الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في مصرف المرأة في مالها ومال زوجها 2494 - ( عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا أنفقت [ ص: 21 ] المرأة من طعام زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ، ولزوجها أجره بما كسب ، وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا } رواه الجماعة ) .

                                                                                                                                            2495 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها عن غير أمره فله نصف أجره } متفق عليه ورواه أبو داود وروي أيضا عن أبي هريرة موقوفا في المرأة تصدق من بيت زوجها قال : لا ، إلا من قوتها والأجر بينهما ولا يحل لها أن تصدق من مال زوجها إلا بإذنه )

                                                                                                                                            2496 - ( وعن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : { يا رسول الله ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير ، فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي ؟ فقال : ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك } متفق عليه وفي لفظ عنها : { أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم : إن الزبير رجل شديد ويأتيني المسكين فأتصدق عليه من بيته بغير إذنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارضخي ولا توعي فيوعي الله عليك } رواه أحمد )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            أثر أبي هريرة الموقوف عليه سكت عنه أبو داود والمنذري ، وإسناده لا بأس به ومحمد بن سوار قد وثقه ابن حبان وقال : يغرب في الباب عن أبي أمامة عند الترمذي وحسنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تنفق المرأة من بيت زوجها إلا بإذنه ، قيل : يا رسول الله ولا الطعام ؟ قال : ذلك أفضل أموالنا } قوله : ( إذا أنفقت المرأة . . . إلخ ) قال ابن العربي : اختلف السلف فيما إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها ، فمنهم من أجازه لكن في الشيء اليسير الذي لا يأبه له ولا يظهر به النقصان

                                                                                                                                            ، ومنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج ولو بطريق الإجمال وهو اختيار البخاري ، وأما التقييد بغير الإفساد فمتفق عليه ومنهم من قال : المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن : النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه وليس ذلك بأن ينفقوا على الغرباء بغير إذن ومنهم من فرق بين المرأة والخادم فقال : المرأة لها حق في مال الزوج والنظر في بيتها ، فجاز لها أن تتصدق ، بخلاف الخادم فليس له تصرف في متاع مولاه فيشترط الإذن فيه قال الحافظ : هو متعقب بأن المرأة إن استوفت حقها فتصدقت منه فقد تخصصت به ، وإن تصدقت من غير حقها رجعت المسألة كما كانت . قوله : ( وللخازن ) في رواية للبخاري من حديث أبي موسى التقييد بكون الخازن مسلما ، فأخرج الكافر لكونه لا نية له وبكونه أمينا فأخرج الخائن لأنه [ ص: 22 ] مأزور وتكون نفسه بذلك طيبة لئلا تعدم النية فيفقد الأجر وهي قيود لا بد منها قوله : ( مثل ذلك ) ظاهره يقتضي تساويهم في الأجر ، ويحتمل أن يكون المراد بالمثل حصول الأجر في الجملة ، وإن كان أجر الكاسب أوفر ، لكن قوله في حديث أبي هريرة : " فله نصف أجره " يشعر بالتساوي

                                                                                                                                            . قوله : ( لا ينقص بعضهم . . . إلخ ) المراد عدم المساهمة والمزاحمة في الأجر ، ويحتمل أن يراد مساواة بعضهم بعضا . قوله : ( عن غير أمره ) ظاهر هذه الرواية أنه يجوز للمرأة أن تنفق من بيت زوجها بغير إذنه ويكون لها أو له نصف أجره على اختلاف النسختين كما سيأتي ، وكذلك ظاهر رواية أحمد المذكورة في حديث أسماء ، ولكن ليس فيها تعرض لمقدار الأجر ويمكن أن يقال : يحمل المطلق على المقيد ، ولا يعارض ذلك قول أبي هريرة المذكور في الباب ، لأن أقوال الصحابة ليست بحجة ولا سيما إذا عارضت المرفوع وإنما يعارضه حديث أبي أمامة الذي ذكرناه ، فإن ظاهره نهي المرأة عن الإنفاق من مال الزوج إلا بإذن ، والنهي حقيقة في التحريم ، والمحرم لا يستحق فاعله عليه ثوابا ويمكن أن يقال : إن النهي للكراهة فقط ، والقرينة الصارفة إلى ذلك حديث أبي هريرة وحديث أسماء ، وكراهة التنزيه لا تنافي الجواز ولا تستلزم عدم استحقاق الثواب

                                                                                                                                            . قال في الفتح : والأولى أن يحمل ، يعني حديث أبي هريرة على ما إذا أنفقت من الذي يخصها إذا تصدقت به بغير استئذانه فإنه يصدق كونه من كسبه فيؤجر عليه وكونه بغير أمره ويحتمل أن يكون أذن لها بطريق الإجمال ، لكن انتفى ما كان بطريق التفصيل . قال : ولا بد من الحمل على أحد هذين المعنيين وإلا فحيث كان من ماله بغير إذنه لا إجمالا ولا تفصيلا ، فهي مأزورة بذلك لا مأجورة ، وقد ورد فيه حديث ابن عمر عند الطيالسي وغيره ا هـ قوله : ( فله نصف أجره ) هكذا في رواية للبخاري وفي رواية أخرى " فلها نصف أجره " وعلى النسخة الأولى يكون للرجل الذي تصدقت امرأته من كسبه بغير إذنه نصف أجره على تقدير وقوع الإذن منه لها ، وعلى النسخة الثانية يكون للمرأة المتصدقة بغير إذن زوجها نصف أجرها على تقدير إذنه لها

                                                                                                                                            . قال في الفتح : أو المعنى بالنصف أن أجره وأجرها إذا جمعا كان لها النصف من ذلك ، فلكل منهما أجر كامل وهما اثنان فكأنهما نصفان . قوله : ( أن أرضخ ) بالضاد والخاء المعجمتين . قال في القاموس : رضخ له : أعطاه عطاء غير كثير . ( قوله ولا توعي فيوعي الله عليك ) بالنصب لكونه جواب النهي ، والمعنى لا تجمعي في الوعاء وتبخلي بالنفقة فتجازي بمثل ذلك . [ ص: 23 ]

                                                                                                                                            2497 - ( وعن سعد قال : { لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء قالت امرأة جليلة كأنها من نساء مضر : يا نبي الله إنا كل على آبائنا وأبنائنا - قال أبو داود : وأرى فيه : وأزواجنا فما يحل لنا من أموالهم ؟ قال : الرطب تأكلنه وتهدينه } رواه أبو داود ، وقال : الرطب : الخبز والبقل والرطب ) .

                                                                                                                                            2498 - ( وعن جابر قال : { شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة ، ثم قام متوكئا على بلال ، فأمر بتقوى الله ، وحث على طاعته ، ووعظ الناس وذكرهم ، ثم مضى حتى أتى النساء ، فوعظهن وذكرهن وقال : تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم ، فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين فقالت : لم يا رسول الله ؟ قال : لأنكن تكثرن الشكاة ، وتكفرن العشير ; قالت : فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            حديث سعد سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح إلا محمد بن سوار ، وقد وثقه ابن حبان وقال : يغرب قوله : ( قال : الرطب ) بفتح الراء وسكون الطاء المهملة ، والرطب المذكور آخرا بضم الراء وفتح الطاء . قال في القاموس : الرطب : ضد اليابس ، ثم قال : وبضمة وبضمتين : الرعي الأخضر من البقل والشجر ، قال : وتمر رطيب مرطب وأرطب النخل : حان أوان رطبه وفي الحديث دليل على أنه يجوز للمرأة أن تأكل من مال ابنها وأبيها وزوجها بغير إذنهم وتهادي ، ولكن ذلك مختص بالأمور المأكولة التي لا تدخر فلا يجوز لها أن تهادي بالثياب والدراهم والدنانير والحبوب وغير ذلك ، وقوله : ( إنا كل ) بكسر الهمزة وتشديد النون ، وكل بفتح الكاف وتشديد اللام خبر إن : أي نحن عيال عليهم ليس لنا من الأموال ما ننتفع به .

                                                                                                                                            قوله : ( فقامت امرأة ) قال الحافظ : لم أقف على تسمية هذه المرأة إلا أنه يختلج في خاطري أنها أسماء بنت يزيد بن السكن التي تعرف بخطيبة النساء ، فإنها روت أصل هذه القصة في حديث أخرجه البيهقي والطبراني وغيرهما بلفظ : { خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النساء وأنا معهن ، فقال : يا معشر النساء إنكن أكثر حطب جهنم ، فناديت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت عليه جريئة : ولم يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير } فلا يبعد أن تكون هي التي أجابته فإن القصة واحدة .

                                                                                                                                            قوله : ( من سطة النساء ) أي من خيارهن ، 6 والسفعاء : التي في خدها غبرة وسواد والعشير : المراد به هنا الزوج [ ص: 24 ] والحديث فيه فوائد : منها : ما ذكره المصنف ههنا لأجله ، وهو جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها أو على مقدار معين من مالها كالثلث ، ووجه الدلالة من القصة ترك الاستفصال عن ذلك كله قال القرطبي : ولا يقال في هذا : إن أزواجهن كانوا حضورا لأن ذلك لم ينقل ، ولو نقل فليس فيه تسليم أزواجهن لهن ذلك ، فإن من ثبت له حق فالأصل بقاؤه حتى يصرح بإسقاطه ، ولم ينقل أن القوم صرحوا بذلك ، وسيأتي الخلاف في ذلك قريبا .

                                                                                                                                            ومنها : أن الصدقة من دوافع العذاب لأنه أمرهن بالصدقة ثم علل بأنهن أكثر أهل النار لما يقع منهن من كفران النعم وغير ذلك ، ومنها : بذل النصيحة والإغلاط بها لمن احتيج إلى ذلك في حقه ، ومنها : جواز طلب الصدقة من الأغنياء للمحتاجين ولو كان الطالب غير محتاج ومنها : مشروعية وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام وتذكيرهن بما يجب عليهن وحثهن على الصدقة وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد ، ومحل ذلك كله إذا أمنت الفتنة والمفسدة .

                                                                                                                                            2499 - ( وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها } رواه أحمد والنسائي وأبو داود ، وفي لفظ : { لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها } رواه الخمسة إلا الترمذي ) الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وقد أخرجه البيهقي والحاكم في المستدرك ، وفي إسناده عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وحديثه من قسم الحسن وقد صحح له الترمذي أحاديث ، ومن دون عمرو بن شعيب هم رجال الصحيح عند أبي داود وفي الباب عن خيرة امرأة كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه .

                                                                                                                                            قوله : ( أمر ) أي عطية من العطايا ، ولعله عدل عن العطية إلى الأمر لما بين لفظ المرأة والأمر من الجناس الذي هو نوع من أنواع البلاغة .

                                                                                                                                            وقد استدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز للمرأة أن تعطي عطية من مالها بغير إذن زوجها ولو كانت رشيدة وقد اختلف في ذلك ، فقال الليث : لا يجوز لها ذلك مطلقا لا في الثلث ولا فيما دونه إلا في الشيء التافه ، وقال طاوس ومالك : إنه يجوز لها أن تعطي مالها بغير إذنه في الثلث لا فيما فوقه فلا يجوز إلا بإذنه وذهب الجمهور إلى أنه يجوز لها مطلقا من غير إذن من الزوج إذا لم تكن سفيهة ، فإن كانت سفيهة لم يجز قال في الفتح : وأدلة الجمهور من الكتاب والسنة كثيرة انتهى ، وقد استدل البخاري في صحيحه على جواز ذلك بأحاديث ذكرها في باب هبة المرأة لغير زوجها [ ص: 25 ] من كتاب الهبة ومن جملة أدلة الجمهور حديث جابر المذكور قبل هذا ، وحملوا حديث الباب على ما إذا كانت سفيهة غير رشيدة .

                                                                                                                                            وحمل مالك أدلة الجمهور على الشيء اليسير ، وجعل حده الثلث فما دونه ومن جملة أدلة الجمهور الأحاديث المتقدمة في أول الباب القاضية بأنه يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه ، وإذا جاز لها ذلك في ماله بغير إذنه فبالأولى الجواز في مالها ; والأولى أن يقال : يتعين الأخذ بعموم حديث عبد الله بن عمرو وما ورد من الواقعات المخالفة له تكون مقصورة على مواردها أو مخصصة لمثل من وقعت له من هذا العموم وأما مجرد الاحتمالات فليست مما تقوم به الحجة .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية