الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1066 [ ص: 528 ] 19 - باب: إذا لم يطق أن يصلي قاعدا صلى على جنب

                                                                                                                                                                                                                              وقال عطاء: إن لم يقدر أن يتحول إلى القبلة صلى حيث كان وجهه.

                                                                                                                                                                                                                              1117 - حدثنا عبدان عن عبد الله، عن إبراهيم بن طهمان قال: حدثني الحسين المكتب، عن ابن بريدة، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة، فقال: " صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب". [انظر: 1115 - فتح: 2 \ 587].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساقه من حديث إبراهيم بن طهمان عن الحسين به، بلفظ: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فقال: صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عمران هذا من أفراد البخاري، وأخرجه الأربعة أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الترمذي حديث حسن صحيح. ولا نعلم أحدا روى عن الحسين المعلم نحو رواية إبراهيم بن طهمان، وقد روى أبو أسامة، وغير واحد عن الحسين المعلم نحو رواية عيسى بن يونس.

                                                                                                                                                                                                                              وكما رواه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه". وقد رواه عن أبي أسامة، عن حسين المعلم، عن ابن بريدة، عن عمران، قال: هذا [ ص: 529 ] إسناد قد يتوهم من لا معرفة عنده أنه منفصل غير متصل، وليس كذلك، فإن عبد الله بن بريدة ولد في الثالثة من خلافة عمر سنة خمس عشرة هو وسليمان بن بريدة أخوه توأم، فلما وقعت فتنة عثمان بالمدينة خرج مدة عنها وسكن البصرة وبها عمران بن حصين فسمع منه.

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك، فالكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              البخاري روى الأول عن إسحاق بن منصور، عن روح بن عبادة، عن الحسين، ثم قال: وحدثنا إسحاق أنا عبد الصمد، سمعت أبي: ثنا الحسين.

                                                                                                                                                                                                                              وإسحاق هذا الظاهر أنه ابن منصور. وذكر الكلاباذي أن إسحاق بن منصور، وإسحاق بن إبراهيم يرويان عن عبد الصمد.

                                                                                                                                                                                                                              وروى مسلم في كتابه، عن إسحاق بن منصور، عن عبد الصمد بن عبد الوارث.

                                                                                                                                                                                                                              قال الجياني: قال البخاري: حدثنا عبدان، عن ابن المبارك، عن إبراهيم بن طهمان: حدثني حسين المعلم، عن ابن بريدة. الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              قال: سقط ذكر ابن المبارك من نسخة أبي زيد في هذا الإسناد، والصواب: عبدان، عن ابن المبارك، عن ابن طهمان.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 530 ] ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              قال الإسماعيلي: ترجم الباب بصلاة القاعد بالإيماء، وذكر حديث عبد الوارث. قال: وهذا تصحيف ; وذلك أنا روينا عن القاسم، عن الزعفراني، عن عفان، عن عبد الوارث هذا الحديث نائما، وقال فيه: قال عبد الوارث: والنائم: المضطجع فوقع التصحيف في نائما فقال: قائما.

                                                                                                                                                                                                                              قال الإسماعيلي: والمعنى على جنب، وسائر الأحاديث تفسره، وتفسير عبد الوارث يوضح الأمر، وهذا في التطوع منهما. وفي بعض نسخ البخاري: قال أبو عبد الله: نائما عندي: مضطجعا عندي ها هنا.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال: وقد غلط النسائي في هذا الحديث، وترجم له: باب: صلاة النائم. فظن قوله: بإيماء نائما، والغلط ظاهر ; لأنه قد ثبت عن الشارع قطع الصلاة عند غلبة النوم، وهي مباحة له، وله عليها نصف أجر القاعد.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وحديث عمران إنما ورد في صلاة النافلة ; لأن المصلي فرضه جالسا لا يخلو أن يكون مطيقا على القيام أو عاجزا، فإن كان مطيقا وصلى جالسا فلا تجزئه صلاته، فكيف يكون له نصف فرض مصل، فإذا عجز عن القيام فقد سقط عنه فرضه، وانتقل فرضه إلى الجلوس، فإذا صلى جالسا، فليس المصلي قائما أفضل منه، وأما قوله: "من صلى نائما فله نصف أجر صلاة القاعد"، فلا يصح معناه عند العلماء ; لأنهم مجمعون أن النافلة لا يصليها القادر على القيام إيماء.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: لا إجماع ; فهو عندنا وجه أنه يجوز مضطجعا مومئا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 531 ] ثم قال: وإنما دخل الوهم على ناقل هذا الحديث فأدخل معنى الفرض في لفظ النافلة، ألا ترى قوله: ( كان مبسورا ). وهذا يدل على أنه لم يكن يقدر على أكثر بما أدى به فرضه، وهذه صفة صلاة الفرض. ولا خلاف أنه لا يقال لمن لا يقدر على الشيء: لك نصف أجر القادر عليه. بل الآثار الثابتة عن الشارع أنه من منعه الله، وحبسه عن عمله بمرض أو غيره، فإنه يكتب له أجر عمله وهو صحيح، ورواية عبد الوارث، وروح بن عبادة عن حسين هذا تدفعه الأصول، والذي يصح فيه رواية إبراهيم بن طهمان، عن حسين، وهو في الفرض هذا لفظه. وبخط الدمياطي حديث ابن طهمان أصح من هذا ; لأن من صلى على جنب في الفرض أجره تام لعذر المرض، ومن صلى على جنب في النافلة مع القدرة على القعود أو القيام لا يجوز. أدخل معنى الفرض في التنفل فوهم.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: قوله: لا يجوز. هو وجه عندنا، والأصح جوازه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن بطال في الباب بعده: حديث عمران هذا تعضده الأصول، ولا يختلف الفقهاء في معناه، وهو أصح معنى من حديث روح، وعبد الوارث، عن حسين.

                                                                                                                                                                                                                              وأغرب ابن التين فقال: قوله: "ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد". ذكره بالنون.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وفي رواية الأصيلي: "بإيماء"، ويدل عليه تبويب البخاري بذلك، فيكون معناه: ومن صلى قاعدا بإيماء كان نصف أجر من صلى قاعدا يركع ويسجد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 532 ] قال: وقوله: "بإيماء"، يريد مضطجعا، قاله البخاري. وقال الخطابي: لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائما كما رخصوا فيها قاعدا. فإن صحت هذه اللفظة عن الشارع ولم يكن من كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث، وقاسه على صلاة القاعد إذا اعتبره بصلاة المريض نائما إذا لم يقدر على القعود، فإن التطوع مضطجعا للقادر على القعود جائز، كما يجوز للمسافر أن يتطوع على راحلته. وأما من جهة القياس فلا يجوز أن يصلي مضطجعا، كلما يجوز أن يصلي قاعدا ; لأن القعود شكل من أشكال الصلاة، وليس الاضطجاع شيء من أشكال الصلاة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي: كنت تأولت هذا الحديث على أن المراد به التطوع، وعليه تأوله أبو عبيد وغيره، إلا أن قوله: "من صلى نائما" يفسد هذا التأويل ; لأن المضطجع لا يصلي تطوعا كما يصلي القاعد، فرأيت الآن أن المراد المريض المفترض الذي عليه أن يتحامل فيقوم مع مشقة، فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم، ترغيبا له في القيام مع جواز قعوده وكذا المضطجع الذي لو تحامل لأمكنه القعود مع شدة المشقة، والمراد بالنوم: الاضطجاع كما قال: "فإن لم تستطع فعلى جنب".

                                                                                                                                                                                                                              وقال الترمذي: معنى الحديث عند بعض أهل العلم في صلاة التطوع. وساق بسنده إلى الحسن قال: إن شاء الرجل صلى صلاته للتطوع قائما، وجالسا، ومضطجعا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 533 ] قال: واختلف أهل العلم في صلاة المريض إذا لم يستطع أن يصلي جالسا، فقال بعض أهل العلم: يصلي على جنبه الأيمن. وقال بعضهم: يصلي مستلقيا على قفاه ورجلاه إلى القبلة. وقال الثوري: إنه في الصحيح ولمن لا عذر له. فأما من كان له عذر من مرض أو غيره فصلى جالسا فله مثل أجر القائم، وقد روي في بعض الحديث مثل قول سفيان.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: في فقه الباب:

                                                                                                                                                                                                                              أما حديث عائشة ففيه: أنه من لم يقدر على صلاة الفريضة لعلة نزلت به، فإن فرضه الجلوس ; ألا ترى قولها: ( وهو شاك )، وكذا في حديث أنس أنه سقط من الفرس، فأراد البخاري أن الفريضة لا يصليها أحد جالسا إلا من شكوى تمنعه من القيام. والعلماء مجمعون على أن فرض من لا يطيق القيام أن يصلي الفريضة جالسا ثم مضطجعا، وقد سلف في أبواب الإمامة في باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، اختلافهم في إمامة القاعد، فأغنى عن إعادته.

                                                                                                                                                                                                                              ولخص ابن التين الاختلاف السابق فقال: اختلف في هذا الحديث في موضعين:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: هل المراد به النافلة، أو الفريضة، أو هما ؟

                                                                                                                                                                                                                              والثاني: هل هو في الصحيح، أو فيه والمريض ؟

                                                                                                                                                                                                                              فأكثر أهل تفسير الحديث منهم القاضي إسماعيل، والداودي، وأبو عبيد، وأبو عبد الملك على أنه محمول على النافلة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 534 ] وقال الخطابي: هو محمول على الفريضة. وقال أبو الوليد: هو محمول عليهما، وعلى النافلة. واختلف في صفة حمله عليها، فقال الخطابي: هو في المريض المستطيع القيام بمشقة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو الوليد: هو من لا يستطيع القيام في الفريضة.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الثاني: فقال جماعة منهم عبد الملك بن الماجشون: إنه في المستطيع القيام أما غيره فالمكتوبة وغيرها سواء.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو الوليد: صلاة القاعد على النصف في موضعين:

                                                                                                                                                                                                                              من صلى الفريضة غير مستطيع للقيام.

                                                                                                                                                                                                                              ومن صلى النافلة مستطيعا أو غير مستطيع.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              لا شك في جواز النافلة جالسا ; ودليله من السنة أيضا حديث عائشة الآتي عقب هذا الباب: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي جالسا فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي عليه من السورة نحو من ثلاثين أو أربعين آية. .. الحديث فخصت بذلك الآية في قوله: وقوموا لله قانتين [البقرة: 238] على قول من يقول: إنها تتناول الفرض والنفل.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              اختلف عنها في جواز النافلة مضطجعا على وجهين: أصحهما: نعم ; لحديث الباب.

                                                                                                                                                                                                                              وهل يجوز بالإيماء ؟ فيه وجهان: أصحهما: لا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 535 ] وفي جوازها مستلقيا وجهان: أصحهما: المنع.

                                                                                                                                                                                                                              ومشهور مذهب مالك جواز النافلة مضطجعا للمريض، ومنعه للصحيح.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "النوادر": منع المريض.

                                                                                                                                                                                                                              وأجاز ذلك الأبهري للصحيح، واحتج بحديث عمران هذا.

                                                                                                                                                                                                                              قال فإذا قلنا: يصلي مضطجعا فعلى جنبه لقوله: ( "فعلى جنب" ) ففيه منع الاستلقاء وليس الباسور المذكور في الحديث علة جواز هذا، ولكنه بتصادف الحال.

                                                                                                                                                                                                                              قال: ورخص في الحديث الإيماء بغير علة، وهذا مثل قول ابن حبيب، وابن القاسم لا يجيز ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              قال: ومن لم يستطع الجلوس صلى على جنبه الأيمن كما يجعل في سجوده، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم: يبتدأ بالظهر قبل الجنب. قال: وهو وهم.

                                                                                                                                                                                                                              دليل الأول حديث عمران هذا: "فعلى جنب" يريد: الأيمن. وفي "المدونة" قال: إن لم يستطع الجلوس جلس على جنبه أو ظهره، فإذا قلنا: يبدأ بالأيمن، فإن لم يقدر عليه فعلى الأيسر كما قاله محمد، فإن لم يقدره فعلى ظهره، ورجلاه إلى القبلة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال سحنون: إن لم يقدر على الأيمن فعلى ظهره، وإن قلنا: يبدأ بظهره، فإن لم يقدره فعلى جنبه الأيمن، فإن لم يقدر فعلى الأيسر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 536 ] فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              البواسير - بالباء - واحدها باسور، وهو علة تحدث في المقعدة، وفي داخل الأنف أيضا، والناسور بالنون قريب منه، إلا أنه لا يسمى ناسورا إلا إذا جرى وتفتحت أفواه عروقه من داخل المخرج، وحكي فيه الصاد أيضا مع النون.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية