الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الثاني : اعلم أن أهل العلم اختلفوا في رقبة كفارة الظهار ، هل يشترط فيها سلامتها من العيوب أو لا ؟ فحكي عن داود الظاهري أنه جوز كل رقبة يقع عليها الاسم ، ولو كانت معيبة بكل العيوب تمسكا بإطلاق الرقبة في قوله تعالى : فتحرير رقبة ، قال : ظاهره ولو معيبة ; لأن الله لم يقيد الرقبة بشيء .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب أكثر أهل العلم إلى اشتراط السلامة من العيوب القوية مع اختلافهم في بعض العيوب ، قالوا : يشترط سلامتها من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا ; لأن المقصود [ ص: 216 ] تمليك العبد منافعه ، وتمكينه من التصرف لنفسه ، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررا بينا ، فلا يجزئ الأعمى ; لأنه لا يمكنه العمل في أكثر الصنائع ، ولا المقعد ، ولا المقطوع اليدين أو الرجلين ; لأن اليدين آلة البطش ، فلا يمكنه العمل مع فقدهما ، والرجلان آلة المشي فلا يتهيأ له كثير من العمل مع تلفهما ، والشلل كالقطع في هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : ولا يجوز المجنون جنونا مطبقا ; لأنه وجد فيه المعنيان : ذهاب منفعة الجنس ، وحصول الضرر بالعمل ، قاله في " المغني " . ثم قال : وبهذا كله قال الشافعي ، ومالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، انتهى محل الغرض منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وبه تعلم إجماع الأئمة الأربعة على اشتراط السلامة من مثل العيوب المذكورة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن قدامة في " المغني " : ولا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل ، ولا أشلهما ، ولا مقطوع إبهام اليد أو سبابتها أو الوسطى ; لأن نفع اليد يذهب بذهاب هؤلاء ، ولا يجزئ مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة ; لأن نفع اليدين يزول أكثره بذلك . وإن قطعت كل واحدة من يد جاز ; لأن نفع الكفين باق وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها ، فإن نفعها يذهب بذلك لكونها أنملتين ، وإن كان من غير الإبهام لم يمنع ; لأن منفعتها لا تذهب ، فإنها تصير كالأصابع القصار ، حتى لو كانت أصابعه كلها غير الإبهام قد قطعت من كل واحد منها أنملة لم يمنع ، وإن قطع من الإصبع أنملتان فهو كقطعها ; لأنه يذهب بمنفعتها ، وهذا جميعه مذهب الشافعي ، أي : وأحمد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حنيفة : يجزئ مقطوع إحدى الرجلين أو إحدى اليدين ، ولو قطعت رجله ويده جميعا من خلاف أجزأت ; لأن منفعة الجنس باقية ، فأجزأت في الكفارة كالأعور ، فأما إن قطعتا من وفاق ، أي : من جانب واحد لم يجز ; لأن منفعة المشي تذهب ، ولنا أن هذا يؤثر في العمل ، ويضر ضررا بينا ، فوجب أن يمنع إجزاؤها كما لو قطعتا من وفاق . ويخالف العور ، فإنه لا يضر ضررا بينا ، والاعتبار بالضرر أولى من الاعتبار بمنفعة الجنس ، فإنه لما ذهب شمه أو قطعت أذناه معا أجزأ مع ذهاب منفعة الجنس . ولا يجزئ الأعرج إذا كان عرجا كثيرا فاحشا ; لأنه يضر بالعمل ، فهو كقطع الرجل ، إلى أن قال : ويجزئ الأعور في قولهم جميعا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر : فيه قول آخر : إنه لا يجزئ ; لأنه نقص يمنع التضحية والإجزاء في الهدي ، فأشبه العمى ، والصحيح ما ذكرناه . فإن المقصود تكميل الأحكام وتمليك العبد [ ص: 217 ] المنافع ، والعور لا يمنع ذلك ; ولأنه لا يضر بالعمل فأشبه قطع إحدى الأذنين ، ويفارق العمى فإنه يضر بالعمل ضررا بينا ويمنع كثيرا من الصنائع ، ويذهب بمنفعة الجنس ويفارق قطع إحدى اليدين والرجلين ، فإنه لا يعمل بإحداهما ما يعمل بهما ، والأعور يدرك بإحدى العينين ما يدرك بهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الأضحية والهدي فإنه لا يمنع منهما مجرد العور ، وإنما يمنع انخساف العين وذهاب العضو المستطاب ; ولأن الأضحية يمنع فيها قطع الأذن والقرن ، والعتق لا يمنع فيه إلا ما يضر بالعمل ، ويجزئ المقطوع الأذنين . وبذلك قال أبو حنيفة والشافعي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مالك وزفر : لا يجزئ ; لأنهما عضوان فيها الدية ، فأشبها اليدين . ولنا أن قطعهما لا يضر بالعمل الضرر البين ، فلم يمنع كنقص السمع ، بخلاف اليدين ، ويجزئ مقطوع الأنف لذلك ، ويجزئ الأصم إذا فهم بالإشارة ، والأخرس إذا فهمت إشارته وفهم الإشارة ، وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أصحاب الرأي : لا يجزئ ; لأن منفعة الجنس ذاهبة ، فأشبه زائل العقل ، وهذا المنصوص عليه عن أحمد ; لأن الخرس نقص كثير يمنع كثيرا من الأحكام ، مثل القضاء والشهادة . أكثر الناس لا يفهم إشارته ، فيتضرر في ترك استعماله ، وإن اجتمع الخرس والصمم . فقال القاضي : لا يجزئ ، وهو قول بعض الشافعية لاجتماع النقصين فيه وذهاب منفعتي الجنس ، ووجه الإجزاء أن الإشارة تقوم مقام الكلام في الإفهام ، ويثبت في حقه أكثر الأحكام فيجزئ ; لأنه لا يضر بالعمل ولا بغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما المريض فإن كان مرجو البرء كالحمى وما أشبهها أجزأ في الكفارة ، وإن كان غير مرجو الزوال لم يجز .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما نضو الخلق يعني النحيف المهزول خلقة ، فإن كان يتمكن من العمل أجزأ ، وإلا فلا . ويجزئ الأحمق وهو الذي يصنع الأشياء لغير فائدة ، ويرى الخطأ صوابا . وكذلك يجزئ من يخنق في بعض الأحيان ، والخصي والمجبوب ، والرتقاء ، والكبير الذي يقدر على العمل ; لأن ما لا يضر بالعمل لا يمنع تمليك العبد منافعه ، وتكميل أحكامه ، فيحصل الإجزاء به ، كالسالم من العيوب ، انتهى من " المغني " ، مع حذف يسير لا يضر بالمعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال صاحب " المغني " : ويجزئ عتق الجاني والمرهون وعتق المفلس عبده ، إذا [ ص: 218 ] قلنا بصحة عتقهم ، وعتق المدبر والخصي وولد الزنا ; لكمال العتق فيهم . ولا يجزئ عتق المغصوب ، لأنه لا يقدر على تمكينه من منافعه ، ولا غائب غيبة منقطعة لا يعلم خبره ; لأنه لا تعلم حياته فلا تعلم صحة عتقه ، وإن لم ينقطع خبره أجزأ عتقه ; لأنه عتق صحيح .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يجزئ عتق الحمل ; لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا ، ولذلك لم تجب فطرته ، ولا يتيقن أيضا وجوده وحياته . ولا عتق أم الولد ; لأن عتقها مستحق بسبب غير الكفارة ، والملك فيها غير كامل ، ولهذا لم يجز بيعها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال طاوس والبتي : يجزئ عتقها ; لأنه عتق صحيح . ولا يجزئ عتق مكاتب أدى من كتابته شيئا ، انتهى من كلام صاحب " المغني " . وقد ذكر فيه غالب ما في مذاهب الأئمة الأربعة في المسألة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن مذهب مالك رحمه الله : اشتراط الإيمان في رقبة الظهار ، واشتراط سلامتها من العيوب المضرة ، فلا يجوز عنده عتق جنين في بطن أمه ، وإن وضعته عتق من غير إجزاء عن الكفارة .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يجزئ عنده مقطوع اليد الواحدة ، أو الإصبعين ، أو الأصابع ، أو الإبهام ، أو الأذنين ، أو أشل ، أو أجذم ، أو أبرص ، أو أصم ، أو مجنون وإن أفاق أحيانا ، ولا أخرس ، ولا أعمى ، ولا مقعد ، ولا مفلوج ، ولا يابس الشق ، ولا غائب منقطع خبره ، ولا المريض مرضا يشرف به على الموت ، ولا الهرم هرما شديدا ، ولا الأعرج عرجا شديدا ، ولا رقيق مشترى بشرط العتق لما يوضع من ثمنه في مقابلة شرط العتق ، ولا من يعتق عليه بالملك كأبيه ، ولا عبد قال : إن اشتريته فهو حر ، فلو قال : إن اشتريته فهو حر عن ظهاري ، ففيه لهم تأويلان بالإجزاء وعدمه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يجزئ عنده المدبر ، ولا المكاتب ، ولو أعتق شركا له في عبد ، ثم قوم عليه نصيب شريكه لم يجزه عن ظهاره عنده ; لأن عتق نصيب الشريك وجب عليه بحكم سراية المعتق ، وكذلك لو أعتق نصفه عن ظهاره ، ثم بعد ذلك اشترى نصفه الآخر فأعتقه تكميلا لرقبة الظهار ، لم يجزه على ظاهر المدونة لتبعيض العتق إن كانت معسرا وقت عتق النصف الأول ، ولأن عتق النصف الباقي يلزمه بالحكم ، إن كان موسرا وقت عتق النصف الأول ، [ ص: 219 ] ولو أعتق ثلاث رقاب عن أربع زوجات ظاهر منهن لم يجزه من ذلك شيء ; لأنه لم تتعين رقبة كاملة عن واحدة منهن .

                                                                                                                                                                                                                                      ويجزئ عند المالكية عتق المغصوب والمريض مرضا خفيفا ، والأعرج عرجا خفيفا ، ولا يضر عندهم قطع أنملة واحدة أو أذن واحدة ، ويجزئ عندهم الأعور ، ويكره عندهم الخصي ، ويجوز عندهم عتق المرهون والجاني إن افتديا ، انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن أبا حنيفة لا يشترط الإيمان في كفارة الظهار ، كما تقدم . ولم يجزئ عنده الأعمى ولا مقطوع اليدين معا أو الرجلين معا ، ولا مقطوع إبهامي اليدين ، ولا الأخرس ، ولا المجنون ، ولا أم الولد ، ولا المدبر ، ولا المكاتب إن أدى شيئا من كتابته ، فإن لم يؤد منها شيئا أجزأ عنده ، وكذلك يجزئ عنده قريبه الذي يعتق عليه بالملك إن نوى بشرائه إعتاقه عن الكفارة ، وكذلك لو أعتق نصف عبده عن الكفارة ، ثم حرر باقيه عنها أجزأه ذلك ، ويجزئ عنده الأصم ، والأعور ، ومقطوع إحدى الرجلين ، وإحدى اليدين من خلاف ، ويجزئ عنده الخصي ، والمجبوب ، ومقطوع الأذنين ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا أكثر العيوب المانعة من الإجزاء ، وغير المانعة عند الشافعي في كلام صاحب " المغني " ناقلا عنه ، وكذلك ما يمنع وما لا يمنع عند أحمد ، فاكتفينا بذلك خشية كثرة الإطالة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية