الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الطرف الرابع فيمن يحلف في القسامة :

                                                                                                                                                                        وهو كل من يستحق بدل الدم ، فيدخل فيه السيد ، فإنه إذا قتل عبده ، أقسم على المذهب كما سبق ، وعلى هذا يقسم المكاتب إذا قتل عبده ، ولا يقسم سيده ، بخلاف ما إذا قتل عبد المأذون له فإن السيد يقسم دون المأذون له ; لأنه لا حق له ، بخلاف المكاتب ، فإن عجز قبل أن يقسم ، وتعرض عليه اليمين ، أقسم السيد ، وإن عجز بعد عرض اليمين ونكوله ، لم يقسم السيد ، لبطلان الحق بنكوله ، كما لا يقسم [ ص: 26 ] الوارث إذا نكل المورث ، ولكن يحلف المدعى عليه ، وإن عجز بعد ما أقسم ، أخذ السيد القيمة ، كما لو مات الولي بعد ما أقسم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ملك عبده عبدا ، فقتل وهناك لوث ، فإن قلنا : العبد لا يملك بتمليك السيد ، أقسم السيد ; لأن المقتول عبده ، فإن أقسم ، كانت القيمة له ولورثته بعده ، وإن قلنا : يملك بالتمليك ، بني ذلك على أن من ملك عبده شيئا فأتلف ، هل ينقطع حق العبد منه وتكون القيمة للسيد ، أم ينتقل حقه إلى القيمة ؟ وفيه وجهان ، أصحهما : الانقطاع ؛ لضعف ملكه ولأنه لو أعتق أو انتقل من ملك السيد ، انقلب ما ملكه إلى ملك سيده ، فإن قلنا : ينقطع ، أقسم السيد ، وإلا فوجهان ، أحدهما : يقسم العبد كالمكاتب ، والثاني : لا ، لضعف ملكه ، فعلى هذا لا يقسم السيد أيضا ; لأنه لا ملك له ، ولو استرجع السيد الملك ، وأعاد القيمة إلى ملكه ، لم يقسم السيد أيضا ; لأنها لم تثبت للعبد ، فكيف يخلفه السيد فيها ، وإن قلنا : يقسم العبد ، فقد قيل : لا يقسم السيد أيضا ; لأن العبد لم يكن له حين قتل ، ولا صارت القيمة له حينئذ ، وإنما يملك بالاسترجاع ، قال الإمام : ويجوز أن يجعل السيد خلفا عن العبد كالوارث مع مورثه ، ولو ملك مستولدته عبدا كان كما لو ملك عبده القن في جميع ما ذكرنا ، وإن عتقت بموت السيد ، ولو أوصى لمستولدته بعبد ، فقتل وهناك لوث ، أقسم السيد وأخذ القيمة وبطلت الوصية ، ولو أوصى لها بقيمة عبده بعدما قتل ، أو أوصى لها بقيمة عبده فلان إن قتل ، صحت الوصية ; لأن القيمة له ولا يقدح فيها الخطر ; لأن الوصية تحتمل الإخطار ، وليست الوصية للمستولدة كالوصية للقن ; لأنها تعتق بالموت وهو وقت استحقاق الوصية ، والقن ينتقل إلى الوارث ، فلا يمكن تصحيح الوصية له ، قال [ ص: 27 ] الروياني : وعلى هذا لو أوصى لعبد نفسه ، ثم أعتقه قبل موته ، صحت الوصية ، وعن القاضي أبي الطيب ، أنه لو باعه بعد الوصية ، صحت الوصية ، ويثبت الاستحقاق للمشتري ، وإذا صحت الوصية لها ، فإن أقسم السيد ثم مات فالقيمة لها ، وإن لم يقسم حتى مات ولم يوجد منه نكول ، أقسم الورثة ، وتكون القيمة لها بالوصية ، وإنما أقسم الورثة ، وإن كانت القيمة للمستولدة ; لأن العبد يوم القتل كان للسيد ، والقسامة من الحقوق المعلقة بالقتل ، فيرثونها كسائر الحقوق ، وتثبت القيمة له ، ثم يصرفونها إلى المستولدة بموجب وصيته ، ولهم غرض ظاهر في تنفيذ وصيته وتحقيق مراده ، وهذا كما أنهم يقضون دينه ، وليس سبيلهم فيه سبيل سائر الناس ، حتى لو مات من عليه دين ولا تركة له ، فقضاه الورثة من مالهم ، لزم المستحق قبوله بخلاف ما لو تبرع به أجنبي ، قال الإمام : وغالب ظني أني رأيت فيه خلافا ، قال : ولو أوصى لإنسان بمال ومات ، فجاء من ادعى استحقاقه هل يحلف الوارث لتنفيذ الوصية ؟ فيه احتمالان ، والفرق أن القسامة تثبت على خلاف القياس احتياطا للدماء .

                                                                                                                                                                        ولو نكل الورثة عن القسامة ، فهل للمستولدة أن تقسم وتأخذ القيمة ؟ قولان ، أحدهما : نعم ; لأن الحق لها ، وأظهرهما : لا ; لأن القسامة لإثبات القيمة ، وهي تثبت للسيد ثم تنتقل بالوصية إليها ، ولا يقوم مقام السيد إلا وارثه ، ويجري القولان في المديون إذا لم يقسم ورثته ، هل يقسم غرماؤه ؟ ولا خلاف أن للورثة الدعوى ، وطلب اليمين من المدعى عليه إذا لم يقسموا ، وأما المستولدة ، فهل لها الدعوى وطلب اليمين ؟ قيل : إن قلنا : لها أن تقسم ، فلها ذلك ، وإلا فلا ، والمذهب والمنصوص أن لها ذلك ، وإن قلنا : لا تقسم ; لأنها صاحبة القيمة ، وأما القسامة فللورثة ، فلو نكل الخصم ردت اليمين عليها ، قال الإمام : وعلى هذا لا يفتقر طلبها ودعواها إلى إعراض الورثة عن الطلب .

                                                                                                                                                                        [ ص: 28 ] واعلم أن الورثة وإن كان لهم القسامة ، لا تجب عليهم وإن كانوا متيقنين ، فالأيمان لا تجب قط .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو قطعت يد عبد ، فعتق ومات بالسراية ، فقد سبق أن الواجب فيه الدية ، وذكرنا قولين ، أظهرهما : للسيد أقل الأمرين من نصف قيمة العبد وكمال الدية ، والثاني : أنه أقل الأمرين من كمال القيمة وكمال الدية ، فلو وقعت هذه الجناية في محل لوث وكان الواجب قدر ما يأخذه السيد ولا يفضل شيء للورثة ، فهل يقسم ؟ يبنى على ما لو مات رقيقا ، إن قلنا : يقسم ، فهنا أولى ، وإلا فوجهان ، أصحهما : يقسم أيضا ; لأن القتيل حر ، والواجب دية ، وإن كان يفضل عن الواجب شيء للورثة ، أقسم الورثة قطعا ، وفي قسامة السيد الخلاف ، إن قلنا : لا يقسم ، أقسم الورثة خمسين يمينا ، وإلا فالسيد مع الوارث كالوارثين ، فيعود القولان في أن كل واحد يحلف خمسين يمينا ، أم توزع الأيمان عليهما بحسب ما يأخذان .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا ارتد ولي القتيل بعد ما أقسم ، فالدية ثابتة ، ولها حكم سائر أمواله التي ارتد عليها ، وإن ارتد قبل أن يقسم ، قال الأصحاب : الأولى أن لا يعرض الحاكم القسامة عليه ; لأنه لا يتورع عن اليمين الكاذبة ، فإذا عاد إلى الإسلام ، أقسم ، ولو أقسم في الردة ، فالمذهب صحة القسامة ، واستحقاق الدية بها ، وهي كمال كسبه بعد الردة باحتطاب واصطياد ونحوهما ، ولو ارتد الولي قبل موت المجروح ، ومات المجروح والولي مرتد ، لم يقسم ; لأنه لا يرث بخلاف ما إذا قتل العبد ، وارتد [ ص: 29 ] السيد ، لا يفرق بين أن يرتد قبل موت العبد أم بعده ، بل يقسم إذا قلنا بالقسامة في بدل العبد ; لأن استحقاقه بالملك لا بالإرث .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قتل من لا وارث له بجهة خاصة وهناك لوث ، فلا قسامة لعدم المستحق المعين ، لكن ينصب القاضي من يدعي عليه ويحلفه ، فإن نكل ، فهل يقضي عليه بنكوله ؟ فيه خلاف يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية