الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فأفضلها لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " . متفق عليه .

التالي السابق


5 - ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه ) : تصغير هرة . قال المؤلف : قد اختلف الناس في اسم أبي هريرة ونسبه اختلافا كثيرا ، وأشهر ما قيل فيه أنه كان في الجاهلية عبد شمس أو عبد عمرو ، وفي الإسلام عبد الله أو عبد الرحمن ، وهو دوسي . قال الحاكم أبو أحمد : أصح شيء عندنا في اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر ، وغلبت عليه كنيته فهو كمن لا اسم له ، أسلم عام خيبر وشهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لزمه وواظب عليه راغبا في العلم ، راضيا بشبع بطنه ، وكان يدور معه حيثما دار ، وكان من أحفظ الصحابة . قال البخاري : روى عنه أكثر من ثمانمائة رجل ما بين صحابي وتابعي ، فمنهم ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، وأنس . قيل : سبب تلقيبه بذلك ما رواه ابن عبد البر عنه أنه قال : كنت أحمل يوما هرة في كمي ، فرآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( ما هذه ؟ ) : فقلت : هرة ، فقال : ( يا أبا هريرة ) . وفي رواية ابن إسحاق : وجدت هرة ، وحملتها في كمي ، فقيل لي : ما هذه ؟ فقلت : هرة ، فقيل لي : أنت أبو هريرة . ورجح بعضهم الأول ، وقيل : وكان يلعب بها وهو صغير ، وقيل : كان يحسن إليها ، وقيل : المكني له بذلك والده ، ثم جر " هريرة " هو الأصل ، وصوبه جماعة ; لأنه جزء علم ، واختار آخرون منع صرفه كما هو الشائع على ألسنة العلماء من المحدثين وغيرهم ؛ لأن الكل صار كالكلمة الواحدة ، واعترض بأنه يلزم عليه رعاية الأصل والحال معا في كلمة واحدة بل في لفظة ؛ لأن أبا هريرة إذا وقعت فاعلا مثلا فإنها تعرب إعراب المضاف إليه نظرا للحال ، ونظيره خفي . وأجيب بأن الممتنع رعايتهما من جهة واحدة لا من جهتين كما هنا ، وكان الحامل عليه الخفة واشتهار الكنية حتى نسي الاسم الأصلي بحيث اختلف فيه اختلافا كثيرا حتى قال النووي : اسمه عبد الرحمن بن صخر على الأصح من خمسة وثلاثين قولا ، وبلغ ما رواه خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وستين ، والصحيح أنه توفي بالمدينة سنة تسع وخمسين ، وهو ابن ثمان وسبعين ، ودفن بالبقيع ، وما قيل إن قبره بقرب عسفان لا أصل له كما ذكره السخاوي وغيره . [ ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإيمان ) ] أي : ثمراته ، وفروعه فأطلق الإيمان - وهو التصديق والإقرار - عليها مجازا ؛ لأنها من حقوقه ولوازمه [ ( بضع وسبعون ) ] ، وفي رواية : بضعة ، والباء مكسورة فيهما وقد تفتح ، وهي القطعة ، ثم استعملا في العدد لما بين الثلاثة والعشرة . وفي " القاموس " : هو ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى الخمس ، أو ما بين الواحد إلى الأربعة ، أو من أربع إلى تسع ، أو هو سبع اهـ . ويؤيده أنه جاء في بعض الروايات سبع وسبعون ، والذي في الأصل هو رواية مسلم ، جرى عليها أبو داود والترمذي والنسائي ، ورواية البخاري بضع وستون ، ورجحت بأنها المتيقن ، وصوب القاضي عياض الأولى بأنها التي في سائر الأحاديث ، ورجحها جماعة منهم النووي بأن فيها زيادة ثقات ، واعترضه الكرماني بأن زيادة الثقة أن يزاد لفظ في الرواية ، وإنما هذا من اختلاف الروايتين مع عدم تناف بينهما في المعنى ؛ إذ ذكر الأقل لا ينفي الأكثر ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أولا بالستين ، ثم أعلم بزيادة فأخبر بها ، ويجاب بأن هذا متضمن للزيادة كما اعترف به الكرماني ، فصح ما قاله النووي ، والأظهر - والله أعلم - أن المراد به التكثير لا التحديد ، ويحمل الاختلاف على تعدد القضية ، ولو من جهة راو واحد ، وقوله : [ ( شعبة ) ] هي في الأصل غصن الشجر وفرع كل أصل ، وأريد بها هنا الخصلة الحميدة أي : الإيمان ذو خصال متعددة ، وفي رواية صحيحة : بضع وسبعون بابا ، وفي أخرى : أربع وستون بابا ، أي نوعا من خصال الكمال ، وفي أخرى : ثلاث وثلاثون شريعة ، من وافى الله بشريعة منها دخل الجنة ، وروى ابن شاهين أن لله تعالى مائة خلق ، من أتى بخلق منها [ ص: 70 ] دخل الجنة ، وفسرت بنحو الحياء ، والرحمة ، والسخاء ، والتسامح ، وغيرها من أخلاقه تعالى المذكورة في أسمائه الحسنى ، وصفاته العليا . [ ( فأفضلها قول : لا إله إلا الله ) ] أي : هذا الذكر فوضع القول موضعه ، ويؤيده ما ورد بلفظ : أفضل الذكر لا إله إلا الله ، لا موضع الشهادة ; لأنها من أصله لا من شعبه ، والتصديق القلبي خارج عنها بالإجماع ، كذا قيل ، وهو مبني على جعل الإقرار شطر الإيمان ، وأما على القول بأنه شرط فلا مانع من أن يكون المراد بالقول الشهادة لإنبائه عن التوحيد المتعين على كل مكلف الذي لا يصح غيره إلا بعد صحته ، فهو الأصل الذي يبنى عليه سائر الشعب ، أو لتضمنه شرعا معنى التوحيد الذي هو التصديق والتزامه عرفا سائر العبادات على التحقيق ، ويجوز أن يكون المراد أنه أفضلها من وجه ، وهو أنه يوجب عصمة الدم والمال لا أنه أفضل من كل الوجوه ، وإلا يلزم أن يكون أفضل من الصوم والصلاة ، وليس كذلك ، ويجوز أن يقصد الزيادة المطلقة لا على ما أضيف إليه أي : المشهور من بينها بالفضل في الأديان قول لا إله إلا الله . [ ( وأدناها ) ] أي : أقربها منزلة وأدونها مقدارا ومرتبة ، بمعنى أقربها تناولا وأسهلها تواصلا ، من الدنو بمعنى القرب ، فهو ضد : فلان بعيد المنزلة ، أي : رفيعها ، ومن ثم رواه ابن ماجه مكان أفضلها بلفظ : فأرفعها ، وفي رواية : فأقصاها ، أو من الدناءة أي أقلها فائدة ; لأنها دفع أدنى ضرر [ ( إماطة الأذى ) ] أي : إزالته ، وهو مصدر بمعنى المؤذي ، أو مبالغة ، أو اسم لما يؤذي به كشوكة أو حجر أو قذر . قال الحسن البصري في تفسير الأبرار : هم الذين لا يؤذون الذر ، ولا يرضون الضر ، وفي رواية : إماطة العظم أي : مثلا [ ( عن الطريق ) ] : وفي طريق أهل التحقيق أريد بالأذى النفس التي هي منبع الأذى لصاحبها وغيره ، فالشعبة الأولى من العبادات القولية ، والثانية من الطاعة الفعلية ، أو الأولى فعلية والثانية تركية ، أو الأولى من المعاملة مع الحق والثانية من المجاملة مع الخلق ، أو الأولى من التعظيم لأمر الله والثانية من الشفقة على خلق الله ، أو الأولى من القيام بحق الله والثانية من القيام بحق العباد ، فمن قام بهما صدقا كان من الصالحين حقا [ ( والحياء ) ] : بالمد [ ( شعبة ) ] أي : عظيمة [ ( من الإيمان ) ] أي : من شعبه ، والمراد به الحياء الإيماني ، وهو خلق يمنع الشخص من الفعل القبيح بسبب الإيمان ؛ كالحياء من كشف العورة والجماع بين الناس ، لا النفساني الذي خلقه الله في النفوس ، وهو تغير وانكسار يعتري المرء من خوف ما يلام ويعاب عليه ، وإنما أفرد من سائر الشعب ; لأنه الداعي إلى الكل ; فإن الحيي يخاف فضيحة الدنيا وفظاعة العقبى فينزجر عن المناهي ويرتدع عن الملاهي ، ولذا قيل : حقيقة الحياء أن مولاك لا يراك حيث نهاك ، وهذا مقام الإحسان المسمى بالمشاهدة الناشئ عن حال المحاسبة ، والمراقبة ، فهذا الحديث الجليل مجمل حديث جبريل ، فأفضلها مشير إلى الإيمان ، وأدناها مشعر إلى الإسلام ، والحياء موصل إلى الإحسان ، ومن ثم قال - عليه الصلاة والسلام - ( استحيوا من الله حق الحياء ) قالوا : إنا لنستحي من الله حق الحياء يا رسول الله والحمد لله ، قال : ( ليس ذلك ، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، ويذكر الموت ، والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى ، فمن يعمل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء ) . رواه الترمذي ، وصح : الحياء خير كله . قال ابن حبان : تتبعت معنى هذا الحديث مدة وعددت الطاعات فإذا هي تزيد على البضع والسبعين شيئا كثيرا ، فرجعت إلى السنة فعددت كل طاعة عدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان فإذا هي تنقص فضممت ما في الكتاب والسنة فإذا هي سبع وسبعون ، فعلمت أنه المراد . قال السيوطي : قد تكلف جماعة عدها بطريق الاجتهاد - يعني البيضاوي والكرماني وغيرهما - وأقربهم عدا ابن حبان حيث ذكر كل خصلة سميت في الكتاب أو السنة إيمانا ، وقد تبعه شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر في شرح البخاري وتبعناهما ، وذلك الإيمان بالله ، وصفاته ، وحدوث ما دونه ، وبملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والقدر ، وباليوم الآخر ، ومحبة [ ص: 71 ] الله ، والحب في الله ، والبغض فيه ، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتقاد تعظيمه ، وفيه الصلاة عليه ، واتباع سنته ، والإخلاص فيه ، وترك الرياء ، والنفاق ، والتوبة ، والخوف ، والرجاء ، والشكر ، والوفاء ، والصبر ، والرضا بالقضاء ، والحياء ، والتوكل ، والرحمة ، والتواضع ، وفيه توقير الكبير ، ورحمة الصغير ، وترك الكبر ، والعجب ، وترك الحسد والحقد ، وترك الغضب ، والنطق بالتوحيد ، وتلاوة القرآن ، وتعلم العلم وتعليمه ، والدعاء ، والذكر ، وفيه الاستغفار ، واجتناب اللغو ، والتطهر حسا وحكما ، وفيه اجتناب النجاسات ، وستر العورة ، والصلاة فرضا ونفلا ، والزكاة كذلك ، وفك الرقاب ، والجود ، وفيه الإطعام ، والضيافة ، والصيام فرضا ونفلا ، والاعتكاف ، والتماس ليلة القدر ، والحج ، والعمرة ، والطواف ، والفرار بالدين ، وفيه الهجرة ، والوفاء بالنذر ، والتحري في الإيمان ، وأداء الكفارات ، والتعفف بالنكاح ، وأداء حقوق العيال ، وبر الوالدين ، وتربية الأولاد ، وصلة الرحم ، وطاعة السادة ، والرفق بالعبيد ، والقيام بالإمرة مع العدل ، ومتابعة الجماعة ، وطاعة أولي الأمر ، والإصلاح بين الناس ، وفيه قتال الخوارج والبغاة ، والمعاونة على البر ، وفيه الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الحدود ، والجهاد ، وفيه المرابطة ، وأداء الأمانة ، ومنها الخمس ، والقرض مع وفائه ، وإكرام الجار ، وحسن المعاملة ، وفيه جمع المال من حله ، وإنفاق المال في حقه ، وفيه ترك التبذير والسرف ، ورد السلام ، وتشميت العاطس ، وكف الضرر عن الناس ، واجتناب اللهو ، وإماطة الأذى عن الطريق اهـ .

ما ذكره السيوطي في كتابه " النقاية " ، وأدلتها مذكورة في شرحها " إتمام الدراية " ، وتجيء في هذا الكتاب متفرقة ، ولكن ذكرتها لك مجملة لتتأمل فيها مفصلة ، فما رأيت نفسك متصفة بها فاشكر الله على ذلك ، وما رأيت على خلافها فاطلب من الله التوفيق على تحصيل ما هنالك ؛ لأن من وجدت فيه هذه الشعب فهو مؤمن كامل ، ومن نقص منه بعضها فهو مؤمن ناقص ، وأغرب النووي حيث قال : الحديث نص في إطلاق اسم الإيمان الشرعي على الأعمال . وتعقبه ابن حجر وقال : تمسك به القائلون بأن الإيمان فعل جميع الطاعات والقائلون بأنه مركب من الإقرار والتصديق والعمل ، وليس كما زعموا ؛ لأن الكلام في شعب الإيمان لا في ذاته ، إذ التقدير : شعب الإيمان ؛ حتى يصح الإخبار عنه بسبعين شعبة ، إذ يرجع حاصله في الحقيقة إلى أن شعب الإيمان كذا ، وشعب الشيء غيره اهـ .

وفي الحديث تشبيه الإيمان بشجرة ذات أغصان وشعب ، كما أن في القرآن تشبيه الكلمة الدالة على حقيقة الإيمان بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، أي : أصلها ثابت في القلب ، وفرعها أي : شعبها مرفوعة في السماء . ( متفق عليه ) . قال ميرك : وفيه نظر ؛ لأن قوله : " بضع وسبعون شعبة " من أفراد مسلم ، وفي البخاري : " بضع وستون شعبة " ، وكذا قوله : " فأفضلها " إلى قوله : " عن الطريق " من أفراد مسلم ، فلا يكون متفقا عليه ، ورواه الأربعة أيضا إلا أن الترمذي أسقط قوله : والحياء شعبة من الإيمان اهـ .

وذكر العيني أن قوله : " بضع وسبعون " من طريق أبي ذر الهروي ، وقال السيوطي : بضع وستون ، أو بضع وسبعون شعبة ، رواه البخاري هكذا على الشك من حديث أبي هريرة ، ورواه أصحاب السنن الثلاثة بلفظ : بضع وسبعون بلا شك ، وأبو عوانة في صحيحه بلفظ : ست وسبعون ، أو سبع وسبعون ، والترمذي بلفظ أربع وستون اهـ .

فيؤول كلام المصنف بأن أصله من روايتهما دون زيادة : فأفضلها . . . إلخ .




الخدمات العلمية