الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2019 [ 1049 ] وعن يعلى بن أمية ، وقال لعمر بن الخطاب : ليتني أرى نبي الله - صلى الله عليه وسلم- حين ينزل عليه ، فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم- بالجعرانة وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ثوب قد أظل به عليه ، معه فيه ناس من أصحابه ، فيهم عمر إذ جاءه رجل عليه جبة متضمخ بطيب فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب ؟ فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم- ساعة ثم سكت ، فجاءه الوحي . فأشار عمر بيده إلى يعلى بن أمية : تعال فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم- محمر الوجه يغط ساعة ، ثم سري عنه ، فقال: أين الذي يسألني عن العمرة آنفا ؟ فالتمس الرجل فجيء به ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها ، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك . وقد رواه من طرق ، ولم يذكر في شيء منها ثلاث مرات .

                                                                                              وفي رواية : فقال السائل: إني أحرمت بالعمرة وعلي هذا ، وأنا متضمخ بالخلوق ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : ما كنت صانعا في حجك ؟ فقال: أنزع عني هذه الثياب ، وأغسل عني هذا الخلوق ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم- : ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك .

                                                                                              رواه أحمد (4 \ 222)، والبخاري (1536)، ومسلم (1180)، وأبو داود (1819)، والترمذي (836)، والنسائي (5 \ 130 و 132 ) .

                                                                                              [ ص: 259 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 259 ] و ( الجعرانة ) : ميقات من مواقيت العمرة ، وفيه لغتان : التشديد في الراء ، والكسر في العين ، والتخفيف في الراء والإسكان في العين .

                                                                                              و (المتضمخ ) : المتدهن بالطيب . و ( الخلوق ) : بفتح الخاء : أخلاط من الطيب تجمع بالزعفران . و (الغط والغطيط) : هو صوت النفس المتردد الذي يخرج من النائم ، وهو البهر الذي كان يغشاه عند معاينة الملك ، وكانت تلك الحالة أشد الوحي عليه . و (سري عنه) : كشف عنه . و (آنفا) ; أي : الساعة . و (يلتمس) : يطلب .

                                                                                              وقوله : ( أما الطيب فاغسله ) ; دليل على منع المحرم من استعمال الطيب في جسده ، ووجه هذا المنع أن الطيب داعية من دواعي النكاح - على ما قدمناه - ، ولا خلاف في منعه من الطيب بعد تلبسه بالإحرام ، واختلف في استعماله قبل الإحرام ، واستدامته بعد الإحرام : فمنعه مالك تمسكا بهذا الحديث ، وأجاز ذلك الشافعي تمسكا بحديث عائشة ; قالت : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم . وفي أخرى : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ، واعتذر عن الحديث الأول بأن قال : إنما أمره بغسل ما عليه منه [ ص: 260 ] لأن ذلك الطيب كان زعفرانا ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل عن المزعفر ، وإن لم يكن محرما . وهذا التأويل يأباه مساق الحديث ، فتأمله . وقد تأول أصحابنا حديث عائشة تأويلات ; أقربها تأويلان :

                                                                                              أحدهما : أن ذلك الوبيص الذي أبصرته عائشة إنما كان بقايا دهن ذلك الطيب ، تعذر قلعها ، فبقيت بعد أن غسلت .

                                                                                              وثانيهما : قاله أبو الفرج من أصحابنا : إن ذلك من خواصه - صلى الله عليه وسلم - ; لأن المحرم إنما منع من الطيب لئلا يدعوه إلى الجماع ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أملك الناس لإربه ; كما قالت عائشة -رضي الله عنها- ، وقد ظهرت خصائصه في باب النكاح كثيرا .

                                                                                              وقوله : ( فاغسله ثلاث مرات ) ; دليل على المبالغة في غسله ، حتى يذهب ريحه ، وأثره ، لا أن ثلاثا حد في هذا الباب . ويحتمل : أن ثلاثا راجع إلى تكرار قوله : ( فاغسله ) ، فكأنه قال : اغسله ، اغسله ، اغسله . يدل على صحته ما قد روي من عادته - صلى الله عليه وسلم - في كلامه ، فإنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا .

                                                                                              وقوله : ( وأما الجبة فانزعها ) ; رد على الشعبي ، والنخعي حيث قالا : إن ذلك الثوب يشق ; لأنه إذا خلعه من رأسه غطى رأسه ، والمحرم ممنوع من تغطية رأسه . وهذا ليس بشيء ; لأنا لا نسلم أن هذه التغطية منهي عنها ; لأنه لا ينفك عن المنهي إلا بها ، فصار هذا الخلع مأمورا به ، فلا يكون هو الذي نهي عنه المحرم . ويجري هذا مجرى من حلف ألا يلبس ثوبا هو لابسه ، ولا يركب دابة هو راكبها . وأيضا : فإن هذه التغطية لا ينتفع بها ، فلا تكون هي المنهي عنها للمحرم ، فإنه إنما نهي عن تغطية ينتفع بها على ما يأتي إن شاء الله تعالى .

                                                                                              وقوله : ( ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك ) ; هذا اللفظ جاء في أكثر [ ص: 261 ] الروايات غير مبين المراد ، ناقصا ، مقلوبا . وقد تخبط فيه كثير ممن تأوله على انفراده . والذي يوضح المراد منه على غايته رواية ابن أبي عمر في " الأم " ; وفيها : أن الرجل السائل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إني أحرمت بالعمرة وعلي هذا ، وأنا متضمخ بالخلوق . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ما كنت صانعا في حجك ؟) قال : أنزع عني هذه الثياب ، وأغسل عني هذا الخلوق . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ما كنت صانعا في حجك ، فاصنعه في عمرتك) . وهذا سياق حسن . ومعنى واضح ، تلخيصه : أن الرجل كان يعرف : أن المحرم بالحج يجتنب المخيط ، والطيب . وظن: أن حكم المحرم بالعمرة ليس كذلك ، فلبس ، وتطيب ، ثم أحرم وهو كذلك ، ثم وقع في نفسه من ذلك شيء ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ; فقال له : ( ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك ) ; يعني : من اجتناب ما كنت تجتنبه فيه . وهذا معنى واضح ، ومساق حسن للحديث ، فليغتبط به . وقد يستدل به للشافعي على قوله : إنه لا فدية على المتضمخ المحرم ، ولا على اللابس ; إذ لم يرو في طريق من طرق هذا الحديث : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بفدية . وقد اعتذر من يلزمه الفدية على ذلك عن هذا الحديث ، وهو أبو حنيفة ، فإنه يلزمها إياه مطلقا . ومالك ، وهو يلزمها إياه إذا انتفع بذلك ، [ ص: 262 ] فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أوحي إليه في ذلك ، ولا تقدم له فيه شيء . ولمالك : بأنه لم يطل ذلك عليه ، ولم ينتفع به ، والله أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية