الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2012 (12)

                                                                                              كتاب الحج

                                                                                              (1) باب

                                                                                              ما يجتنبه المحرم من اللباس والطيب

                                                                                              [ 1047 ] عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ما يلبس المحرم من الثياب ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس خفين ، وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ، ولا الورس .

                                                                                              رواه أحمد (2 \ 3 و 4 )، والبخاري (133)، ومسلم (1177) (1)، وأبو داود (1737)، والترمذي (831)، والنسائي (5 \ 22)، وابن ماجه (2914) .

                                                                                              [ ص: 255 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 255 ] (12)

                                                                                              كتاب الحج

                                                                                              قد تقدم الكلام على الحج من حيث اللغة والعرف في أول كتاب الإيمان ، واختلف في زمان فرض الحج ; فقيل : سنة خمس من الهجرة . وقيل : سنة تسع ، وهو الصحيح ; لأن فتح مكة كان في التاسع عشر من رمضان سنة ثماني سنين من الهجرة ، وحج بالناس في تلك السنة عتاب بن أسيد ، ووقف بالمسلمين ، ووقف المشركون على ما كانوا يفعلون في الجاهلية ، فلما كانت سنة تسع فرض الحج ، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر فحج بالناس تلك السنة ، ثم أتبعه علي بن أبي طالب بسورة براءة ، فقرأها على الناس في الموسم ، ونبذ للناس عهدهم ، ونادى في الناس : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . ووافقت حجة أبي بكر في تلك السنة أن كانت في شهر ذي القعدة ; على ما كانوا يديرون الحج في كل شهر من شهور السنة ، فلما كانت سنة عشر حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجته المسماة : بحجة الوداع ، على ما يأتي في حديث جابر وغيره . ووافق النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك السنة أن وقع الحج في ذي الحجة ، في زمانه ووقته الأصلي الذي فرضه الله [ ص: 256 ] فيه ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) ، وسيأتي لهذا مزيد بيان .

                                                                                              وأجمع المسلمون على وجوب الحج في الجملة ، وأنه مرة في العمر . ولوجوبه شروط ; وهي : العقل ، والبلوغ ، والاستطاعة ، على ما يأتي تفصيلها . وهذه الشروط هي المتفق عليها ، فأما الإسلام فقد اختلف العلماء فيه : هل هو من شروط الوجوب ؟ أو من شروط الأداء ؟ وأما الحرية : فالجمهور على اشتراطها في الوجوب ، وفيها خلاف .

                                                                                              واختلف أصحاب مالك ، والشافعي في وجوب الحج : هل هو على الفور ، أو على التراخي ، فذهب العراقيون من أصحابنا : إلى أنه على الفور . وهو قول المزني ، وأبي يوسف . وذهب أكثر المغاربة ، وبعض العراقيين : إلى أنه على التراخي . وهو قول محمد بن الحسن . وكلهم اتفقوا : على أنه يجوز تأخيره السنة والسنتين .

                                                                                              وسبب الخلاف اختلافهم في مطلق الأمر ; هل يقتضي الفور ، أو لا يقتضيه ؟ وهذا الأصل تنكشف حقيقته في علم الأصول . وأيضا : فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخر الحج سنة بعد إيجابه ; كما قدمنا .

                                                                                              (1) ومن باب: ما يجتنبه المحرم من اللباس

                                                                                              قوله وقد سئل عما يلبسه المحرم من الثياب - : ( لا تلبسوا القمص . . .) الحديث ; إنما أجاب - صلى الله عليه وسلم - بما لا يلبس ، وإن كان قد سئل عما يلبس ; لأن ما لا يلبس المحرم منحصر ، وما يلبسه غير منحصر ، فعدل إلى المنحصر فأجابه به ، وقد أجمع المسلمون على أن ما ذكره في هذا الحديث لا يلبسه المحرم مع الرفاهية والإمكان ، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بالقميص والسراويل : على كل مخيط ، وبالعمائم والبرانس : على كل ما يغطي الرأس ; مخيطا كان أو غيره ، وبالخفاف : [ ص: 257 ] على كل ما يستر الرجل مما يلبس عليها ، وإن لباس هذه الأمور جائز في غير الإحرام .

                                                                                              وقوله : ( إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين ، وليقطعهما أسفل من الكعبين ) ; هذا الحديث رد على من قال : إن المحرم لا يقطع الخفين لأنه إضاعة مال ، وهذا من هذا القائل حكم بالعموم على الخصوص ، وهو عكس ما يجب ; إذ هو : إعمال المرجوح وإسقاط الراجح ، وهو فاسد بالإجماع ، ثم من قال بإباحة قطع الخف ، فإذا لبسه فهل تلزمه فدية ، أم لا تلزمه ؟ قولان :

                                                                                              الأول : لأبي حنيفة . والثاني : لمالك ، وهو الأولى ; لأنه لو لزمته لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - للسائل حين سأله ; إذ ذاك محل البيان ووقته ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة بالإجماع ، وأيضا فحينئذ يكون قطع الخف لا معنى له ; إذ الفدية ملازمة بلباسه غير مقطوع ، فأما لو لبس الخفين المقطوعين مع وجود النعل للزمه الفدية بلبسهما ، فإنه إنما أباح الشارع له لباسهما مقطوعين بشرط عدم النعلين ، فلبسهما كذلك غير جائز ، هذا قول مالك ، واختلف فيه قول الشافعي .

                                                                                              وقوله : ( ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس ) ; هذا مما أجمعت الأمة عليه ; لأن الزعفران والورس من الطيب ، واستعمالهما ينافي بذاذة الحاج ، وشعثه المطلوب منه ، وأيضا فإنهما من مقدمات الوطء ومهيجاته ، والمحرم ممنوع من الوطء ومقدماته ، ويستوي في المنع منهما : الرجال والنساء ، [ ص: 258 ] وعلى لابس ذلك الفدية عند مالك ، وأبي حنيفة ، ولم يرها الثوري ، ولا الشافعي ، وإسحاق ، وأحمد إذا لبس ذلك ناسيا ، فأما المعصفر فرآه الثوري وأبو حنيفة طيبا كالمزعفر ، ولم يره مالك ، ولا الشافعي طيبا ، وكره مالك المقدم منه ، واختلف عنه : هل على لابسه فدية ، أم لا ؟ وأجاز مالك سائر الثياب المصبغة بغير هذه المذكورات ، وكرهها بعضهم لمن يقتدى به .




                                                                                              الخدمات العلمية