الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  418 89 - حدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الوارث ، عن أبي التياح ، عن أنس قال : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف ، فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى بني النجار فجاؤوا متقلدي السيوف ، كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب ، وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم ، وأنه [ ص: 175 ] أمر ببناء المسجد ، فأرسل إلى ملأ من بني النجار فقال : يا بني النجار ، ثامنوني بحائطكم هذا . قالوا : لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله . فقال أنس : فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين ، وفيه خرب وفيه نخل ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنبشت ، ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع ، فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة ، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي - صلى الله عليه وسلم - معهم وهو يقول :

                                                                                                                                                                                  اللهم لا خير إلا خير الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم أربعة ؛ الأول : مسدد بن مسرهد . الثاني : عبد الوارث بن سعيد التيمي . الثالث : أبو التياح - بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة - واسمه يزيد بن حميد الضبعي ؛ والكل تقدموا . الرابع : أنس بن مالك .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه القول ، وفيه أن رواته كلهم بصريون .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري في الصلاة في موضعين من الوصايا وفي هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مسدد ، وفي الحج عن أبي معمر عبد الله بن عمرو ، وفي البيوع عن موسى بن إسماعيل ، وفي الوصايا عن إسحاق عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، وفي الهجرة عن إسحاق بن منصور عن عبد الصمد . وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وشيبان بن فروخ ، وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد به ، وعن موسى بن إسماعيل عن حماد . وأخرجه النسائي فيه عن عمران بن موسى عن عبد الوارث نحوه . وأخرجه ابن ماجه فيه عن علي بن محمد بن وكيع عن حماد بن سلمة ببعضه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله ( قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ) ، قال الحاكم : تواترت الأخبار بورود النبي - عليه الصلاة والسلام - قباء يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول . وقال محمد بن موسى الخوارزمي : وكان ذلك يوم الخميس الرابع من تيرماه ومن شهور الروم العاشر من أيلول سنة سبعمائة وثلاثة وثلاثين لذي القرنين . وقال الخوارزمي : من حين ولد إلى حين أسري به أحد وخمسون سنة وسبعة أشهر وثمانية وعشرون يوما ، ومنه إلى اليوم الذي هاجر سنة وشهران ويوم ، فذلك ثلاث وخمسون سنة ، وكان ذلك يوم الخميس . وفي طبقات ابن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من الغار ليلة الاثنين لأربع ليال خلون من شهر ربيع الأول ، فقال - من القيلولة - يوم الثلاثاء بقديد ، وقدم على بني عمرو بن عوف لليلتين خلتا من ربيع الأول ، ويقال : لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، فنزل على كلثوم بن هدم وهو المثبت عندنا . وذكر البرقي أنه - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة ليلا ، وعن جابر : لما قدم المدينة نحر جزورا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فنزل أعلى المدينة ) ، ويروى " في المدينة " ، وفي رواية أبي داود : " فنزل في علو المدينة " بالضم ، وهي العالية .

                                                                                                                                                                                  قوله ( في حي ) بتشديد الياء ، وهي القبيلة ، وجمعها أحياء .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بنو عمرو بن عوف ) بفتح العين فيهما ، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ، وهذه رواية الأكثرين ، وكذا في رواية أبي داود عن شيخه مسدد ، وفي رواية المستملي والحموي : " أربعا وعشرين ليلة " ، وعن الزهري أقام فيهم " بضع عشرة ليلة " ، وعن عويمر بن ساعدة " لبث فيهم ثماني عشرة ليلة ثم خرج " .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ثم أرسل إلى بني النجار ) ، وبنو النجار هم بنو تيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الجموح ، والنجار قبيل كبير من الأنصار منه بطون وعمائر وأفخاذ وفصائل ، وتيم اللات هو النجار ؛ سمي بذلك لأنه اختتن بقدوم ، وقيل : بل ضرب رجلا بقدوم فجرحه ، ذكره الكلبي وأبو عبيدة ، وإنما طلب بني النجار لأنهم كانوا أخواله صلى الله عليه وسلم ، لأن هاشما جده تزوج سلمى بنت عمرو بن زيد من بني عدي بن النجار بالمدينة فولدت له عبد المطلب .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فجاؤوا متقلدي السيوف ) ، هكذا في رواية كريمة بإضافة متقلدين إلى السيوف وسقوط النون للإضافة ، وفي رواية الأكثرين : " متقلدين السيوف " بنصب السيوف وثبوت النون لعدم الإضافة ، وعلى كل حال هو منصوب على الحال من الضمير الذي في " جاءوا " ، والتقلد جعل نجاد السيف على المنكب .

                                                                                                                                                                                  قوله ( على راحلته ) ، الراحلة المركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى ، وكانت [ ص: 176 ] راحلته ناقة تسمى القصواء .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وأبو بكر ردفه ) جملة اسمية في موضع النصب على الحال ، والردف - بكسر الراء وسكون الدال - المرتدف وهو الذي يركب خلف الراكب ، وأردفته أنا إذا أركبته معك ، وذاك الموضع الذي يركبه رداف ، وكل شيء تبع شيئا فهو ردفه ، وكان لأبي بكر ناقة فلعله تركها في بني عمرو بن عوف لمرض أو غيره ، ويجوز أن يكون ردها إلى مكة ليحمل عليها أهله ، وثم وجه آخر حسن وهو أن ناقته كانت معه ولكنه ما ركبها لشرف الارتداف خلفه لأنه تابعه والخليفة بعده .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وملأ بني النجار حوله ) جملة اسمية حالية أيضا ، والملأ أشراف القوم ورؤساؤهم ؛ سموا بذلك لأنهم ملئ بالرأي والغنى ، والملأ الجماعة ، والجمع أملاء . وقال ابن سيده : وليس الملأ من باب رهط وإن كانا اسمين ؛ لأن رهطا لا واحد له من لفظه والملأ رجل مالئ جليل ملأ العين بجهرته فهو كالعرب والزوج ، وحكى ملأته على الأمر أملؤه وملأته كذلك ؛ أي : شاورته ، وما كان هذا الأمر عن ملأ منا أي : عن تشاور وإجماع .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ألقى ) ؛ أي : حتى ألقى رحله ، والمفعول محذوف ، يقال : ألقيت الشيء إذا طرحته .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بفناء أبي أيوب ) ؛ أي : بفناء دار أبي أيوب ، الفناء - بكسر الفاء - سعة أمام الدار ، والجمع أفنية ، وفي المجمل : فناء الدار ما امتد من جوانبها . وفي المحكم : وتبدل الباء من الفاء . واسم أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله تعالى عنه ، وقد ذكرناه عن قريب . وفي شرف المصطفى : لما نزلت الناقة عند دار أبي أيوب جعل جبار بن صخر ينخسها برجله ، فقال أبو أيوب : يا جبار ، أعن منزلي تنخسها ! أما والذي بعثه بالحق لولا الإسلام لضربتك بالسيف . قلت : جبار بن صخر بن أمية بن خنساء السلمي ، ويقال : جابر بن صخر الأنصاري ، شهد العقبة وبدرا ، وهو صحابي كبير ، روى محمد بن إسحاق عن أبي سعد الخطمي سمع جبار بن عبد الله قال : صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وجابر بن صخر فأقامنا خلفه . والصحيح أن اسمه جبار بن صخر ، وذكر محمد بن إسحاق في كتاب المبتدأ وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - تأليفه - أن تبعا - وهو ابن حسان - لما قدم مكة قبل مولد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بألف عام وخرج منها إلى يثرب وكان معه أربعمائة رجل من الحكماء ، فاجتمعوا وتعاقدوا على أن لا يخرجوا منها ، وسألهم تبع عن سر ذلك فقالوا : إنا نجد في كتبنا أن نبيا اسمه محمد هذه دار مهاجره ، فنحن نقيم لعل أن نلقاه ، فأراد تبع الإقامة معهم ، ثم بنى لكل واحد من أولئك دارا واشترى له جارية وزوجها منه وأعطاهم مالا جزيلا وكتب كتابا فيه إسلامه وقوله :


                                                                                                                                                                                  شهدت على أحمد أنه رسول من الله بارئ النسم

                                                                                                                                                                                  في أبيات وختمه بالذهب ودفعه إلى كبيرهم ، وسأله أن يدفعه إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - إن أدركه ، وإلا من أدركه من ولده ، وبنى للنبي - صلى الله عليه وسلم - دارا ينزلها إذا قدم المدينة فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب رضي الله تعالى عنه وهو من ولد ذلك العالم الذي دفع إليه الكتاب . قال : وأهل المدينة من ولد أولئك العلماء الأربعمائة ، ويزعم بعضهم أنهم كانوا الأوس والخزرج ، ولما خرج رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - أرسلوا إليه كتاب تبع مع رجل يسمى أبا ليلى ، فلما رآه - صلى الله عليه وسلم قال : أنت أبو ليلى ومعك كتاب تبع الأول ؟ فبقي أبو ليلى متفكرا ولم يعرف النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : من أنت ؟ فإني لم أر في وجهك أثر السحر ! وتوهم أنه ساحر ، فقال : أنا محمد ، هات الكتاب . فلما قرأه قال : مرحبا بتبع الأخ الصالح - ثلاث مرات . وفي سيرة ابن إسحاق اسمه تبان أسعد أبو كرب ، وهو الذي كسى البيت الحرام ، وفي مغايص الجوهر في أنساب حمير كان يدين بالزبور ، وفي معجم الطبراني : " لا تسبوا تبعا " . وقال الثعلبي بإسناده إلى سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تسبوا تبعا ؛ فإنه كان قد أسلم . وأخرجه أحمد في مسنده .

                                                                                                                                                                                  وتبع بضم التاء المثناة من فوق وفتح الباء المشددة وفي آخره عين مهملة ، لقب لكل من ملك اليمن ككسرى لقب لكل من ملك الفرس ، وقيصر لكل من ملك الروم . وقال عكرمة : إنما سمي تبعا لكثرة أتباعه ، وكان يعبد النار فأسلم . قال : وهذا تبع الأوسط . قال : وأقام ملكا ثلاثا وثلاثين سنة ، وقيل : ثمانين سنة . وقال ابن سيرين : هو أول من كسى البيت وملك الدنيا والأقاليم بأسرها . وحكى القاسم بن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال : كان إذا عرض الخيل قاموا صفا من دمشق إلى صنعاء ، وهذا بعيد إن أراد به صنعاء اليمن ؛ لأن بينها وبين دمشق أكثر من شهرين ، والظاهر أنه أراد بها صنعاء دمشق وهي قرية على باب دمشق من ناحية [ ص: 177 ] باب الفراديس واتصلت حيطانها بالعقبة وهي محلة عظيمة بظاهر دمشق ، وذكر ابن عساكر في كتابه أن تبعا هذا لما قدم مكة وكسى الكعبة وخرج إلى يثرب كان في مائة ألف وثلاثين ألفا من الفرسان ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة ، وذكر أيضا أن تبعا لما خرج من يثرب مات في بلاد الهند ، وذكر السهيلي أن دار أبي أيوب هذه صارت بعده إلى أفلح مولى أبي أيوب فاشتراه منه بعد ما خرب المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار بعد حيلة احتالها عليه المغيرة ، فأصلحه المغيرة وتصدق به على أهل بيت فقراء بالمدينة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ويصلي في مرابض الغنم ) ، المرابض جمع مربض ؛ وهو مأوى الغنم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( إنه أمر ) بكسر الهمزة في " إن " لأنه كلام مستقبل بذاته ؛ أي : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ببناء المسجد ، ويروى " أمر " على بناء المفعول ، فعلى هذا يكون الضمير في " أنه " للشأن ، والمسجد هو بكسر الجيم وفتحها وهو الموضع الذي يسجد فيه ، وفي الصحاح : المسجد بفتح الجيم موضع السجود ، وبكسرها البيت الذي يصلى فيه ، ومن العرب من يفتح في كلا الوجهين . وعن الفراء : سمعنا المسجد والمسجد ، والفتح جائز وإن لم نسمعه . وفي المعاني للزجاج : كل موضع يتعبد فيه مسجد .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ثامنوني ) بالثاء المثلثة ، وقال الكرماني : أي : بيعونيه بالثمن . وقال بعضهم : أي اذكروا لي ثمنة . وقال صاحب التوضيح : أي : قدروا ثمنه لأشتريه منكم وبايعوني فيه . قلت : كل ذلك ليس تفسيرا لموضوع هذه المادة وإن كان يدل على المقصود ، والتفسير هو الذي ذكرته في شرح سنن أبي داود وهو أن هذه اللفظة من ثامنت الرجل في البيع أثامنه إذا قاولته في ثمنه وساومته على بيعه وشرائه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بحائطكم ) ، الحائط هاهنا البستان ، يدل عليه قوله : " وفيه نخل ، وبالنخل فقطع " ، وفي لفظ : " كان مربدا " وهو الموضع الذي يجعل فيه التمر لينشف .

                                                                                                                                                                                  قوله ( لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل ) ، وقال الكرماني ما حاصله : لا نطلب ثمن المصروف في سبيل الله ، وأطلق الثمن على سبيل المشاكلة . ثم قال : ( فإن قلت ) : الطلب يستعمل بمن ، فالقياس أن يقال : إلا من الله - قلت : معناه : لا نطلب الثمن من أحد ، لكنه مصروف إلى الله تعالى . قلت : هذا كله تعسف مع تطويل ، بل معناه : لا نطلب الثمن إلا من الله تعالى ، وكذا وقع عند الإسماعيلي : لا نطلب ثمنه إلا من الله ، وقد جاء ( إلى ) في كلام العرب للابتداء كقوله : فلا يروى إلى ابن أحمد ؛ أي : من ، ويجوز أن تكون إلى هاهنا على معناها لانتهاء الغاية ويكون التقدير ننهي طلب الثمن إلى الله كما في قولهم : أحمد إليك الله ، والمعنى أنهي حمده إليك ، والمعنى : لا نطلب منك الثمن بل نتبرع به ونطلب الثمن - أي : الأجر - من الله تعالى ، وهذا هو المشهور في الصحيحين . وذكر محمد بن سعد في الطبقات عن الواقدي أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - اشتراه منهم بعشرة دنانير دفعها أبو بكر الصديق ، ويقال : كان ذلك مربد اليتيمين فدعاهما النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فساومهما ليتخذه مسجدا ، فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله . فأبى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك . وفي المغازي لأبي معشر : فاشتراه أبو أيوب منهما وأعطاه الثمن فبناه مسجدا . واليتيمان هما سهل وسهيل ابنا رافع بن عمرو بن أبي عمرو من بني النجار ، كانا في حجر أسعد بن زرارة ، وقيل : معاذ بن عفراء ، وقال معاذ : يا رسول الله ، أنا أرضيهما ، فاتخذه مسجدا . ويقال : إن بني النجار جعلوا حائطهم وقفا وأجازه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم . واستدل ابن بطال بهذا على صحة وقف المشاع وقال : وقف المشاع جائز عند مالك ، وهو قول أبي يوسف والشافعي خلافا لمحمد بن الحسن ، والصحيح أن بني النجار لم يوقفوا شيئا بل باعوه ووقفه النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس وقف مشاع .

                                                                                                                                                                                  قوله ( قبور المشركين ) بالرفع بدل ، أو بيان لقوله " ما أقول " .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وفيه خرب ) ، قال أبو الفرج : الرواية المعروفة " خرب " بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء جمع خربة ، كما يقال كلمة وكلم ، وقال أبو سليمان : حدثناه الخراب بكسر الخاء وفتح الراء ، وهو جمع الخراب وهو ما يخرب من البناء في لغة بني تميم ، وهما لغتان صحيحتان رويتا . وقال الخطابي : لعل صوابه خرب بضم الخاء المعجمة جمع خربة وهي الخروق في الأرض ، إلا أنهم يقولونها في ثقبة مستديرة في أرض أو جدار . قال : ولعل الرواية ( جرف ) جمع الجرفة وهي جمع الجرف ، كما يقال خرج وخرجة وترس وترسة ، وأبين من ذلك إن ساعدته الرواية أن يكون حدبا جمع حدبة وهو الذي يليق بقوله فسويت ، وإنما يسوى المكان المحدودب أو موضع من الأرض فيه [ ص: 178 ] خروق وهدوم ، فأما الخرب فإنها تعمر ولا تسوى . وقال عياض : هذا التكلف لا حاجة إليه ، فإن الذي ثبت في الرواية صحيح المعنى كما أمر بقطع النخل لتسوية الأرض أمر بالخرب فرفعت رسومها وسويت مواضعها لتصير جميع الأرض مبسوطة مستوية للمصلين ، وكذلك فعل بالقبور . وفي مصنف ابن أبي شيبة بسند صحيح : وأمر بالحرث فحرث ، وهو الذي زعم ابن الأثير أنه روي بالحاء المهملة والثاء المثلثة يريد الموضع المحروث للزراعة . قلت : كذا هو في رواية الكشميهني ، ولكن قيل : إنه وهم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وبالنخل ) ؛ أي : أمر بالنخل فقطع .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فصفوا النخل ) من صففت الشيء صفا ، وفي مغازي ابن بكير عن ابن إسحاق : جعلت قبلة المسجد من اللبن ، ويقال : بل من حجارة منضودة بعضها على بعض . وسيأتي في الصحيح أن المسجد كان على عهده - صلى الله عليه وسلم - مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل ، ولم يزد فيه أبو بكر شيئا ، ولعل المراد بالقبلة جهتها لا القبلة المعهودة اليوم ، فإن ذلك لم يكن ذلك الوقت ، وورد أيضا أنه كان في موضع المسجد الغرقد فأمر أن يقطع ، وكان في المربد قبور جاهلية فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنبشت وأمر بالعظام أن تغيب ، وكان في المربد ماء مستنجل فستروه حتى ذهب . قوله " مستنجل " أي : نز قليل الجري ، من النجل وهو الماء القليل ، وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع ، وفي هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربع ، ويقال : كان أقل من المائة ، وجعلوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة ثم بنوه باللبن ، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقل معهم اللبن والحجارة بنفسه ويقول :


                                                                                                                                                                                  هذا الجمال لا جمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر

                                                                                                                                                                                  وجعل قبلته إلى القدس ، وجعل له ثلاثة أبواب ؛ بابا في مؤخره ، وبابا يقال له باب الرحمة وهو الباب الذي يدعى باب العاتكة ، والثالث الذي يدخل منه عليه الصلاة والسلام وهو الباب الذي يلي آل عثمان ، وجعل طول الجدار قامة وبسطة ، وعمده الجذوع ، وسقفه جريدا ، فقيل له : ألا تسقفه ؟ فقال : عريش كعريش موسى ؛ خشيبات ، وتمام الأمر أعجل من ذلك . وسيأتي في الكتاب عن قريب عن ابن عمر أن المسجد كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل ، ولم يزد فيه أبو بكر شيئا ، وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا ، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بحجارة منقوشة والقصة وجعل عمده حجارة منقوشة وسقفه بالساج ، وفي الإكليل : ثم بناه الوليد بن عبد الملك في إمرة عمر بن عبد العزيز . وفي الروض : ثم بناه المهدي ، ثم زاد فيه المأمون ، ثم لم يبلغنا تغيره إلى الآن .

                                                                                                                                                                                  قوله ( عضادتيه ) ثنية عضادة بكسر العين ، قال ابن التياني في الموعب : قال أبو عمر : وهي جانب الحوض . وعن صاحب العين : أعضاد كل شيء ما يشده من حواليه من البناء وغيره ، مثال عضاد الحوض وهي صفائح من حجارة ينصبن على شفيره ، وعضادتا الباب ما كان عليهما يطبق الباب إذا أصفق . وفي التهذيب للأزهري : عضادتا الباب الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل منه وشماله . وزاد القزاز : فوقهما العارضة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( يرتجزون ) ؛ أي : يتعاطون الرجز ، من الرجز وهو ضرب من الشعر ، وقد رجز الراجز وأرجزه ، وقد اختلف العروضيون وأهل الأدب في الرجز هل هو شعر أم لا مع اتفاق أكثرهم على أن الرجز لا يكون شعرا ، وعليه يحمل ما جاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ؛ لأن الشعر حرام عليه بنص القرآن العظيم ، وقال القرطبي : الصحيح في الرجز أنه من الشعر ، وإنما أخرجه من الشعر من أشكل عليه إنشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه فقال : لو كان شعرا لما علمه . قال : وهذا ليس بشيء ؛ لأن من أنشد القليل من الشعر أو قاله أو تمثل به على وجه الندور لم يستحق اسم شاعر ولا يقال فيه : إنه يعلم الشعر ولا ينسب إليه . وقال ابن التين : لا يطلق على الرجز شعرا ، إنما هو كلام مرجز مسجع بدليل أنه يقال لصانعه راجز ولا يقال شاعر ، ويقال : أنشد رجزا ولا يقال : أنشد شعرا ، وقيل : إن ما قاله الشاعر ليس برجز ولا موزون . وقد اختلف : هل يحل له الشعر ؟ فعلى القول بنفي الجواز هل يحكي بيتا واحدا ؟ فقيل : لا يتمه إلا متغيرا ، وأبعد من قال : البيت الواحد ليس بشعر . ولما ذكر قول طرفة :


                                                                                                                                                                                  ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

                                                                                                                                                                                  قال : ويأتيك من لم تزود بالأخبار . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، لم يقل هكذا ، وإنما قال :


                                                                                                                                                                                  ويأتيك بالأخبار من لم تزود

                                                                                                                                                                                  فقال : كلاهما سواء . فقال : أشهد أنك لست بشاعر ولا تحسنه . ولما أنشد على ما ذكرنا خرج أن يكون شعرا ، وقد قيل : قوله تعالى : " وما علمناه الشعر " أي : صنعته ، وهي الآلة التي له ، فأما أن يحفظ ما قال الناس فليس بممتنع عليه .

                                                                                                                                                                                  قوله : [ ص: 179 ] ( والنبي معهم ) جملة حالية ؛ أي : والنبي - صلى الله عليه وسلم - يرتجز معهم ، وكذا قوله : وهو يقول حال . قوله : " اللهم " معناه يا الله ، وقال البصريون : اللهم دعاء بجميع أسمائه ؛ إذ الميم تشعر بالجمع كما في عليهم . وقال الكوفيون : أصله الله أمنا بخير ؛ أي : اقصدنا ، فخفف فصار اللهم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( لا خير إلا خير الآخرة ) ، وفي رواية أبي داود : " اللهم إن الخير خير الآخرة " .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فاغفر للأنصار ) ، كذا في رواية الأكثرين ، وفي رواية المستملي والحموي " فاغفر الأنصار " بحذف اللام ، ووجهه أن يضمن " اغفر " معنى استر ، وفي رواية أبي داود عن مسدد شيخ البخاري وشيخه أيضا بلفظ : " فانصر الأنصار " ، والأنصار جمع نصير كأشراف جمع شريف ، والنصير الناصر من نصره الله على عدوه ينصره نصرا ، والاسم النصرة ، وسموا بذلك لأنهم أعانوه - صلى الله عليه وسلم - على أعدائه وشدوا منه . والمهاجرة الجماعة المهاجرة ، وهم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة النبوية محبة فيه وطلبا للآخرة ، والهجرة في الأصل من الهجر ضد الوصل ، وقد هجره هجرا وهجرانا ، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض وترك الأولى للثانية ، يقال منه : هاجر مهاجرة . وقال الكرماني : واعلم أنه لو قرئ هذا البيت بوزن الشعر ينبغي أن يوقف على الآخرة والمهاجرة ، إلا أنه قيل : إنه - صلى الله عليه وسلم - قرأهما بالتاء متحركة خروجا عن وزن الشعر .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستنبط منه من الأحكام ) : فيه جواز الإرداف ، وفيه جواز الصلاة في مرابض الغنم ، وفيه جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع ، وفيه جواز نبش قبور المشركين لأنه لا حرمة لهم .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : كيف يجوز إخراجهم من قبورهم والقبر مختص بمن دفن فيه فقد حازه فلا يجوز بيعه ولا نقله عنه ؟ قلت : تلك القبور التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنبشها لم تكن أملاكا لمن دفن فيها ، بل لعلها غصبت ، فلذلك باعها ملاكها ، وعلى تقدير التسليم أنها حبست فليس بلازم ، إنما اللازم تحبيس المسلمين لا الكفار ، ولهذا قالت الفقهاء : إذا دفن المسلم في أرض مغصوبة يجوز إخراجه فضلا عن المشرك . وقد يجاب بأنه دعت الضرورة والحاجة إلى نبشهم ، فجاز . ( فإن قلت ) : هل يجوز في هذا الزمان نبش قبور الكفار ليتخذ مكانها مساجد ؟ قلت : أجاز ذلك قوم محتجين بهذا الحديث وبما رواه أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف ، وكان من ثمود ، وكان بالحرم يدفع عنه ، فلما خرج أصابته النقمة فدفن بهذا المكان ، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب ، فابتدر الناس فنبشوه واستخرجوا الغصن . قالوا : فإذا جاز نبشها لطلب المال فنبشها للانتفاع بمواضعها أولى ، وليست حرمتهم موتى بأعظم منها وهم أحياء ، بل هو مأجور في ذلك ، وإلى جواز نبش قبورهم للمال ذهب الكوفيون والشافعي وأشهب بهذا الحديث ، وقال الأوزاعي : لا يفعل ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مر بالحجر قال : لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين . فنهى أن يدخل عليهم بيوتهم ، فكيف قبورهم ؟ وقال الطحاوي : قد أباح دخولها على وجه البكاء . ( فإن قلت ) : هل يجوز أن تبنى المساجد على قبور المسلمين ؟ قلت : قال ابن القاسم : لو أن مقبرة من مقابر المسلمين عفت فبنى قوم عليها مسجدا لم أر بذلك بأسا ، وذلك لأن المقابر وقف من أوقاف المسلمين لدفن موتاهم لا يجوز لأحد أن يملكها ، فإذا درست واستغني عن الدفن فيها جاز صرفها إلى المسجد لأن المسجد أيضا وقف من أوقاف المسلمين لا يجوز تملكه لأحد ، فمعناهما على هذا واحد ، وذكر أصحابنا أن المسجد إذا خرب ودثر ولم يبق حوله جماعة والمقبرة إذا عفت ودثرت تعود ملكا لأربابها ، فإذا عادت ملكا يجوز أن يبنى موضع المسجد دارا وموضع المقبرة مسجدا وغير ذلك ، فإذا لم يكن لها أرباب تكون لبيت المال .

                                                                                                                                                                                  وفيه أن القبر إذا لم يبق فيه بقية من الميت ومن ترابه المختلط بالصديد جازت الصلاة فيه ، وفيه جواز قطع الأشجار المثمرة للضرورة والمصلحة إما لاستعمال خشبها أو ليغرس موضعها غيرها أو لخوف سقوطها على شيء تتلفه أو لاتخاذ موضعها مسجدا ، وكذا قطعها في بلاد الكفار إذا لم يرج فتحها لأن فيه نكاية وغيظا لهم وإرغاما . وفيه جواز الارتجاز وقول الأشعار ونحوها لتنشيط النفوس وتسهيل الأعمال والمشي عليها . .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية