الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1868 - مسألة : وتزويج المريض الموقن بالموت ، أو غير الموقن : مريضة كذلك أو صحيحة جائز ، ويرثها وترثه : مات من ذلك المرض أو صح ثم مات .

                                                                                                                                                                                          وكذلك للمريضة الموقنة وغير الموقنة : أن تتزوج صحيحا أو مريضا ، ولها في كل ذلك الصداق المسمى كالصحيحين ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : يفسخ نكاح المريض قبل الدخول وبعد الدخول ، فإن لم يدخل بها فلا شيء لها ، فإن دخل بها فلها صداق مثلها في ثلث ماله ، بما استحل من فرجها ، ولا ميراث لها منه ألبتة .

                                                                                                                                                                                          قال : فإن مات قبل أن يفسخ نكاحها فعليها الإحداد ولا ميراث لها [ ص: 153 ] قال : فإن صح من مرضه - وقد كان دخل بها - فأرى أن يفارقها وقال مرة أخرى : إن صح من مرضه جاز النكاح .

                                                                                                                                                                                          قال : وكذلك لا يجوز للمريضة أن تتزوج ولا يرثها الذي يتزوجها - دخل بها أو لم يدخل - ولها الصداق عليه إن دخل بها .

                                                                                                                                                                                          قال : ومن طلق امرأته - وهي حامل طلاقا بائنا فلا يجوز لهما أن يتراجعا إذا أتمت ستة أشهر ؟ وهذا تقسيم لا نعرفه عن أحد قبله .

                                                                                                                                                                                          وممن قال : لا يجوز نكاح المريض - : عطاء بن أبي رباح ، إلا أنه قال : إن صح من مرضه جاز ذلك النكاح .

                                                                                                                                                                                          ويحيى بن سعيد الأنصاري قال : صداق التي تتزوج المريض في ثلثه .

                                                                                                                                                                                          واختلف عن ربيعة - : فروى عنه ابن سمعان - وهو ضعيف - أن صداقها في ثلثه ، ولا ميراث لها - قال ابن سمعان : وقضى بهذا أبو بكر بن عمر بن حفص في نكاح بنت المعتمر بن عياض الزهري .

                                                                                                                                                                                          وروي عن ربيعة معمر - وهو ثقة - أن صداقها وميراثها في ثلثه .

                                                                                                                                                                                          قال معمر : وهو قول ابن أبي ليلى .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهو قول الليث بن سعد ، وعثمان البتي .

                                                                                                                                                                                          وراعى آخرون المضارة - : كما روينا من طريق أبي عبيد نا عثمان بن صالح عن ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران قال : سألت القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله عن تزويج المريض ؟ فقالا جميعا : إن لم يكن مضارا جاز تزويجه - وإن كان مضارا لم يجز ، ولها نصف الصداق في ثلث ماله ، قالا : فإن خلا بها فلها الصداق من الثلث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في نكاح المريض قال : ليس له أن يدخل الإضرار على أهل الميراث ، ولا نرى أن ترثه إن فعل ذلك ضرارا .

                                                                                                                                                                                          قال معمر : وقال قتادة : إن كان تزوجها من حاجة إليها في خدمته ، أو في قيام بأمره فإنها ترثه .

                                                                                                                                                                                          وقال آخرون بمثل قولنا - : كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا أبو عوانة عن [ ص: 154 ] المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود قال : لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام أن أموت في آخرها يوما لي فيهن طول للنكاح لتزوجت مخافة الفتنة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا محمد بن بشر عن أبي رجاء عن الحكم بن زيد عن الحسن قال : قال معاذ بن جبل في مرضه الذي مات فيه : زوجوني ، إني أكره أن ألقى الله عز وجل عزبا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد ، وسعيد بن منصور ، قالا جميعا : نا أبو معاوية - هو الضرير - عن هشام بن عروة عن أبيه قال : دخل الزبير على قدامة بن مظعون يعوده فبشر الزبير بجارية وهو عنده ؟ فقال له قدامة : زوجنيها ؟ فقال له الزبير : وما تصنع بجارية صغيرة وأنت على هذه الحال ؟ فقال له قدامة : إن أنا عشت فابنة الزبير ، وإن مت فأحق من ورثتني ، قال عروة : فزوجها إياه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي أخبرني موسى بن عقبة عن نافع مولى ابن عمر قال : تزوج عبد الرحمن بن أبي ربيعة بنت عم له في مرضه لترثه ، فمات فورثته ، وذلك في زمن عثمان بن عفان .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق ثني ابن جريج ، قال أخبرني موسى بن عقبة عن نافع مولى ابن عمر قال : تزوج عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي بنت حفص بن المغيرة عمه - وهو مريض - لتشرك نساءه في الميراث .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : عبد الله له صحبة صحيحة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد ، وسعيد بن منصور قالا جميعا : نا هشيم عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي ، قال سعيد في روايته : سمعت الشعبي يقول : تزويج المريض جائز ، وشراؤه وبيعه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا يونس بن عبيد عن الحسن البصري أنه كان يقول : يجوز تزويج المريض في مرضه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق يحيى بن سعيد القطان نا سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي قال : نكاح المريض جائز ، ولا يحسب من الثلث .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 155 ] ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري قال : نكاح المريض جائز على مهر مثلها - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما وكلهم يرى الصداق من رأس ماله - وهو قول ابن شبرمة ، والأوزاعي ، والحسن بن حي ، وأبي سليمان ، وجميع أصحابنا .

                                                                                                                                                                                          ورأى الحسن بن حي ، وأبو سليمان : أن لها الصداق المسمى لها من رأس ماله .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وتزوج شيخنا أبو الخيار مسعود بن سليمان - رضي الله عنه - قبل موته بسبع ليال ، وهو مريض يائس من الحياة ودخل بها إحياء للسنة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : عهدنا بالمالكيين يعظمون خلاف الصاحب الذي لا يعرف له من الصحابة - رضي الله عنهم - : مخالف وهذا مما خالفوا فيه ابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، والزبير ، وقدامة بن مظعون ، وعبد الله بن أبي ربيعة ، بحضرة جميع الأحياء من الصحابة ، لا ينكر ذلك أحد ، وفي خلافة عثمان .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أباح الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم النكاح ، ولم يخص في القرآن ، ولا في السنة : صحيحا وصحيحة من مريض ومريضة { وما كان ربك نسيا }

                                                                                                                                                                                          وما نعلم للمخالف حجة أصلا ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا قول صاحب ، ولا من رأي يعقل ، غير أن بعضهم احتج بأنه ليس له أن يدخل على أهل الميراث من يشركهم فيه ؟ قال أبو محمد : وأهل هذا القول يقولون : إن أقر في مرض موته - وهو موقن بالموت - بابن أمة له لم يزل يقول : إنه عبده - فأقر عند موته أنه ابنه ، فإن إقراره نافذ ، ويرث ماله - فأجازوا أن يدخل على أهل الميراث من يحرمهم الكل ، ومنعوه أن يدخل عليهم من يحطهم اليسير ، وهذا غاية التخليط .

                                                                                                                                                                                          ولم يختلفوا أن رجلا مريضا يائسا من الفاقة والعيش ابتاع جارية وأشهد الناس على نفسه أنه إنما يبتاعها ليطلب منها الولد ، ليمنع بذلك ورثته الميراث ، فوطئها فحملت : أن ذلك جائز مباح .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : إنها قد تحمل وقد لا تحمل ؟ [ ص: 156 ] قلنا : والتي تزوج في مرضه قد تموت هي قبله فيرثها فيزيد بذلك الورثة في ميراثهم ، وليت شعري أيمنعون المسلم المريض من زواج مملوكة أو ذمية لا يرثانه أم لا ؟ وهل يمنعون المريض الذي لا شيء له من الزواج ؟ ولا بد لهم من ترك أصلهم الفاسد ضرورة أو التناقض .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : قسنا نكاح المريض على طلاقه ؟ فقلنا : قستم الخطأ على الخطأ ، ثم أخطأتم في القياس ، لأنكم أجزتم طلاق المريض وورثتموه بعد ذلك ، فإن أردتم إصابة القياس فأجيزوا نكاحه ، وامنعوه الميراث مع ذلك - وهذا مما ترك فيه الحنفيون القياس الذي هو عندهم أصل لا يجوز تركه .

                                                                                                                                                                                          ومن العجائب أن مالكا يفسخ نكاح الأمة الفارة ، كما يفسخ نكاح الصحيحة للمريض ، ولا يدع للفارة مما سمي لها إلا ثلاثة دراهم ، ويجعل للتي تزوجت المريض جميع مهر مثلها - فهل يسمع بأعجب من هذا التحكم بلا برهان

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية