الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          ولا يطهر جلد الميتة بالدباغ وهل يجوز استعماله في اليابسات بعد الدبغ ؛ على روايتين ، وعنه : يطهر منها جلد ما كان طاهرا في الحياة ولا يطهر جلد غير المأكول بالذكاة .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          ( ولا يطهر جلد الميتة ) أي : الذي نجس بموتها ( بالدباغ ) نقله الجماعة ، وهو ظاهر المذهب ، وقول عمر ، وابنه ، وعائشة ، وعمران بن حصين لما روى عبد الله [ ص: 71 ] بن عكيم قال : أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بشهر أو شهرين ، أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب . رواه الخمسة .

                                                                                                                          ولم يذكر التوقيت غير أبي داود ، وأحمد ، وقال : ما أصلح إسناده ، وقال أيضا : حديث ابن عكيم أصحها ، ورواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن عبد الله ، وفي رواية الطبراني ، والدارقطني : كنت رخصت لكم في جلود الميتة ، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب .

                                                                                                                          وهو دال على سبق الرخصة ، وأنه متأخر ، وإنما يؤخذ بالآخر من أمره عليه السلام . لا يقال : هو مرسل لكونه من كتاب لا يعرف حامله ، لأن كتابه عليه السلام كلفظه ، ولهذا كان يبعث كتبه إلى النواحي بتبليغ الأحكام . فإن قلت : الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ ، وقاله النضر بن شميل ، وأجيب بمنع ذلك كما قاله طائفة من أهل اللغة ، يؤيده أنه لم يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في الانتفاع به قبل الدبغ ، ولا هو من عادة الناس ( وهل يجوز استعماله في اليابسات ) ؛ احترز به عن المائعات ، فإن كثيرا من الأصحاب منعوا من ذلك ، وذكروه رواية واحدة قال ابن عقيل : ولو لم ينجس الماء بأن كانت تسع قلتين ، لأنها نجسة العين ، وجوزه الشيخ تقي الدين إذا لم ينجس الماء ( بعد الدبغ على روايتين ) كذا في ابن تميم ، وفي " المغني " ، و " الشرح " وخصاه بجلد طاهر حال الحياة ، وبعضهم حكاهما قبله ، وإن كان جلد كلب ، أو خنزير ، لما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تنتفعوا من الميتة بشيء رواه الدارقطني بإسناد جيد .

                                                                                                                          والثانية : يجوز وهي الأصح لما روى ابن عباس قال : تصدق على مولاة لميمونة بشاة ، فمر بها [ ص: 72 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هلا استمتعتم بإهابها ، فدبغتموه فانتفعتم به . رواه مسلم .

                                                                                                                          ولأن الصحابة لما فتحوا فارس انتفعوا بسروجهم ، وأسلحتهم ، وذبائحهم ميتة ، ونجاسته لا تمنع الانتفاع به ، كالاصطياد بالكلب ، وإذا جاز استعماله جاز دبغه ، وإلا احتمل التحريم ، واحتمل الإباحة ، كغسل نجاسة بمائع ، وماء مستعمل ، وإن لم يطهر ، قاله القاضي . وكلام غيره خلافه ، قال في " الفروع " : وهو أظهر .

                                                                                                                          فرع : اختلف قول أحمد في جواز الخرز بشعر الخنزير ، وفي كراهته روايتان . وقيل : لا يجوز الخرز برطبه ، وفي يابسه الخلاف ، فإن خرز برطبه وجب غسله .

                                                                                                                          مسألة : يجوز اتخاذ منخل من شعر نجس ، نص عليه ، وقال ابن حمدان رحمه الله : يكره .

                                                                                                                          ( وعنه : يطهر منها جلد ما كان طاهرا في الحياة ) قال ابن حمدان : وهي أولى ، ونقل جماعة أنها آخر قولي أحمد لما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أيما إهاب دبغ فقد طهر رواه مسلم .

                                                                                                                          وهو يتناول المأكول ، وغيره ، فيخرج منه ما كان نجسا في الحياة ، لكون الدبغ إنما يؤثر في رفع نجاسة حادثة بالموت ، فيبقى ما عداه على مقتضى العموم . وعنه : يطهر جلد ما هو مأكول اللحم ، واختارها جماعة ، وهي قول الأوزاعي ، وأبي ثور لقوله عليه السلام : ذكاة الأديم دباغه رواه أحمد . لأنه شبه الدباغ بالذكاة ، وهي إنما تعمل في مأكول اللحم فلم تؤثر في غير مأكول كالذبح ، والأول ظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى لعموم لفظه في [ ص: 73 ] ذلك .

                                                                                                                          وعلى هذا : هل الدباغ يصيره كالحياة ، وهي اختيار المؤلف ، وصاحب " التلخيص " فلا يطهر منها إلا ما كان طاهرا في الحياة ، كالهر ، أو كالذكاة وهي اختيار المجد ، وقال بعضهم : وهي أصح ، فلا يطهر إلا ما تطهره الذكاة ، وقد يخرج عليهما جلد الآدمي ، فإن في طهارته إن قيل بنجاسته وجهين ، والأشهر عدمه ، وحكى ابن حزم الإجماع على أنه يحرم استعمال جلده وسلخه ، والمذهب الأول عند الأصحاب ، لعدم رفع المتواتر بالآحاد ، عدا الشيخ تقي الدين وغيره ، ونقل الجماعة : أنه لا يقنت في الوتر إلا في النصف الأخير من رمضان ، ونقل ابن بشر عنه أنه قال : كنت أذهب إليه ، رأيت السنة كلها ، وهو المذهب عند الأصحاب ، فرفعنا المتواتر بالآحاد لما بينهما من الفرق .

                                                                                                                          مسائل : لا يفتقر الدبغ إلى فعل آدمي ، فلو وقع في مدبغة طهر ، لأنها إزالة نجاسة ، فهو كالمطر يطهر الأرض النجسة ، ولا تحصل بتشميسه ، وقيل : بلى ، وكما في تتريبه أو ريح ، قال في " المغني " : ويفتقر ما يدبغ به أن يكون منشفا للخبث ، قال في " الرعاية " : ولا بد فيه من زوال الرائحة الخبيثة ، ولا تحصل بنجس كالاستجمار ، وفي " الرعاية " بلى ، ويغسل بعده ، وينتفع بما طهر ، وقيل : ويأكل المأكول ، وما طهر بدبغه جاز بيعه وإجارته ، ذكره في " الشرح " وغيره ، وعنه : لا ، كما لو لم يطهر ، وقال أبو الخطاب : يجوز بيعه مع نجاسته كثوب نجس ، قال في " الفروع " : فيتوجه منه بيعه مع نجاسة يجوز الانتفاع بها ، ولا فرق ولا إجماع ، فأما قبل الدبغ [ ص: 74 ] فلا ، ويغسل المدبوغ في وجه ، قال في " المغني " : وهو أولى لقوله عليه السلام : جلد الشاة الميتة يطهره الماء والقرظ رواه أبو داود .

                                                                                                                          ولأن ما يدبغ به ينجس بملاقاة الجلد ، فإذا اندبغ بقيت الآلة نجسة ، فلا تزول إلا بالغسل ، وفي آخر : يطهر لقوله عليه السلام : أيما إهاب دبغ فقد طهر ولأنه طهر بانقلابه فلم يفتقر إلى غسل ، كالخمرة .

                                                                                                                          ( ولا يطهر جلد غير المأكول بالذكاة ، نص عليه ، لما روى أبو المليح بن أسامة ، عن أبيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جلود السباع رواه أحمد ، وأبو داود ، وصححه الحاكم ، ورواه الترمذي ، وزاد وأن يفترش .

                                                                                                                          ولأنه ذبح غير مشروع ، فلم يفد طهارة الجلد ، كذبح المحرم الصيد ، لأن عندنا كل ذبح لا يفيد إباحة اللحم لا يفيد طهارة المذبوح ، قال القاضي : جلود السباع لا يجوز الانتفاع بها قبل الدبغ ولا بعده ، وهل يباح لبس جلد الثعلب ، والصلاة فيه ، أو لا ، أو يباح لبسه فقط ، أو يباحان مع كراهة الصلاة ؛ فيه روايات ، قال أبو بكر : لا يختلف قوله : إنه يلبس إذا دبغ بعد تذكيته .




                                                                                                                          الخدمات العلمية