الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            قالت المعتزلة : هذه الآية دالة على أصلين عظيمين من أصولنا .

                                                                                                                                                                                                                                            فالأصل الأول : المضل هو الشيطان ، وليس المضل هو الله تعالى . قالوا : وإنما قلنا : إن الآية تدل على أن المضل هو الشيطان ؛ لأن الشيطان ادعى ذلك والله تعالى ما كذبه فيه ، ونظيره قوله : ( لأغوينهم أجمعين ) [ الحجر : 39 ] وقوله : ( لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] ، وقوله : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) [الأعراف : 16] وأيضا أنه تعالى ذكر وصفه بكونه مضلا للناس في معرض الذم له ، وذلك يمنع من كون الإله موصوفا بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            والأصل الثاني : وهو أن أهل السنة يقولون : الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال ، وقلنا : ليس الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال ، بدليل أن إبليس وصف نفسه بأنه مضل مع أنه بالإجماع لا يقدر على خلق الضلال .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن هذا كلام إبليس فلا يكون حجة ، وأيضا أن كلام إبليس في هذه المسألة مضطرب [ ص: 39 ] جدا ، فتارة يميل إلى القدر المحض ، وهو قوله : ( لأغوينهم أجمعين ) [الحجر : 39 ] . وأخرى إلى الجبر المحض ، وهو قوله : ( رب بما أغويتني ) [الحجر 39] . وتارة يظهر التردد فيه حيث قال : ( ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا ) [القصص : 63] يعني : أن قول هؤلاء الكفار : نحن أغوينا فمن الذي أغوانا عن الدين ؟ ولا بد من انتهاء الكل بالآخرة إلى الله .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله : ( ولأمنينهم ) . واعلم أنه لما ادعى أنه يضل الخلق قال : ( ولأمنينهم ) وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الإضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق ، وطلب الأماني يورث شيئين ؛ الحرص والأمل ، والحرص والأمل يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة ، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان قال صلى الله عليه وسلم : " يهرم ابن آدم ويشب معه اثنان الحرص والأمل " . والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين ، فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق ، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدنيا ، فلا يكاد يقدم على التوبة ، ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ ، فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قوله ( ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ) . البتك : القطع ، وسيف باتك : أي قاطع ، والتبتيك التقطيع . قال الواحدي -رحمه الله- : التبتيك ههنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين ، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا ، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها . وقال آخرون : المراد أنهم يقطعون آذان الأنعام نسكا في عبادة الأوثان ، فهم يظنون أن ذلك عبادة ، مع أنه في نفسه كفر وفسق .

                                                                                                                                                                                                                                            خامسها : قوله : ( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) وللمفسرين ههنا قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله ، وهو قول سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، والضحاك ، ومجاهد ، والسدي ، والنخعي ، وقتادة ، وفي تقرير هذا القول وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر ، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به ، فمن كفر فقد غير فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة ، ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : في تقرير هذا القول : أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حراما أو الحرام حلالا .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر ، وذكروا فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الحسن : المراد ما روى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : "لعن الله الواصلات والواشمات " قال : وذلك لأن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : روي عن أنس ، وشهر بن حوشب ، وعكرمة ، وأبي صالح أن معنى تغيير خلق الله ههنا : هو الإخصاء ، وقطع الآذان ، وفقء العيون ؛ ولهذا كان أنس يكره إخصاء الغنم ، وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا عوروا عين فحلها .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال ابن زيد هو التخنث ، وأقول : يجب إدخال السحاقات في هذه الآية على هذا القول ؛ لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى ، والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : حكى الزجاج عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها ، فحرموها على أنفسهم ؛ كالبحائر والسوائب والوصائل . وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ، ينتفعون بها ، فعبدها المشركون ، فغيروا خلق الله ، هذا جملة كلام المفسرين في هذا الباب ، ويخطر ببالي ههنا وجه آخر في تخريج الآية على سبيل المعنى ؛ وذلك لأن دخول الضرر والمرض في الشيء يكون على ثلاثة أوجه : التشوش ، والنقصان ، والبطلان . فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في مرض الدين ، وضرر الدين هو [ ص: 40 ] قوله : ( ولأمنينهم ) ثم إن هذا المرض لا بد وأن يكون على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرناها ، وهي التشوش والنقصان والبطلان ، فأما التشوش فالإشارة إليه بقوله : ( ولأمنينهم ) ؛ وذلك لأن صاحب الأماني يشغل عقله وفكره في استخراج المعاني الدقيقة ، والحيل والوسائل اللطيفة في تحصيل المطالب الشهوانية والغضبية ، فهذا مرض روحاني من جنس التشوش ، وأما النقصان فالإشارة إليه بقوله : ( ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ) ؛ وذلك لأن بتك الآذان نوع نقصان ؛ وهذا لأن الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف الحزم في طلب الآخرة ، وأما البطلان فالإشارة إليه بقوله : ( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) ؛ وذلك لأن التغيير يوجب بطلان الصفة الحاصلة في المدة الأولى ، ومن المعلوم أن من بقي مواظبا على طلب اللذات العاجلة معرضا عن السعادات الروحانية فلا يزال يزيد في قلبه الرغبة في الدنيا والنفرة عن الآخرة ، ولا تزال تتزايد هذه الأحوال إلى أن يتغير القلب بالكلية فلا يخطر بباله ذكر الآخرة البتة ، ولا يزول عن خاطره حب الدنيا البتة ، فتكون حركته وسكونه ، وقوله وفعله لأجل الدنيا ، وذلك يوجب تغيير الخلقة ؛ لأن الأرواح البشرية إنما دخلت في هذا العالم الجسماني على سبيل السفر ، وهي متوجهة إلى عالم القيامة ، فإذا نسيت معادها ، وألفت هذه المحسوسات التي لا بد من انقضائها وفنائها كان هذا بالحقيقة تغييرا للخلقة ، وهو كما قال تعالى : ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) [الحشر : 19] وقال : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) [الحج : 46] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما حكى عن الشيطان دعاويه في الإغواء والضلال حذر الناس عن متابعته ، فقال : ( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ) . واعلم أن أحدا لا يختار أن يتخذ الشيطان وليا من دون الله ، ولكن المعنى أنه إذا فعل ما أمره الشيطان به ، وترك ما أمره الرحمن به صار كأنه اتخذ الشيطان وليا لنفسه ، وترك ولاية الله تعالى ، وإنما قال : ( خسر خسرانا مبينا ) ؛ لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة الخالصة عن شوائب الضرر ، وطاعة الشيطان تفيد المنافع الثلاثة المنقطعة المشوبة بالغموم والأحزان والآلام الغالبة ، والجمع بينهما محال عقلا ، فمن رغب في ولايته فقد فاته أشرف المطالب وأجلها بسبب أخس المطالب وأدونها ، ولا شك أن هذا هو الخسار المطلق .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية