الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا وجب كون الفاعل عالما -بالاتفاق- بفعله، فالكل عندنا من فعله.

قال أبو حامد: والجواب من وجهين:

أحدهما: أن الفعل قسمان: إرادي: كفعل الحيوان والإنسان.

وطبيعي: كفعل الشمس في الإضاءة، والنار في التسخين، والماء في التبريد.


وإنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي، كما في الصناعات [ ص: 138 ] البشرية.

فأما في الفعل الطبيعي فلا.

وعندكم أن الله فعل العالم بطريق اللزوم عن ذاته بالطبع والاضطرار، لا بطريق الإرادة والاختيار، بل لزم الكل ذاته، كما يلزم النور الشمس.

وكما لا قدرة للشمس على كف النور، ولا النار على كف التسخين، فلا قدرة للأول على الكف عن أفعاله، تعالى عن قولهم علوا كبيرا.

قال: وهذا النمط، وإن تجوز بتسميته فعلا، فلا يقتضي علما للفاعل أصلا.

فإن قيل: بين الأمرين فرق، وهو أن صدور الكل عن ذاته بسبب علمه بالكل، فتمثل النظام الكلي هو سبب فيضان الكل، ولا مبدأ له سوى العلم بالكل، والعلم بالكل عين ذاته، فلو لم يكن له علم بالكل لما وجد منه الكل، بخلاف النور من الشمس.

قلنا: وفي هذا خالفك إخوانك، فإنهم قالوا: ذاته ذات يلزم منها وجود الكل على ترتيبه بالطبع والاضطرار، لا من حيث هو عالم [ ص: 139 ] بها، فما المحيل لهذا المذهب مهما وافقتهم على نفي الإرادة؟

وكما لم يشترط علم الشمس بالنور للزوم النور، بل يتبعها النور ضرورة، فليقدر ذلك في الأول، ولا مانع منه.

الوجه الثاني: هو أنه إن سلم أن صدور الشيء من الفاعل، يقتضي العلم أيضا بالصادر، فعندهم فعل الله واحد، وهو المعلول الأول، الذي هو عقل بسيط، فينبغي أن لا يكون عالما إلا به، والمعلول الأول يكون أيضا عالما بما صدر منه فقط، فإن الكل لم يوجد من الله دفعة. بل بالوسط والتولد واللزوم، فالذي يصدر مما يصدر منه لم ينبغ أن يكون معلوما له، ولم يصدر منه إلا شيء واحد، بل هذا لا يلزم في الفعل الإرادي، فكيف في الطبيعي؟ فإن حركة الحجر من فوق جبل قد تكون بتحريك إرادي يوجب العلم بأصل الحركة، ولا يوجب العلم بما يتولد منه بوساطته، من مصادمته وكسر غيره، فهذا أيضا لا جواب له عنه. [ ص: 140 ]

قال: فإن قيل: فلو قضينا بأنه لا يعرف إلا نفسه، لكان ذلك في غاية الشناعة، فإن غيره يعرف نفسه ويعرفه ويعرف غيره، فكيف يكون في الشرف فوقه؟ وكيف يكون المعلول أشرف من العلة؟

قلنا: فهذه الشناعة لازمة من مقال الفلاسفة في نفي الإرادة ونفي حدوث العالم، فيجب ارتكابها كما ارتكبت سائر الفلاسفة له، ولا بد من ترك الفلسفة والاعتراف بأن العالم حادث بالإرادة. ثم يقال: بم تنكرون .. إلى آخره.

قلت: ما ذكره أبو حامد من منازعة إخوانه الفلاسفة، في أن العلم بنفسه يستلزم العلم بمفعولاته، تقدم بيانه له.

وكون ابن سينا خالفهم في هذا، هو من محاسنه وفضائله، التي علم فيها ببعض الحق، والحجة معه عليهم، كما أن أبا البركات كان أكثر إحسانا منه في هذا الباب.

فكل من أعطى الأدلة حقها، وعرف من الحق ما لم يعرفه غيره، كان ذلك مما يفضل به ويمدح، وهو لم يقل: إن عقله لنفسه مستلزم لغيره، بل قال: يستلزم عقله لمفعولاته، كما تقدم. [ ص: 141 ]

والأصول العقلية التي يوافقونه على صحتها، توجب موافقتهم له في هذا الموضع، كما تقدم.

هذا لو كان الفلاسفة ينفون الإرادة، وليس كذلك. بل بينهم من يصرح بثبوتها، وهو القول الذي نصره أبو البركات منهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية