الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        المؤمن إذا أكره على أن يتكلم بكلمة الكفر فتكلم بها ، لا يحكم بردته ، فلا تبين زوجته ، ولو مات ورثه ورثته المسلمون ، وسبق في أول الجنايات أنه يباح له التكلم بكلمة الكفر بالإكراه ، وأن الأصح أنه لا يجب ، وأن الأفضل أن يثبت ولا يتكلم بها ، وهل تقبل الشهادة على الردة مطلقا ، أم لا تقبل حتى يفصل لاختلاف الناس فيما يوجبها ؟ فيه قولان ، أظهرهما : الأول ، وعلى هذا لو شهد عدلان بردته فقال : كذبا ، أو ما ارتددت ، قبلت شهادتهما ، ولا يغنيه التكذيب ، بل يلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلما ، ولا ينفعه ذلك في بينونة زوجته ، وكذا الحكم لو شرطنا التفصيل ، ففصلا ، وكذبهما ، فلو قال : كنت مكرها فيما فعلته ، نظر ، إن كانت قرائن الأحوال تشهد له ، بأن كان في أسر الكفار ، أو كان محفوفا بجماعة منهم وهو مستشعر ، صدق بيمينه ، قال صاحب " البيان " وغيره : وكذا الحكم لو قامت بينة بإقراره بالبيع [ ص: 73 ] وغيره وكان مقيدا أو محبوسا ، فقال : كنت مكرها ، وإن لم تشهد القرائن بصدقه ، بأن كان في دار الإسلام ، لم يقبل قوله ، وأجريت عليه أحكام المرتدين ، وكذا لو كان في دار الحرب وهو مخلى آمن ، ولو لم يقل الشاهدان : ارتد ، بل قالا : تلفظ بكلمة الكفر ، فقال : صدقا ، ولكنني كنت مكرها ، قال الشيخ أبو محمد وتابعوه عليه : يقبل قوله ; لأنه ليس فيه تكذيب الشاهد بخلاف ما إذا شهد بالردة ، فإن الإكراه ينافي الردة ولا ينافي التلفظ بكلمتها ، قال الشيخ : والجزم أن يجدد كلمة الإسلام ، فلو قتل قبل التجديد ، فهل يكون قتله مضمونا ; لأن الردة لم تثبت أم لا ; لأن لفظ الردة وجد والأصل الاختيار ؟ فيه قولان قال الإمام : والقولان إذا لم يدع الإكراه ، أو لم يحلف عليه ، فأما إذا ادعاه وحلف عليه ، فقد ثبت الإكراه بالحجة ، فنقطع بأنه مضمون ، وفيما ذكرناه دلالة بينة على أنهما لو شهدا بردة الأسير ، ولم يدع إكراها ، حكم بردته ، ويؤيده ما حكي عن القفال ، أنه لو ارتد أسير مع الكفار ، ثم أحاط بهم المسلمون ، فاطلع من الحصن وقال : أنا مسلم وإنما تشبهت بهم خوفا ، قبل قوله وحكم بإسلامه ، وإن لم يدع ذلك حتى مات ، فالظاهر أنه ارتد طائعا ، وإن مات أسيرا ، وعن نص الشافعي رحمه الله أنهما لو شهدا بتلفظ رجل بالكفر وهو محبوس أو مقيد ، لم يحكم بكفره ، وإن لم يتعرض الشاهدان للإكراه ، وفي " التهذيب " أن من دخل دار الحرب وكان يسجد للصنم ، ويتكلم بالكفر ، ثم قال : كنت مكرها ، فإن فعله في مكان خال ، لم يقبل قوله كما لو فعله في دار الإسلام ، وإن فعله بين أيديهم قبل قوله إن كان أسيرا ، وإن كان تاجرا ، فلا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        مات معروف بالإسلام عن ابنين مسلمين ، فقال أحدهما : مات [ ص: 74 ] مسلما ، وقال الآخر : كفر بعد إسلامه ومات كافرا ، فإن بين سببه ، فقال : سجد لصنم ، أو تكلم بكلام كفر به ، فلا إرث له ، ويصرف نصيبه إلى بيت المال ، وإن أطلق ، فثلاثة أقوال ، أحدها : يصرف إليه نصيبه ولا أثر لإقراره ; لأنه قد يتوهم ما ليس بكفر كفرا ، والثاني : يجعل فيئا ، والثالث وهو الأظهر : يستفصل ، فإن ذكر ما هو كفر ، كان فيئا ، وإن ذكر ما ليس بكفر ، صرف إليه ، ولو قال : مات كافرا ; لأنه كان يشرب الخمر ويأكل الخنزير ، فهل يرثه ؟ قولان ، أظهرهما : نعم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        تلفظ أسير بكلمة كفر مكرها ، لا يحكم بكفره ، فإن مات هناك ، مات مسلما وورثه ورثته المسلمون ، فإن رجع إلى دار الإسلام ، عرض عليه الدين لاحتمال أنه كان مختارا فيما أتى به ، وهنا ثلاثة أشياء ، أحدها : أطلق الجمهور العرض ، وشرط له ابن كج أن لا يؤم الجماعات ولا يقبل على الطاعات بعد العود إلينا ، فإن فعل ذلك فلا عرض .

                                                                                                                                                                        الثاني : سكت الجمهور عن كون هذا العرض مستحبا أم واجبا ، وقال ابن كج : مستحب ; لأنه لو أكره على الكفر في دار الإسلام لا يعرض الإسلام عليه بعد زوال الإكراه باتفاق الأصحاب .

                                                                                                                                                                        الثالث : إذا امتنع بعد العرض ، فالمنقول أنه يحكم بكفره ، ويستدل بامتناعه على أنه كان كافرا عند التلفظ ، ومقتضى هذا أن الحكم بكفره من يومئذ ، قال الإمام : وفي الحكم بكفره احتمال ، ولو مات قبل العرض والتلفظ بالإسلام ، فالصحيح أنه كما لو مات قبل أن يعود إلينا ، وقيل : يموت كافرا وكان من حقه إذا جاء أن يتكلم بكلمة الإسلام .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ارتد الأسير مختارا ثم رأيناه يصلي صلاة المسلمين في دار الحرب ، [ ص: 75 ] فالصحيح المنصوص أنه يحكم بإسلامه بخلاف ما لو صلى في دار الإسلام لا يحكم بإسلامه ; لأنها في دار الحرب لا تكون إلا عن اعتقاد ، وفي دار الإسلام قد تكون للتقية ، وقال الإمام : قال العراقيون : هي إسلام ، ثم استبعده وقال : الوجه في قياس المراوزة القطع بأنه ليس إسلاما ، كما لو رأينا الكافر الأصلي يصلي في دار الحرب ، وسوى صاحب " البيان " بين الأصلي والمرتد ، فقال : إذا صلى الكافر الأصلي بدار الحرب ، حكم بإسلامه ، ولو صلى في دار الإسلام ، لم يحكم به .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا المنقول عن صاحب " البيان " هو قول القاضي أبي الطيب ، وقد سبقت حكاية الرافعي له في صلاة الجماعة ، وشذ المتولي ، فحكاه هناك عن نص الشافعي رحمه الله ، والصحيح الذي عليه الأصحاب أنه لا يكون إسلاما من الأصلي بخلاف المرتد ; لأن علقة الإسلام باقية في المرتد ، فصلاته عود منه إلى ما كان ، ثم سواء في كل ما ذكرنا الصلاة منفردا وإماما ومقتديا ، وهذا إذا لم يسمع منه التشهد فيها ، فإن سمعناه ، فهو مسلم حيث ما كان ، وأي كافر كان ، وفيه وجه شاذ سبق في باب الأذان . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية