الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وأيضا : فأفعال الصلاة إذا كانت مقدرة وجب أن يكون لها قدر وذلك هو الطمأنينة ، فإن من نقر نقر الغراب لم يكن لفعله قدر أصلا ؛ فإن قدر الشيء ومقداره فيه زيادة على أصل وجوده ، ولهذا يقال للشيء الدائم : ليس له قدر ؛ فإن القدر لا يكون لأدنى حركة بل لحركة ذات امتداد

              وأيضا : فإن الله عز وجل أمرنا بإقامتها ، والإقامة : أن تجعل قائمة ، والشيء القائم : هو المستقيم المعتدل ، فلا بد أن تكون أفعال الصلاة مستقرة معتدلة ، وذلك إنما يكون بثبوت أبعاضها واستقرارها ، وهذا يتضمن الطمأنينة ، فإن من نقر نقر الغراب لم يقم السجود ، ولا يتم سجوده إذا لم يثبت ولم يستقر ، وكذلك الراكع

              يبين ذلك ما جاء في الصحيحين عن قتادة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سووا صفوفكم ؛ فإن تسوية الصف من تمام الصلاة ، وأخرجاه من حديث عبد العزيز بن [ ص: 67 ] صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتموا الصفوف فإني أراكم من خلف ظهري " وفي لفظ : " أقيموا الصفوف " وروى البخاري من حديث حميد ، عن أنس قال : " أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أقيموا صفوفكم وتراصوا ؛ فإني أراكم من وراء ظهري ، وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وبدنه ببدنه "

              فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها بحيث لو خرجوا عن الاستواء والاعتدال بالكلية حتى يكون رأس هذا عند النصف الأسفل من هذا ، لم يكونوا مصطفين ، ولكانوا يؤمرون بالإعادة ، وهم بذلك أولى من الذي صلى خلف الصف وحده ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة ، فكيف بتقويم أفعالها وتعديلها بحيث لا يقيم صلبه في الركوع والسجود ؟ .

              ويدل على ذلك - وهو دليل مستقل في المسألة - ما أخرجاه في الصحيحين عن شعبة ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أقيموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من بعدي - وفي رواية : من بعد ظهري - إذا ركعتم وسجدتم " ، وفي رواية للبخاري عن همام ، عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أتموا الركوع والسجود فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم " ، ورواه مسلم من حديث هشام الدستوائي وابن [ ص: 68 ] أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتموا الركوع والسجود " - ولفظ ابن أبي عروبة - " أقيموا الركوع والسجود فإني أراكم " وذكره

              فهذا يبين أن إقامة الركوع والسجود توجب إتمامها كما في اللفظ الآخر ، وأيضا [فأمره] لهم بإقامة الركوع والسجود يتضمن السكون فيهما ؛ إذ من المعلوم أنهم كانوا يأتون بالانحناء في الجملة ، بل الأمر بالإقامة يقتضي أيضا الاعتدال فيهما وإتمام طرفيهما ، وفي هذا رد على من زعم أنه لا يجب الرفع فيهما وذلك أن هذا أمر للمأمومين خلفه ، ومن المعلوم أنه لم يكن يمكنهم الانصراف قبله

              وأيضا فقوله تعالى : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) [ البقرة ] أمر بالقنوت في القيام لله ، والقنوت : دوام الطاعة لله عز وجل سواء كان في حال الانتصاب أو في حال السجود ، كما قال تعالى : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) [ الزمر : 9 ] ، وقال تعالى : ( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ) [ النساء : 34 ] وقال : ( ومن يقنت منكن لله ورسوله ) [ الأحزاب : 31 ] وقال : ( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) [ الروم ] .

              فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى : ( وقوموا لله قانتين ) إما أن يكون أمرا لإقامة الصلاة مطلقا كما في قوله : ( كونوا قوامين بالقسط ) [ ص: 69 ] [ النساء : 135 ] فيعم أفعالها ، ويقتضي الدوام في أفعالها ، وإما أن يكون المراد به : القيام المخالف للقعود ، فهذا يعم ما قبل الركوع وما بعده ، ويقتضي الطول وهو القنوت المتضمن للدعاء ، كقنوت النوازل وقنوت الفجر عند من يستحب المداومة عليه .

              وإذا ثبت وجود هذا ثبت وجوب الطمأنينة في سائر الأفعال بطريق الأولى

              ويقوي الوجه الأول : حديث زيد بن أرقم الذي في الصحيحين عنه قال : " كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة ، فنزلت ( وقوموا لله قانتين ) قال : فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام " حيث أخبر أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ، ومعلوم أن السكوت عن خطاب الآدميين واجب في جميع الصلاة ، فاقتضى ذلك الأمر بالقنوت في جميع الصلاة ، ودل الأمر بالقنوت على السكوت عن مخاطبة الناس ؛ لأن القنوت هو دوام الطاعة ، فالمشتغل بمخاطبة العباد تارك للاشتغال بالصلاة التي هي عبادة الله وطاعته ، فلا يكون مداوما على طاعته ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه ولم يرد بعد أن كان يرد : " إن في الصلاة لشغلا " فأخبر أن في الصلاة ما يشغل المصلي عن مخاطبة الناس ، وهذا هو القنوت فيها ، وهو دوام الطاعة ؛ ولهذا جاز عند جمهور العلماء تنبيه الناسي لما هو مشروع فيها من القراءة والتسبيح ؛ لأن ذلك لا يشغله عنها ، ولا ينافي القنوت فيها

              [ ص: 70 ] وأيضا فإنه سبحانه قال : ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ) [ السجدة ] فأخبر أنه لا يكون مؤمنا إلا من سجد إذا ذكر بالآيات وسبح بحمد ربه .

              ومعلوم أن قراءة القرآن في الصلاة هي تذكير بالآيات ، ولذلك وجب السجود مع ذلك ، وقد أوجب خرورهم سجدا وأوجب تسبيحهم بحمد ربهم ، وذلك يقتضي وجوب التسبيح في السجود ، وهذا يقتضي وجوب الطمأنينة ؛ ولهذا قال طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم : إن مقدار الطمأنينة الواجبة مقدار التسبيح الواجب عندهم .

              والثاني : أن الخرور هو السقوط والوقوع ، وهذا إنما يقال فيما يثبت ويسكن لا فيما لا يوجد منه سكون على الأرض ؛ ولهذا قال الله : ( فإذا وجبت جنوبها ) والوجوب في الأصل هو الثبوت والاستقرار .

              وأيضا : فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : لما نزلت ( فسبح باسم ربك العظيم ) [ الواقعة ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوها في ركوعكم ، ولما نزلت ( سبح اسم ربك الأعلى ) قال : اجعلوها في سجودكم " رواه أبو داود ، وابن ماجه .

              فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعل هذين التسبيحين في الركوع والسجود ، وأمره على الوجوب وذلك يقتضي وجوب ركوع وسجود تبعا لهذا التسبيح ، وذلك هو الطمأنينة .

              [ ص: 71 ] ثم إن من الفقهاء من قد يقول : التسبيح ليس بواجب ، وهذا القول يخالف ظاهر الكتاب والسنة ؛ فإن ظاهرهما يدل على وجوب الفعل والقول جميعا ، فإذا دل دليل على عدم وجوب القول لم يمنع وجوب الفعل

              وأما من يقول بوجوب التسبيح فيستدل لذلك بقوله تعالى : ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ) [ ق : 39 ] وهذا أمر بالصلاة كلها ، كما ثبت في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : " كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ، ثم قرأ ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ) " .

              وإذا كان الله عز وجل قد سمى الصلاة تسبيحا فقد دل ذلك على وجوب التسبيح ، كما أنه لما سماها قياما في قوله تعالى : قم الليل إلا قليلا [ المزمل ] دل على وجوب القيام ، وكذلك لما سماها قرآنا في قوله تعالى : ( وقرآن الفجر ) [ الإسراء : 78 ] دل على وجوب القرآن فيها ، ولما سماها ركوعا وسجودا في مواضع دل على وجوب الركوع والسجود فيها .

              وذلك : أن تسميتها بهذه الأفعال دليل على أن هذه الأفعال لازمة لها ، فإذا وجدت الصلاة وجدت هذه الأفعال ، فتكون من الأبعاض اللازمة ، كما أنهم يسمون الإنسان بأبعاضه اللازمة له [ ص: 72 ] فيسمونه رقبة ورأسا ووجها ونحو ذلك ، كما في قوله تعالى : ( فتحرير رقبة ) [ المجادلة : 3 ] ، ولو جاز وجود الصلاة بدون التسبيح لكان الأمر بالتسبيح لا يصلح أن يكون أمرا بالصلاة ، فإن اللفظ حينئذ لا يكون دالا على معناه ولا على ما يستلزم معناه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية