الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب اشتباه الجاني بغيره .

                                                            عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها وأمر بها فأحرقت في النار ، قال فأوحى الله إليه فهلا نملة واحدة ، وفي رواية لهما فأوحى الله إليه في أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح ؟ وقال البخاري (أحرقت) .

                                                            التالي السابق


                                                            (باب اشتباه الجاني بغيره) عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأحرق من تحتها ، وأمر بها فأحرقت في النار قال فأوحى الله عز وجل إليه فهلا نملة واحدة .

                                                            (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) انفرد به مسلم من هذا الوجه ، وأخرجه الشيخان ، وأبو داود ، والنسائي من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، واتفق عليه الشيخان ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة عن عبد الرحمن كلاهما عن أبي هريرة بلفظ قرصت نملة نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه ألأن قرصتك نملة .

                                                            قال البخاري أحرقت

                                                            وقال [ ص: 190 ] الباقون أهلكت أمة من الأمم تسبح ، ، (الثانية) قوله لدغته بالدال المهملة بالغين المعجمة أي قرصته ، ويستعمل ذلك في سائر ذوات السموم أما بالذال المعجمة ، والعين المهملة فهو الخفيف من إحراق النار كالكي ونحوه ، والجهاز بفتح الجيم وكسرها المتاع ، وقوله (فأمر بها فأحرقت) قد يفهم منه أن المراد تلك النملة لكن يرده قوله فهلا نملة واحدة فيحتمل أن يعود الضمير على الشجرة ، وهي التي عاد عليها الضمير في قوله من تحتها ، والمراد إحراقها لتحرق النمل ، ويحتمل أن يعود على قرية النمل ، وهي منزلهن ، وإن لم يتقدم لها في هذه الرواية ذكر بدليل قوله في الرواية الأخرى فأمر بقرية النمل فأحرقت ، وقوله (فهلا نملة واحدة) واحدة منصوب بفعل محذوف تقديره فهلا أحرقت أو عاقبت نملة واحدة ، وهي التي قرصتك لأنها الجانية ، وأما غيرها فليست لها جناية .

                                                            (الثالثة) قال النووي قال العلماء هذا الحديث محمول على أن شرع ذلك النبي كان فيه جواز قتل النمل ، وجواز الإحراق بالنار ، ولم يعتب عليه في أصل القتل والإحراق بل في الزيادة على النملة الواحدة ، وأما في شرعنا فلا يجوز الإحراق بالنار للحيوان إلا إذا أحرق إنسانا فمات بالإحراق فلوليه الاقتصاص بإحراق الجاني ، وسواء في منع الإحراق بالنار القمل وغيره للحديث المشهور لا يعذب بالنار إلا الله .

                                                            وأما قتل النمل فمذهبنا أنه لا يجوز ، واحتج أصحابنا فيه بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم انتهى ، وقال القاضي عياض فيه دليل على قتل النمل وكل مؤذ لكن الله تعالى عتبه على التشفي لنفسه بقتله هذه الأمة العظيمة المسبحة بسبب واحدة ، وقيل كان عتبه على ذلك بسبب ما جاء في خبر أنه مر بقرية أهلكها الله تعالى فقال يا رب قد كان فيهم صبيان ودواب ، ومن لم يقترف ذنبا ثم أنه نزل تحت شجرة فجرت له هذه القصة التي قدرها الله تعالى على يده تنبيها له على ما سبق منه .

                                                            وفيه أن الجنس المؤذي يقتل ، وإن لم يؤذ ، وتقتل أولادها ، وإن لم تبلغ الأذى على أحد القولين ثم حكي عن الإمام الماوردي أنه قال يكره قتل النمل عندنا إلا أن يؤذي [ ص: 191 ] ولا يقدر على دفعهم إلا بالقتل فيستخف ، وقال أبو العباس القرطبي ظاهر هذا الحديث أن هذا النبي إنما عاتبه الله تعالى حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع أذاه منه واحد .

                                                            وكان الأولى به الصبر والصفح لكن وقع للنبي أن هذا النوع مؤذ لبني آدم ، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق فلو انفرد له هذا النظر ، ولم ينضم إليه التشفي الطبيعي لم يعاتب ، والله أعلم لكن لما انضاف التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه ، والذي يؤيد ما ذكرنا التمسك بأصل عصمة الأنبياء ، وأنهم أعلم الناس بالله وبأحكامه ، وأشدهم له خشية انتهى .

                                                            واعلم أن هذا الذي أطلق النووي من أنه لا يجوز قتل النمل عندنا محله في النمل الكبير المعروف بالسليماني كذا قاله الخطابي والبغوي في أواخر شرح السنة قال البغوي .

                                                            وأما الصغير المسمى بالنمل فاسمه الذر ، وقتله جائز بغير الإحراق ، وفي الاستقصاء عن الإيضاح للصيمري أن الذي يؤذي منه يجوز قتله بل يستحب ، ونقل المحب الطبري شارح التنبيه عن الشافعي رحمه الله أنه أطلق كراهة قتل النمل ، وهو يدل على كل حال على الجواز في الصغير فإنه إما عام أو خاص ، وقد بوب أبو داود في سننه على هذا الحديث قتل الذر .

                                                            فدل على أنه فهم أن قصة هذا النبي كانت في الذر فحينئذ يستوي حكمها عندنا ، وفي شريعته .

                                                            (الرابعة) الظاهر أن المراد في قوله فهلا نملة واحدة تلك النملة التي قرصته أي هلا اقتصرت على معاقبتها وحدها دون من لم يجن عليك ، وإذا لم يكن له سبيل إلى معرفتها بعينها احتاج إلى الانكفاف عن الكل ، ولهذا بوب عليه المصنف رحمه الله (اشتباه الجاني بغيره) ويكون هذا وجه العتب .

                                                            وهو الذي أشار إليه النووي فيما تقدم بقوله بل الزيادة على النملة الواحدة لكن ما أدري كيف يجتمع هذا مع جواز قتل النمل في شريعة ذلك النبي وإحراقه فإنه حينئذ يباح له ذلك ، وإن لم يلدغه منها شيء ، والظاهر أن القضية إنما ذكرت ضرب مثل له في سؤاله عن إهلاك القرية ، وفيها من لا ذنب له إن صح ذلك فإن الله تعالى له بحكم الملك أن يهلك من لا ذنب له فإذا اختلط المذنب بغيره ، وأهلكوا بعام شمل الفريقين ، ولهذا النبي على ما قرروه أن يحرق من النمل ما لم يلدغه .

                                                            فإذا [ ص: 192 ] اختلط ما لدغه بغيره فله إهلاك الجميع فلم ينزل عليه هذا الوحي إنكارا لما فعل بل جوابا له وإيضاحا لحكمة شمول الهلاك لجميع أهل تلك القرية ، والله أعلم .

                                                            (الخامسة) قال أبو العباس القرطبي في قوله أهلكت أمة من الأمم تسبح مقتضاه أنه تسبيح مقال ، ونطق كما قد أخبر تعالى عن النملة التي سمع سليمان عليه السلام قولها ادخلوا مساكنكم إلى آخره ، وفيه دلالة على أن لها نطقا لكن لا يسمع إلا بخرق عادة لنبي أو ولي ، ولا يلزم من عدم إدراكنا له عدمه في نفسه ، وقد يجد الإنسان في نفسه قولا ، ولا يسمع منه إلا بنطق ، وقد خرق الله العادة لنبينا عليه الصلاة والسلام فأسمعه كلام النفس من قوم تحدثوا مع أنفسهم فأخبرهم به وكذا وقع لكثير من الأولياء ، وإياه عنى بقوله عليه الصلاة والسلام إن في أمتي محدثين وإن عمر منهم انتهى بمعناه .




                                                            الخدمات العلمية