الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  420 باب : الصلاة في مواضع الإبل

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أي : هذا باب في بيان الصلاة في موضع الإبل ، وفي بعض النسخ : " في مواضع الإبل " بالجمع " . ثم إن البخاري إن أراد من مواضع الإبل معاطنها فالصلاة فيها مكروهة عند قوم خلافا لآخرين ، وإن أراد بها أعم من ذلك فالصلاة فيها غير مكروهة بلا خلاف ، وعلى كل تقدير لم يذكر في الباب حديثا يدل على أحد الفصلين ، وإنما ذكر فيه الصلاة إلى البعير وهو لا يطابق الترجمة ، وعن هذا قال الإسماعيلي : ليس في هذا الحديث بيان أنه صلى في موضع الإبل ، وإنما صلى إلى البعير لا في موضعه ، وليس إذا أنيخ البعير في موضع صار ذلك عطنا أو مأوى للإبل ، انتهى . قلت : لأن العطن اسم لمبرك الإبل عند الماء ليشرب عللا بعد نهل ، فإذا استوفت ردت إلى المراعي ، وأجاب بعضهم عن كلام الإسماعيلي بقوله : إن مراده الإشارة إلى ما ذكر من علة النهي عن ذلك وهي كونها من الشياطين ، كأنه يقول : لو كان ذلك مانعا من صحة الصلاة لامتنع مثله في جعلها أمام المصلي ، وكذلك صلاة راكبها ، وقد ثبت أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يصلي النافلة وهو على بعيره . قلت : سبحان الله ! ما أبعد هذا الجواب عن موقع الخطاب ، فإنه متى ذكر علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل حتى يشير إليه ولم يذكر شيئا في كتابه من أحاديث النهي في ذلك ، وإنما ذكره غيره ؛ فمسلم ذكر حديث جابر بن سمرة من رواية جعفر بن أبي ثور عنه أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ . قال : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : فتوضأ من لحوم الإبل . قال : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : نعم . قال : أصلي في مبارك الإبل ؟ قال : لا .

                                                                                                                                                                                  وأبو داود ذكر حديث البراء من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وفيه : سئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال : لا تصلوا في مبارك الإبل ؛ فإنها من الشياطين .

                                                                                                                                                                                  والترمذي ذكر حديث أبي هريرة من حديث ابن سيرين عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل .

                                                                                                                                                                                  وابن ماجه ذكر حديث سبرة بن معبد من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني ، أخبرني أبي ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تصلي في أعطان الإبل ، وتصلي في مراح الغنم . وذكر ابن ماجه أيضا حديث عبد الله بن مغفل من رواية الحسن عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل ؛ فإنها خلقت من الشياطين . وذكر أيضا حديث ابن عمر من حديث محارب بن دثار يقول : سمعت [ ص: 181 ] عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول : توضؤوا من لحوم الإبل . . . الحديث ، وفيه : ولا تصلوا في معاطن الإبل . وذكر الطبراني في الأوسط حديث أسيد بن حضير قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : توضؤوا من لحوم الإبل ولا تصلوا في مناخها . وأخرج أيضا في الكبير حديث سليك الغطفاني عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال : توضؤوا من لحوم الإبل ولا توضؤوا من لحوم الغنم ، وصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في مبارك الإبل . وذكر أبو يعلى في مسنده حديث طلحة بن عبيد الله قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من ألبان الإبل ولحومها ولا يصلي في أعطانها . وذكر أحمد في مسنده حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في مرابض الغنم ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر . وأخرجه الطبراني في الكبير أيضا ، ولفظه : لا تصلوا في أعطان الإبل ، وصلوا في مراح الغنم . وذكر الطبراني أيضا من حديث عقبة بن عامر في الكبير والأوسط عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل - أو في مبارك الإبل . وذكر أحمد والطبراني أيضا حديث يعيش الجهني المعروف بذي الغرة من رواية عبد الرحمن ابن أبي ليلى عنه قال : عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم . . . الحديث ، وفيه : تدركنا الصلاة ونحن في أعطان الإبل فنصلي فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا . وأخرجه أحمد أيضا .

                                                                                                                                                                                  فهذا كما رأيت وقع في موضع " مبارك الإبل " ، وفي موضع " أعطان الإبل " ، وفي موضع " مناخ الإبل " ، وفي موضع " مرابد الإبل " ، ووقع عند الطحاوي في حديث جابر بن سمرة أن رجلا قال : يا رسول الله ، أصلي في مباءة الغنم ؟ قال : نعم . قال : أصلي في مباءة الإبل ؟ قال : لا . والمباءة المنزل الذي تأوي إليه الإبل ، والأعطان جمع عطن وقد فسرناه ، والمبارك جمع مبرك وهو موضع بروك الجمل في أي موضع كان ، والمناخ - بضم الميم وفي آخره خاء معجمة - المكان الذي تناخ فيه الإبل ، والمرابد - هي بالدال المهملة - الأماكن التي تحبس فيها الإبل وغيرها من البقر والغنم ، وقال ابن حزم : كل عطن فهو مبرك ، وليس كل مبرك عطنا ؛ لأن العطن هو الموضع الذي تناخ فيه عند ورودها الماء فقط ، والمبرك أعم لأنه الموضع المتخذ له في كل حال ، فإذا كان كذلك تكره الصلاة في مبارك الإبل ومواضعها سواء كانت عطنا أو مناخا أو مباءة أو مرابد أو غير ذلك . فدل هذا كله أن علة النهي فيه كونها خلقت من الشياطين ولا سيما فإنه - صلى الله عليه وسلم - علل ذلك بقوله : فإنها خلقت من الشياطين . وقد مر في رواية أبي داود : فإنها من الشياطين . وفي رواية ابن ماجه : فإنها خلقت من الشياطين . فهذا يدل على أن الإبل خلقت من الجن ؛ لأن الشياطين من الجن على الصحيح من الأقوال ، وعن هذا قال يحيى بن آدم : جاء النهي من قبل أن الإبل يخاف وثوبها فتعطب من تلاقي حينئذ ، ألا ترى أنه يقول : إنها جن ومن جن خلقت ؟ واستصوب هذا أيضا القاضي عياض .

                                                                                                                                                                                  وذكروا أيضا أن علة النهي فيه من ثلاثة أوجه أخرى ؛ أحدها : من شريك بن عبد الله أنه كان يقول : نهي عن الصلاة في أعطان الإبل لأن أصحابها من عادتهم التغوط بقرب إبلهم والبول فينجسون بذلك أعطان الإبل ، فنهى عن الصلاة فيها لذلك لا لعلة الإبل ، وإنما هو لعلة النجاسة التي تمنع من الصلاة في أي موضع ما كانت بخلاف مرابض الغنم فإن أصحابها من عادتهم تنظيف مواضعهم وترك البول فيها والتغوط ، فأبيحت الصلاة في مرابضها لذلك ، وهذا بعيد جدا مخالف لظاهر الحديث .

                                                                                                                                                                                  والوجه الثاني أن علة النهي هي كون أبوالها وأرواثها في معاطنها ، وهذا أيضا بعيد أيضا لأن مرابض الغنم تشركها في ذلك .

                                                                                                                                                                                  والوجه الثالث ذكره يحيى بن آدم ؛ أن العلة في اجتناب الصلاة في معاطن الإبل الخوف من قبلها كما ذكرناه الآن ، بخلاف الغنم لأنه لا يخاف منها ما يخاف من الإبل ، وقال الطحاوي : إن كانت العلة هي ما قال شريك فإن الصلاة مكروهة حيث يكون الغائط والبول سواء كان عطنا أو غيره ، وإن كان ما قاله يحيى فإن الصلاة مكروهة حيث يخاف على النفوس سواء كان عطنا أو غيره . وغمز بعضهم في الطحاوي بقوله : قال : إن النظر يقتضي عدم التفرقة بين الإبل والغنم في الصلاة وغيرها كما هو مذهب أصحابه ، وتعقب بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة المصرحة بالتفرقة فهو قياس فاسد الاعتبار .

                                                                                                                                                                                  قلت : هذا الكلام فاسد الاعتبار ؛ لأن الطحاوي ما قال قط : إن النظر يقتضي عدم التفرقة ، وإنما قال : حكم هذا الباب من طريق النظر : أنا رأيناهم لا يختلفون في مرابض الغنم أن الصلاة فيها جائزة ، وإنما اختلفوا في أعطان الإبل ، فقد رأينا حكم لحمان الإبل كحكم لحمان الغنم في طهارتها ورأينا حكم أبوالها كحكم أبوالها في طهارتها أو نجاستها ، فكان يجيء في النظر أيضا أن يكون حكم الصلاة في مواضع الإبل [ ص: 182 ] كهو في مواضع الغنم قياسا ونظرا على ما ذكرنا ، فمن تأمل ما قاله علم أن القياس الذي ذكره ليس من جهة عدم التفرقة وليس هو بمخالف للأحاديث الصحيحة المصرحة بالتفرقة ، وإنما ذهب إلى عدم التفرقة من حيث معارضة حديث صحيح تلك الأحاديث المذكورة وهو قوله صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا . فعمومه يدل على جواز الصلاة في أعطان الإبل وغيرها بعد أن كانت طاهرة ، وهو مذهب جمهور العلماء وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وآخرون ، وكرهها الحسن البصري وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وعن أحمد في رواية مشهورة عنه أنه إذا صلى في أعطان الإبل فصلاته فاسدة وهو مذهب أهل الظاهر ، وقال ابن القاسم : لا بأس بالصلاة فيها . وقال أصبغ : يعيد في الوقت . وفي شرح الترمذي : وحمل الشافعي وجمهور العلماء النهي عن الصلاة في معاطن الإبل على الكراهة إذا كان بينه وبين النجاسة التي في أعطانها حائل ، فإن لم يكن بينهما حائل لا تصح صلاته . قلت : إذا لم يكن بين المصلي وبين النجاسة حائل لا تجوز صلاته في أي مكان كان ، وجواب آخر عن الأحاديث المذكورة أن النهي فيها للتنزيه كما أن الأمر في مرابض الغنم للإباحة وليس للوجوب اتفاقا ولا للندب ، ( فإن قلت ) : في حديث البراء عند أبي داود " وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال : صلوا ؛ فإنها بركة " ، وعند الطبري في حديث عبد الله بن مغفل : " فإنها بركة من الرحمن " ، وفي رواية أحمد : " فإنها أقرب من الرحمة " ، وعند البزار من حديث أبي هريرة : " فإنها من دواب الجنة " ؛ فكل هذا يدل على استحباب الصلاة في مرابض الغنم لما فيها من البركة وقرب الرحمة - قلت : ذكر هذا للترغيب في الغنم لإبعادها عن حكم الإبل ، إذ وصف أصحاب الإبل بالغلظ والقسوة ووصف أصحاب الغنم بالسكينة ، ولا تعلق لاستحباب الصلاة بمرابض الغنم . ( فإن قلت ) : مرابد البقر هل تلحق بمرابض الغنم أم بمرابد الإبل ؟ قلت : ذكر أبو بكر بن المنذر أنها ملحقة بمرابد الغنم ، فلا تكره الصلاة فيها . ( فإن قلت ) : في حديث عبد الله بن عمرو من مسند أحمد إلحاقها بالإبل كما تقدم - قلت : في إسناده عبد الله بن لهيعة ، والكلام فيه مشهور .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية