الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2028 [ 1052 ] وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل ؟ فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، والطريق الآخر الجحفة ، ومهل أهل العراق من ذات عرق ، ومهل أهل نجد من قرن ، ومهل أهل اليمن من يلملم .

                                                                                              رواه مسلم (1183) (18) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (2) ومن باب: المواقيت

                                                                                              قوله : ( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ) ، وفي حديث أبي الزبير : ( ومهل أهل العراق من ذات عرق ) . معنى وقت : حدد وعين ، وظاهره يدل: على أن هذه الحدود لا يتعداها مريد الإحرام حتى يحرم عندها ، وقد أجمع المسلمون على أن المواقيت مواضع معروفة في الجهات التي يدخل منها إلى مكة .

                                                                                              فـ ( ذو الحليفة ) : ماء من مياه بني جشم ، على ستة أميال ، أو سبعة من المدينة .

                                                                                              و ( الجحفة ) : بين مكة والمدينة ، سمي بذلك لأن السيول أجحفت بما حوله ، وهو على ثمانية مراحل من المدينة . وتسمى أيضا : ( مهيعة ) بسكون الهاء ، وقال بعضهم : بكسرها .

                                                                                              و ( قرن المنازل ) بسكون الراء ، وقد فتحها بعضهم ، والأول أعرف . وقال القابسي : من قاله بالإسكان أراد الجبل ، ومن فتح أراد الطريق الذي يقترب منه ; فإنه موضع فيه طرق مختلفة . ويقال له أيضا : قرن الثعالب ، وهو جبيل مستطيل تلقاء مكة بينه وبينها أربعون ميلا .

                                                                                              و ( يلملم ) : جبيل من جبال تهامة على ليلتين من مكة . ويقال فيه : ( ألملم ) بالهمز .

                                                                                              وأما : ( ذات عرق ) : فثنية ، أو [ ص: 263 ] هضبة بينها وبين مكة يومان وبعض يوم . فهذه مواقيت الحج من المكان ، لم يختلف في شيء منها إلا في ذات عرق ، والجمهور على أنه : ميقات لأهل العراق ، وقد استحب الشافعي لأهل العراق أن يهلوا من العقيق ، معتمدا في ذلك على ما رواه ابن عباس قال : وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المشرق العقيق ، خرجه أبو داود ، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف عندهم . وروي عن بعض السلف : أنه الربذة .

                                                                                              واختلف أيضا فيمن وقت ذات عرق ; ففي البخاري : أن عمر بن الخطاب حد لأهل العراق ذات عرق ، وقاله مالك . وحديث أبي الزبير عن جابر يدل على أنه بتوقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، غير أن فيه : (أحسبه) فلم يجزم بالرواية . وقد روى النسائي من حديث عائشة حديث المواقيت على ما جاء في حديث ابن عمر المتقدم ، وقال : ( ولأهل العراق ذات عرق ) فجزم في الرواية . وهو صحيح ، ولا يستبعد هذا بأن يقال : بأن العراق إذ ذاك لم يكن فتح . فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنها ستفتح ، وسيحج منها ، فأعلم بذلك الميقات . وقد أقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - مواضع لقوم من المسلمين ، وملكهم إياها مع علمه بأنها في أيدي الكفار ; بناء منه على علمه: بأنها تفتح ، كما أقطع تميما الداري بلد الخليل ، وكتب له بذلك ، وأشهد على نفسه أصحابه ، على ما هو معروف مروي ، وبعض تلك المواضع لم تزل بأيدي عقبه حتى الآن .

                                                                                              وقوله : ( هن لهم ولكل آت أتى عليهن من غير أهلهن ) . هن : ضمير جماعة المؤنث العاقل في الأصل ، وقد يعاد على ما لا يعقل ، وأكثر ذلك في العشرة فدون ، فإذا جاوزوها قالوه بهاء المؤنث ، كما قال تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا [ ص: 264 ] ثم قال : منها أربعة حرم ثم قال : فلا تظلموا فيهن أنفسكم ; ومعنى ذلك الكلام : أنها محدودة ; لا يتعداها أحد يريد الإحرام بأحد النسكين .

                                                                                              واختلف فيمن مر على واحد من هذه المواقيت مريدا للإحرام فجاوزه . فعن مالك : يرجع ما لم يحرم ، أو يشارف مكة ، فإذا رجع لم يلزمه دم ، فلو أحرم لم يرجع لزمه الدم . وبه قال ابن المبارك ، والثوري على خلاف عنه . وجماعة من الفقهاء منهم أبو حنيفة يأمرونه بالرجوع ; فإن رجع سقط عنه الدم .

                                                                                              فأما من جاوز الميقات غير مريد للإحرام ، ثم بدا له في النسك ، فجمهور العلماء : على أنه يحرم من مكانه ، ولا شيء عليه ، وقال أحمد ، وإسحاق : يرجع إلى الميقات .

                                                                                              فأما من مر على الميقات قاصدا دخول مكة من غير نسك ، وكان ممن لا يتكرر دخوله إلى مكة ، فهل يلزمه الإحرام منه ، أو لا يلزمه ؟ وإذا لم يلزمه ، فهو على الاستحباب ، ثم إذا لم يفعله ، فهل يلزمه دم ; أو لا يلزمه ؟ اختلف فيه أصحابنا .

                                                                                              وظاهر الحديث : أنه إنما يلزم الإحرام من أراد مكة لأحد النسكين خاصة . وهو مذهب الزهري ، وأبي مصعب وجماعة من أهل العلم .

                                                                                              وقوله : (فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) ; أي : من كان منزله دون المواقيت إلى مكة فيحرم من منزله ، فخفف عنه الخروج إلى الميقات ، فحينئذ يصير منزله ميقاتا خاصا به ; إذا ابتدأ الإحرام منه ، فلو مر من منزله بعد المواقيت بميقات من المواقيت المعينة العامة ، وهو يريد الإحرام ، وجب عليه أن يحرم منه ، [ ص: 265 ] ولا يؤخر الإحرام إلى بيته لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( هن لهم ، ولكل آت أتى عليهن من غيرهن ) ، ويخالف هذا من كان ميقاته الجحفة ومر بذي الحليفة ; فإن له أن يؤخر الإحرام إلى الجحفة ; لأن الجحفة ميقات منصوب نصبا عاما ، لا يتبدل ، بخلاف المنزل ، فإنه إضافي ، يتبدل بتبدل الساكن ، فانفصلا ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقوله : ( حتى أهل مكة من مكة ) ; يعني : أنهم يهلون منها ، ولا يخرجون إلى ميقات من المواقيت المذكورة ، فأما الإحرام بالحج فيصح من البلد نفسه ، ومن أي موضع كان من الحل أو الحرم . وأما العمرة فلا بد فيها من الجمع بين الحل والحرم .




                                                                                              الخدمات العلمية