الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 32 ] ثم قال تعالى : ( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك ) والمعنى : ولولا أن الله خصك بالفضل وهو النبوة ، وبالرحمة . وهي العصمة لهمت طائفة منهم أن يضلوك ، وذلك لأن قوم طعمة كانوا قد عرفوا أنه سارق ، ثم سألوا النبي عليه السلام أن يدفع ويجادل عنه ويبرئه عن السرقة ، وينسب تلك السرقة إلى اليهودي ، ومعنى يضلوك أي : يلقوك في الحكم الباطل الخطأ .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وما يضلون إلا أنفسهم ) بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان ، وشهادتهم بالزور والبهتان ، فهم لما أقدموا على هذه الأعمال فهم الذين يعملون عمل الضالين .

                                                                                                                                                                                                                                            ( وما يضرونك من شيء ) فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال القفال -رحمه الله - : وما يضرونك في المستقبل ، فوعده الله تعالى في هذه الآية بإدامة العصمة له مما يريدون من إيقاعه في الباطل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن المعنى أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت في الباطل ؛ لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال ، وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنا إن فسرنا قوله : ( وما يضرونك من شيء ) بأن المراد : أنه تعالى وعده بالعصمة في المستقبل كان قوله : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ) مؤكدا لذلك الوعد ، يعني : لما أنزل عليك الكتاب والحكمة وأمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات ؟ . وإن فسرنا تلك الآية بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان معذورا في بناء الحكم على الظاهر كان المعنى : وأنزل عليك الكتاب والحكمة ، وأوجب فيها بناء أحكام الشرع على الظاهر ، فكيف يضرك بناء الأمر على الظاهر ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قال القفال -رحمه الله - : هذه الآية تحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون المراد ما يتعلق بالدين ، كما قال : ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) [الشورى : 52] وعلى هذا الوجه تقدير الآية : أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارهما ، وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالما بشيء منهما ، فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك ، لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك وإزلالك .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أن يكون المراد : وعلمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين ، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه كيدهم ، ما تقدر به على الاحتراز عن وجوه كيدهم ومكرهم . ثم قال : ( وكان فضل الله عليك عظيما ) وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب ؛ وذلك لأن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل ، كما قال : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) [الإسراء : 85] ونصيب الشخص الواحد من علوم جميع الخلق يكون قليلا ، ثم إنه سمى ذلك القليل عظيما حيث قال : (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) . وسمى جميع الدنيا قليلا حيث قال : ( قل متاع الدنيا قليل ) [النساء : 77] . وذلك يدل على غاية شرف العلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية