الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الطرف الثاني : في كيفية القسامة وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                        إحداها : أيمانها خمسون يمينا ، وكيفية اليمين كسائر الدعاوى ، ويقول في يمينه : لقد قتل هذا ، ويشير إليه ، أو لقد قتل فلان ابن فلان ، ويرفع في نسبه ، أو يعرفه بما يمتاز به من قبيلة أو صنعة ، أو لقب فلان ابن فلان ، ويعرفه كذلك منفردا بقتله ، وإن ادعى على اثنين ، قال : قتلاه منفردين بقتله ، نص الشافعي رحمه الله على ذكر الانفراد ، فقيل : هو تأكيد ; لأن قوله : قتله يقتضي الانفراد ، وقيل : شرط ، لاحتمال الانفراد صورة والاشتراك حكما ، كالمكره مع المكره ، ويتعرض لكونه عمدا أو خطأ ، وذكر الشافعي رحمه الله أن الجاني لو ادعى أنه برئ من الجرح ، زاد في اليمين : وما برئ من جرحه حتى مات منه .

                                                                                                                                                                        [ ص: 17 ] الثانية : يستحب للقاضي أن يحذر المدعي إذا أراد أن يحلف ، ويعظه ويقول : اتق الله ، ولا تحلف إلا عن تحقق ، ويقرأ عليه إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ، والقول في التغليظ في اليمين زمانا ومكانا ولفظا منه ما سبق في اللعان ، ومنه ما هو مؤخر إلى الدعوى والبينات .

                                                                                                                                                                        الثالثة : لا تشترط موالاة الأيمان على المذهب ، وقيل : وجهان ، فعلى المذهب : لو حلف الخمسين في خمسين يوما جاز .

                                                                                                                                                                        الرابعة : جن المدعي في خلال الأيمان ، أو أغمي عليه ، ثم أفاق ، يبنى عليها ، ولو عزل القاضي ، أو مات في خلالها ، فالأصح أن القاضي الثاني يستأنف منه الأيمان ، وحكي عن نصه في " الأم " أنه يكفيه البناء ، قال الروياني : وهو الأصح ، لكن المتولي حمل النص على ما إذا حلف المدعى عليه بعض الأيمان تفريعا على تعدد يمينه ، فمات القاضي ، أو عزل وولي غيره ، يعتد بالأيمان السابقة ، وفرق بأن يمين المدعى عليه على النفي فتنفذ بنفسها ، ويمين المدعي للإثبات فيتوقف على حكم القاضي ، والقاضي لا يحكم بحجة أقيمت عند الأول ، قال : وعزل القاضي وموته بعد تمام الأيمان ، كالعزل في أثنائها في الطرفين ، قال : ولو عزل القاضي في أثناء الأيمان من جانب المدعي أو المدعى عليه ، ثم تولى ثانيا ، فيبنى على أن الحاكم هل يحكم بعلمه ؟ إن قلنا : لا ، استأنف ، وإلا بنى ، ولو مات الولي المقسم في أثنائها ، نص في " المختصر " أن وارثه يستأنف الأيمان ، وقال الخضري : يبنى عليها ، والصحيح الأول ، ولو مات بعد تمامها ، حكم لوارثه ، كما لو أقام بينة ثم مات ولو مات المدعى عليه في أثناء الأيمان ، إذا حلفناه في غير صورة اللوث ، أو فيها ، لنكول المدعي ، بنى وارثه على أيمانه .

                                                                                                                                                                        [ ص: 18 ] الخامسة : في جواز القسامة في غيبة المدعى عليه وجهان ، أصحهما : نعم ، كالبينة ، والثاني : لا ، لضعف القسامة ، ولا يمنع من القسامة كون المدعي كان غائبا عن موضع القتل ، كما لا يمنع كونه صبيا أو جنينا ; لأنه قد يعرف الحال بإقرار المدعى عليه ، أو بسماع ممن يثق به .

                                                                                                                                                                        السادسة : ما يستحق بالقسامة يستحق بخمسين يمينا ، فإن كان الوارث واحدا وهو جائز ، حلف خمسين وأخذ الدية ، وإن لم يكن جائزا ، حلف أيضا خمسين ; لأنه لا يمكنه أخذ شيء إلا بعد تمام الحجة ، فإذا حلف أخذ قدر حقه ولا يثبت الباقي بيمينه ، بل حكمه حكم من مات ولا وارث له وسيأتي إن شاء الله تعالى ، وإن كان للقتيل وارثان فأكثر ، فقولان ، أحدهما : يحلف كل واحد خمسين يمينا ، وأظهرهما : يوزع الخمسون عليهم على قدر مواريثهم ، ومنهم من قطع بهذا ، فعلى هذا إن وقع كسر ، تممنا المنكسر ، فإذا كان ثلاثة بنين ، حلف كل ابن سبع عشرة ، وإن خلف أما وابنا ، حلفت تسعا وحلف اثنتين وأربعين ، وإن خلف زوجة وبنتا جعلت الأيمان بينهما أخماسا ، فتحلف الزوجة عشرا ، والبنت أربعين ، وفي زوج وبنت ، تجعل أثلاثا ، وإذا خلف أكثر من خمسين ابنا أو أخا ، حلف كل واحد يمينا ، وإن كانوا تسعة وأربعين ، حلف كل واحد يمينين ، وفي صورة الجد والإخوة تقسم الأيمان ، كقسم المال ، وفي المعادة لا يحلف ولد الأب إن لم يأخذ شيئا ، فإن أخذ حلف بقدر حقه ، فإذا خلف جدا وأخا لأبوين وأخا لأب ، حلف الجد سبع عشرة والأخ للأبوين أربعا وثلاثين ، ولا يحلف الأخ للأب وعلى التوزيع لو نكل بعضهم عن جميع حصته أو بعضها ، فلا يستحق الآخر شيئا حتى يحلف خمسين ولو غاب بعضهم ، فالحاضر بالخيار بين أن يصبر حتى يحضر الغائب ، فيحلف كل واحد قدر حصته ، وبين [ ص: 19 ] أن يحلف في الحال خمسين ، ويأخذ قدر حقه ، فلو كان الورثة ثلاثة بنين أحدهم حاضر ، فأراد أن يحلف ، حلف خمسين يمينا ، وأخذ ثلث الدية ، فإذا قدم ثان ، حلف نصف الخمسين ، وأخذ الثلث فإذا قدم الثالث ، حلف سبع عشرة ، وأخذ ثلث الدية ، ولو كانوا أربعة ، حلف الحاضر خمسين ، وأخذ ربع الدية ، فإذا قدم ثان ، حلف خمسا وعشرين ، وأخذ ربعها ، وثالث يحلف سبع عشرة والرابع ثلاث عشرة ، ولو قال الحاضر : لا أحلف إلا بقدر حصتي لا يبطل حقه من القسامة حتى إذا قدم الغائب حلف معه بخلاف ما إذا قال الشفيع الحاضر : لا آخذ إلا قدر حصتي ، فإنه يبطل حقه ; لأن الشفعة إذا أمكن أخذها ، فالتأخير تقصير مفوت ، واليمين في القسامة لا تبطل بالتأخير ، ولو كان في الورثة صغير ، أو مجنون ، فالبالغ العاقل كالحاضر ، والصبي والمجنون كالغائب في جميع ما ذكرناه ، ولو حلف الحاضر أو البالغ خمسين ، ثم مات الغائب أو الصبي ، وورث الحالف ، لم يأخذ نصيبه إلا بعد أن يحلف حصته ولا يحسب ما مضى ; لأنه لم يكن مستحقا له يومئذ .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        كان في الورثة خنثى مشكل ، أخذ بالاحتياط واليقين في الأيمان والميراث ، فإن خلف ولدا خنثى ، حلف خمسين لاحتمال أنه ذكر ، ولا يأخذ إلا نصف المال ، ثم إن لم يكن معه عصبة ، لم يأخذ القاضي الباقي من المدعى عليه بل يوقف حتى يبين الخنثى ، فإن بان ذكرا أخذه ، وإن بان أنثى حلف القاضي المدعى عليه للباقي ، وإن كان معه عصبة كأخ ، فإن شاء صبر إلى وضوح الخنثى ، وإن شاء حلف ، فإن صبر توقفنا ، وإن حلف حلف خمسا وعشرين ، وأخذ القاضي النصف الآخر ، ووقفه بين الأخ والخنثى ، فإذا بان المستحق منهما ، دفعه إليه باليمين السابقة ، ولو خلف ولدين خنثيين ، حلف كل واحد منهما ثلثي الأيمان مع الجبر [ ص: 20 ] وهي أربع وثلاثون يمينا ، لاحتمال أنه ذكر ، والآخر أنثى ، ولا يأخذان إلا الثلثين لاحتمال أنهما أنثيان ، ولو خلف ابنا وخنثى ، حلف الابن ثلثي الأيمان ، وأخذ نصف الدية ، وحلف الخنثى نصفها ، وأخذ ثلث الدية ، ووقف السدس بينهما ، ولو خلف بنتا وخنثى ، حلفت نصف الأيمان ، والخنثى ثلثيها ، وأخذ ثلثي الدية ، ولا يؤخذ الباقي من المدعى عليه حتى يظهر الخنثى . وهنا صور أخر في الخناثى تعلم من الضابط والمثال المذكور حذفتها اختصارا ولعدم الفائدة فيها وتعذر وقوعها .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        مات بعض الورثة المدعين الدم ، قام وارثه مقامه في الأيمان ، فإن تعددوا ، عاد القولان ، فإن قلنا : يحلف كل وارث خمسين ، فكذا ورثة الورثة ، وإن قلنا : بالتوزيع ، وزعت حصة ذلك الوارث على ورثته ، فلو كان للقتيل ابنان ، مات أحدهما عن ابنين ، حلف كل منهما ثلاث عشرة ، فلو حلف أحدهما ثلاث عشرة ، فمات أخوه قبل أن يحلف ، ولم يترك سوى هذا الحالف ، حلف أيضا ثلاث عشرة بقدر ما كان يحلف الميت ، ولا يكفيه إتمام خمس وعشرين ، ولو مات وارث القتيل بعد حلفه ، أخذ وارثه ما كان له من الدية ، وإن مات بعد نكوله ، لم يكن لوارثه أن يحلف ; لأنه بطل حقه من القسامة بنكوله ، لكن لوارثه تحليف المدعى عليه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        للقتيل ابنان ، حلف أحدهما ، ومات الآخر قبل أن يحلف عن ابنين ، فحلف أحدهما حصته ، وهي ثلاث عشرة ونكل الآخر ، وزع الربع الذي [ ص: 21 ] نكل عنه على أخيه وعمه على نسبة ما يأخذان من الدية ، فيخص الأخ أربع وسدس يضم ذلك إلى حصته في الأصل ، وهي اثنتا عشرة ونصف ، فتبلغ ست عشرة وثلثين فتكمل ، وقد حلف ثلاث عشرة ، فيحلف الآن أربعا ، ويخص العم ثمان وثلث ، فيحلف تسعا فيكمل له أربع وثلاثون .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        جميع ما سبق في أيمان القسامة من جهة المدعي ، أما إذا ادعى القتل بغير لوث وتوجهت اليمين على المدعى عليه ، فهل يغلظ عليه بالعدد ؟ قولان ، أظهرهما : نعم ; لأنها يمين دم ، فإن نكل المدعى عليه رد على المدعي ما توجه على المدعى عليه على اختلاف القولين .

                                                                                                                                                                        ويجري القولان في يمين المدعي مع الشاهد الواحد ، ولو كانت الدعوى في محل اللوث ، ونكل المدعي عن القسامة ، غلظت اليمين على المدعى عليه بالعدد قطعا ، وقيل : بطرد القولين ، فإن قلنا : بالتعدد ، وكانت الدعوى على جماعة مع لوث أو مع عدمه ، فهل يقسط الخمسون عليهم بعدد الرءوس ، أم يحلف كل واحد خمسين ؟ قولان ، أظهرهما : الثاني ، فإن قسطنا فكانت الدعوى على اثنين ، حاضر وغائب ، حلف الحاضر خمسين ، فإذا حضر الغائب وأنكر ، حلف خمسا وعشرين ، وإن كانا حاضرين ، فنكل أحدهما ، حلف الآخر خمسين ; لأن البراءة عن الدم لا تحصل بدونها على قول التعدد ، ويحلف المدعي على الناكل خمسين ، ولو نكل المدعى عليه عن اليمين والمدعون جماعة وقلنا : بالتعدد ، فهل توزع الأيمان على قدر مواريثهم أم يحلف كل واحد خمسين ؟ فيه القولان السابقان .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        هذا الذي سبق حكم الأيمان في دعوى النفس ، فأما دعوى [ ص: 22 ] الطرف والجرح ، فقد سبق أنه لا قسامة فيها ، ولا اعتبار باللوث ، ولكن يحلف المدعى عليه ، وهل تتعدد اليمين ؟ يبنى على أن يمين المدعى عليه في دعوى النفس هل تتعدد ؟ إن قلنا : لا ، فهنا أولى ، وإلا فقولان أو وجهان ، أشبههما بالترجيح التعدد ، قال ابن الصباغ : هذا الخلاف في دعوى العمد المحض ، أما في الخطأ وشبه العمد فتتحد فيه اليمين بلا خلاف ، ولم يفرق الأكثرون كما في النفس ، وإذا قلنا : بالتعدد ، فذلك إذا كان الواجب فيما يدعيه قدر الدية ، فإن نقص كبدل اليد والحكومة ، فقولان ، أظهرهما : يحلف المدعى عليه خمسين يمينا أيضا ، والثاني : توزع الخمسون على الأبدال ، ففي اليد خمس وعشرون ، وفي الموضحة ثلاث ، ولو زاد الواجب على دية نفس ، فهل يزاد في قدر الأيمان بزيادة قدر الأروش ؟ طرد الإمام حكاية الخلاف فيه ، ولو كانت الدعوى في الطرف على جماعة ، فهل يحلف كل واحد منهم بقدر ما يحلف المنفرد ، أم يوزع على رءوسهم ؟ فيه قولان كما سبق ، ومتى نكل المدعى عليه عن اليمين المعروضة عليه ، ردت على المدعي ، وحلف بقدر ما كان يحلف المدعى عليه ، فإن تعدد المدعون ، فهل توزع عليهم بقدر الإرث ، أم يحلف كل واحد كما يحلف المنفرد ؟ فيه القولان السابقان .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        كان مع المدعي شاهد ، فأراد أن يحلف معه ، فإن قلنا : تتحد اليمين مع الشاهد في دعوى الدم ، نظر ، إن جاء بصيغة الإخبار أو شهد على اللوث ، حلف معه خمسين يمينا ، وإن جاء بلفظ الشهادة وحافظ على شرطها ، حلف معه يمينا واحدة ، قال الإمام : ويثبت المال إن كان القتل خطأ ، وإن كان المدعى قتل عمد ، فلا قصاص قطعا ، وفي المال خلاف يأتي نظيره إن شاء الله تعالى ، وإذا قلنا : تعدد اليمين مع الشاهد ، فلا بد من خمسين يمينا بكل حال .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية