسمع بمثله ، فتراجعا الكلام إلى أن قال له [ ص: 239 ] الدمستق : انزل على القلعة فحاصرها ، فإنني مقيم بعسكري على باب المدينة ، فتقدم ابن أخت الملك إلى القلعة ، ومعه سيف وترس ، وتبعه الروم ، فلما قرب من باب القلعة ، ألقي عليه حجر فسقط ، ورمي بخشب فقتل ، فأخذه أصحابه وعادوا إلى الدمستق ، فلما رآه قتيلا ، قتل من معه من أسرى المسلمين ، وكانوا ألفا ومائتي رجل ، وعاد إلى بلاده ، ولم يعرض لسواد حلب ، وأمر أهله بالزراعة والعمارة ليعود إليهم بزعمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية