الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 457 ] وإذا تزوج الرجل صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمتا على الزوج ) ; لأنه يصير جامعا بين الأم والبنت رضاعا وذلك حرام كالجمع بينهما نسبا ( ثم إن لم يدخل بالكبيرة فلا مهر لها ) ; لأن الفرقة جاءت من قبلها [ ص: 458 ] قبل الدخول بها ( وللصغيرة نصف المهر ) ; لأن الفرقة وقعت لا من جهتها ، والارتضاع وإن كان فعلا منها لكن فعلها غير معتبر في إسقاط حقها كما إذا قتلت مورثها ( ويرجع به الزوج على الكبيرة إن كانت تعمدت به الفساد ، وإن لم تتعمد فلا شيء عليها ، وإن علمت بأن الصغيرة امرأته ) وعن محمد رحمه الله أنه يرجع في الوجهين ، والصحيح ظاهر الرواية ; لأنها وإن أكدت ما كان على شرف السقوط وهو نصف المهر وذلك يجري مجرى الإتلاف لكنها مسببة فيه إما لأن الإرضاع ليس بإفساد للنكاح وضعا وإنما ثبت ذلك باتفاق الحال ، [ ص: 459 ] أو لأن إفساد النكاح ليس بسبب لإلزام المهر بل هو سبب لسقوطه ، إلا أن نصف المهر يجب بطريق المتعة على [ ص: 460 ] ما عرف ، لكن من شرطه إبطال النكاح ، وإذا كانت مسببة يشترط فيه التعدي كحفر البئر ثم إنما تكون متعدية إذا علمت بالنكاح وقصدت بالإرضاع الفساد ، أما إذا لم تعلم بالنكاح أو علمت بالنكاح ولكنها قصدت دفع الجوع والهلاك عن الصغيرة دون الفساد لا تكون متعدية ; لأنها مأمورة بذلك ، ولو علمت بالنكاح ولم تعلم بالفساد لا تكون متعدية أيضا ، وهذا منا اعتبار الجهل لدفع قصد الفساد لا لدفع الحكم . .

التالي السابق


( قوله وإذا تزوج الرجل صغيرة رضيعة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمتا على الزوج ; لأنه صار جامعا بين الأم والبنت من الرضاعة وذلك حرام كالجمع بينهما نسبا ) ثم حرمة الكبيرة حرمة مؤبدة ; لأنها أم امرأته ، والعقد على البنت يحرم الأم . وأما الصغيرة فإن كان اللبن الذي أرضعتها به الكبيرة نزل لها من ولد ولدته للرجل كانت حرمتها أيضا مؤبدة كالكبيرة ; لأنه صار أبا لها ، وإن كان نزل لها من رجل قبله ثم تزوجت هذا الرجل وهي ذات لبن من الأول جاز له أن يتزوجها ثانيا لانتفاء أبوته لها ، إلا إن كان دخل بالكبيرة فيتأبد أيضا ; لأن الدخول بالأم يحرم البنت ، وأما حكم المهر فلا يجب للكبيرة إن لم يكن دخل بها ; لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول وهو الإرضاع وهو مسقط لنصف المهر كردتها وتقبيلها ابن الزوج ، وتعليل السقوط بإضافة الفرقة إليها يعرف منه أن الكبيرة لو كانت مكرهة أو نائمة فارتضعتها الصغيرة أو أخذ شخص لبنها فأوجر به الصغيرة أو كانت الكبيرة مجنونة كان لها نصف المهر لانتفاء إضافة الفرقة إليها ، وإن كان دخل بها فلها كمال المهر لكن لا نفقة عدة لها لجنايتها إن لم تكن مجنونة ونحوها .

وأما الصغيرة فلا يتصور الدخول بالرضيعة فعليه لها نصف مهرها ; لأن الفرقة وقعت لا من جهتها ، والارتضاع وإن كان فعلها وبه وقع الفساد لكن فعلها لا يؤثر في إسقاط حقها [ ص: 458 ] لعدم خطابها بالأحكام وصار كما لو قتلت مورثها فإنها ترثه ولا يكون قتلها موجبا لحرمانها شرعا ، ولأنها مجبورة بحكم الطبع على الارتضاع ، والكبيرة في إلقامها الثدي مختارة فصار كمن ألقى حية على إنسان فلسعته ضمن ; لأن اللسع لها طبع فأضيف إليه .

وأورد عليه ما لو ارتد أبوا صغيرة منكوحة ولحقا بها في دار الحرب بانت من زوجها ولا شيء لها من المهر ولم يوجد الفعل منها أصلا فضلا عن كونه وجد ولم يعتبر . أجيب بأن الردة محظورة في حق الصغيرة أيضا على ما مر ، وإضافة الحرمة إلى ردتها التابعة لردة أبويها ، بخلاف الارتضاع لا حاظر له فتستحق النظر فلا يسقط المهر . وهل يرجع به على الكبيرة إن تعمدت الفساد ؟ يرجع به عليها وإلا لا يرجع ، وتعمده بأن تعلم قيام النكاح وأن الرضاع منها مفسد وتتعمده لا لدفع الجوع أو الهلاك عند خوف ذلك ، فلو لم تعلم النكاح أو علمته ولم تعلمه مفسدا أو علمته مفسدا ولكن خافت الهلاك أو قصدت دفع الجوع لا يرجع ، والقول قول الكبيرة [ ص: 459 ] في ذلك مع يمينها لأنه لا يعرف إلا من جهتها . وعن محمد أنه يرجع في الوجهين ما إذا قصدت الفساد وما إذا لم تقصده . والصحيح ظاهر الرواية عنه وهو قولهما ; لأنها : أي الكبيرة وإن أكدت ما كان على شرف السقوط وهو نصف المهر بأن تكبر الصغيرة فتفعل ما يسقطه ، وذلك أي تأكد ما هو على شرف السقوط يجري مجرى الإتلاف كشهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا يضمنون نصف المهر لذلك لكنها مسببة فيه لا مباشرة ; لأن إلقام الثدي شرط للفساد لا علة له ، بل العلة فعل الصغيرة الارتضاع فكانت الكبيرة مباشرة للشرط العقلي ، وهذا ظاهر ، غير أن المصنف بين كونها مسببة بأن فعل الإرضاع ليس موضوعا لإفساد النكاح بل لتغذية الصغير وتربيته ، وإنما يثبت الفساد باتفاق صيرورتهما أما وبنتا تحت رجل .

وإما لأن إفساد النكاح الكائن بصنعها ليس بسبب لإلزام المهر شرعا بل لإسقاطه ، ثم يجب نصف المهر بطريق المتعة على ما عرف من أن وجوبه لا بقياس بل بالنص ابتداء جبرا للإيحاش وهو معنى الوجوب بطريق المتعة ، لكن من شرطه بطلان النكاح ، وقد وجد فيما نحن فيه ، ولا يخفى أن هذا الترديد بعينه يجري في مباشرة العلة بأن يقال : الارتضاع ليس بإفساد النكاح وضعا ، والإفساد ليس بسبب لإلزام المهر شرعا بل لإسقاطه إلخ ، وليس هو مسببا فالمعول عليه في كونه سببا ما بيناه ، وإذا كانت مسببة يشترط فيه : أي في لزوم الضمان التعدي كحفر البئر تسبيب للهلاك ، فإن كان في ملكه لا يضمن ما تلف فيه أو في غيره ضمنه للتعدي فيه ، وإنما تكون متعدية بمجموع العلمين والقصد على ما تقدم .

واعلم أن توجيه ظاهر الرواية بهذا لا ينتهض على محمد إذا كان من أصله أن المسبب كالمباشر ولهذا جعل فتح باب القفص والإصطبل وحل قيد الآبق موجبا للضمان ; لأن حاصل هذا أنه مسبب فيشترط التعدي وهو لا يلتزم اشتراط التعدي فيه وإنما ينهض الاستدلال على أن المسبب لا يلحق بالمباشر . هذا واستشكل التغريم بقصد الفساد بما إذا قتل رجل زوجة [ ص: 460 ] آخر قبل الدخول فإنه يقضى على الزوج بالمهر ولا يرجع به على القاتل . والجواب أن قتله مستعقب لوجوب القصاص أو الدية فلا يجب شيء آخر بقتل واحد ، وللزوج نصيب مما هو الواجب فلا يضاعف عليه ، وبما إذا أرضعت أجنبيتان لهما لبن من رجل واحد صغيرتين تحت رجل حرمتا على زوجهما ولم يغرما شيئا وإن تعمدتا الفساد .

وأجيب بالفرق بأن فعل الكبيرة هنا مستقل بالإفساد فيضاف الإفساد إليها ، وفعل كل من الكبيرتين هناك غير مستقل به فلا يضاف إلى واحدة منهما ; لأن الفساد باعتبار الجمع بين الأختين منهما ، بخلاف الحرمة هنا ; لأنه للجمع بين الأم والبنت وهو يقوم بالكبيرة ، وقد حرفت هذه المسألة فوقع فيها الخطأ وذلك بأن قيل فأرضعتهما امرأتان لهما منه لبن مكان قولنا لهما لبن من رجل ; لأن في هذه الصورة الصواب الضمان على كل من هاتين المرأتين ; لأن كلا منهما أفسدت لصيرورة كل بنتا للزوج .

( قوله وهذا منا اعتبار الجهل إلخ ) جواب سؤال هو أن الجهل بالأحكام في دار الإسلام عندكم ليس عذرا ، فقال هذا منا اعتبار الجهل لدفع قصد الفساد الذي هو المحظور الديني لا لدفع الحكم الذي هو وجوب الضمان غير أنه إذا اندفع قصد الفساد انتفى الضمان ; لأنه لا يثبت إلا بثبوت التعدي كما قلنا والتعدي به يكون ولا يتصور قصده مع الجهل بما ذكرنا ، فعدم الحكم لعدم العلة لا للجهل مع وجود العلة ، وبهذا يندفع قول من قال تضمن إذا علمت بالنكاح ولم تعلم أن الإرضاع مفسد ; لأنها لا تعذر بجهل الحكم ، ومن فروع هذه المسألة لو كان تحته صغيرتان فأرضعتهما أجنبية معا أو على التعاقب حرمتا ، فلو كن ثلاثا فأرضعتهن بأن ألقمت ثنتين ثدييها وأوجرت الأخرى ما حلبته حرمن أو على التعاقب بانت الأوليان والثالثة امرأته [ ص: 461 ] لأنهن حين ارتضعتا حرمتا فحين ارتضعت الثالثة لم يكن في عصمته سواها ، ولو كن أربعا فأرضعتهن معا أو واحدة ثم الثلاث معا حرمن ، وكذا لو أرضعتهن على التعاقب ; لأنها حين أرضعت الأخريين لم يكن في نكاحه غيرهما ، ولو كان تحته صغيرتان وكبيرة فأرضعتهما الكبيرة على التعاقب بقي نكاح الثانية ; لأنها حين أرضعتها ليس في نكاحه غيرها ، والسابق عقد مجرد على الأم فلا يوجب حرمة البنت ، ولو كن كبيرتين وصغيرتين فأرضعت كل من الكبيرتين صغيرة حرمت عليه الأربع للزوم الجمع بين الأمين وبنتيهما ، ولو أرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرتين ثم أرضعتهما الكبيرة الأخرى وذلك قبل الدخول بالكبيرتين ، فالكبرى الأولى مع الصغرى الأولى بانتا منه لما قلنا ، والصغرى الثانية لم تبن بإرضاع الكبرى الأولى ، والكبرى الثانية إن ابتدأت بإرضاع الصغرى الثانية بانتا منه ، أو بالصغرى الأولى فالصغرى الثانية امرأته ; لأنها حين أرضعت الأولى صارت أما لها وفسد نكاحها لصحة العقد على الصغرى الأولى فيما تقدم ، والعقد على البنت يحرم الأم ثم أرضعت الثانية وليس في نكاحه غيرها




الخدمات العلمية