الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 483 ] ( ومن قال لامرأته وهي من ذوات الحيض وقد دخل بها : أنت طالق ثلاثا للسنة ولا نية له فهي طالق عند كل طهر تطليقة ) ; لأن اللام فيه للوقت ووقت السنة طهر لا جماع فيه ( وإن نوى أن تقع الثلاث الساعة أو عند رأس كل شهر واحدة فهو على ما نوى ) سواء كانت في حالة الحيض أو في حالة الطهر . وقال زفر : لا تصح نية الجمع [ ص: 484 ] لأنه بدعة وهي ضد السنة . ولنا أنه محتمل لفظه ; لأنه سني وقوعا من حيث إن وقوعه بالسنة لا إيقاعا فلم يتناوله مطلق كلامه وينتظمه عند نيته ( وإن كانت آيسة أو من ذوات الأشهر وقعت الساعة واحدة وبعد شهر أخرى وبعد شهر أخرى ) ; لأن الشهر في حقها دليل الحاجة كالطهر في حق ذوات الأقراء على ما بينا ( وإن نوى أن يقع الثلاث الساعة وقعن عندنا خلافا لزفر لما قلنا ) [ ص: 485 ] بخلاف ما إذا قال أنت طالق للسنة ولم ينص على الثلاث حيث لا تصح نية الجمع فيه ; لأن نية الثلاث إنما صحت فيه من حيث إن اللام فيه للوقت فيفيد تعميم الوقت [ ص: 486 ] ومن ضرورته تعميم الواقع فيه ، فإذا نوى الجمع بطل تعميم الوقت فلا تصح نية الثلاث .

التالي السابق


( قوله ومن قال لامرأته وهي من ذوات الحيض وقد دخل بها : أنت طالق ثلاثا للسنة ولا نية له فهي طالق عند كل طهر تطليقة ) فإن نوى ذلك فأظهر ثم إن لم يكن جامعها في هذا الطهر وقعت واحدة للحال ثم عند كل طهر أخرى ، إن كان جامعها لم يقع شيء حتى تحيض وتطهر . وعند الشافعي يقع الثلاث للحال ; لأنه لا بدعة عنده ولا سنة في العدد ، ولو كانت من ذوات الأشهر يأتي ، ولو كانت غير مدخول بها وقع عليها واحدة في الحال وإن كانت حائضا ، ثم لا يقع شيء إلا أن يتزوجها مرة أخرى فتقع الثانية ، فإن تزوجها أيضا وقعت الثالثة .

ووجه المسألة على ما هو التحقيق أن اللام للاختصاص ، فالمعنى الطلاق المختص بالسنة والسنة [ ص: 484 ] مطلق فينصرف إلى الكامل وهو السني عددا ووقتا فوجب جعل الثلاث مفرقا على الأطهار لتقع واحدة في كل طهر .

وأما تعليل المصنف بكون اللام للوقت فلا يستلزم الجواب ; لأن المعنى حينئذ ثلاثا لوقت السنة ، وهذا يوجب تقييد الطلاق بإحدى جهتي سنة الطلاق وهو السني وقتا ، وحينئذ فمؤداه ثلاث في وقت السنة ، ويصدق بوقوعها جملة في طهر بلا جماع ، فإنه بهذا التقرير امتنع تعميم السنة في جهتيها ، بخلاف ما قررنا ، وأما لو صرفه عن هذا بنيته فأراد الثلاث فإنه يصح خلافا لزفر ، قال فإنه بدعة ضد السنة ، ولا يحتمله لفظه فلا تعمل نيته فيه . قلنا : بل يحتمله ; لأنه سني وقوعا : أي وقوعه بالسنة فتصح إرادته وتكون اللام للتعليل : أي لأجل السنة التي أوجبت وقوع الثلاث ، بخلاف ما لو صرح بالأوقات فقال أنت طالق ثلاثا أوقات السنة حيث لا تصح فيه نية الجمع لعدم احتمال اللفظ والنية إنما تعمل مع لفظ محتمل واللام تحتمل الوقت والتعليل ، وهي في مثله للوقت أظهر منها للتعليل فيصرف إلى التعليل بالنية وإلى الوقت عند عدمها ، بخلاف لفظ أوقات ، وكذا إذا نوى أن يقع عند رأس كل شهر واحدة فهي على ما نوى ، سواء كانت عند رأس الشهر حائضا أو طاهرة ; لأن رأس الشهر إما أن يكون زمان حيضها أو طهرها ; فعلى الثاني هو سني وقوعا وإيقاعا وعلى الأول سني وقوعا ، فنيته الثلاث ، عند رأس كل شهر مع العلم بأن رأس الشهر قد تكون حائضا فيه نية الأعم من السني وقوعا وإيقاعا معا أو أحدهما ( قوله وإن كانت ) أي امرأته : أي التي قال لها أنت طالق ثلاثا للسنة ( آيسة أو من ذوات الأشهر ) التي هي فصول العدة عندهم فيتناول الحامل عند أبي حنيفة وأبي يوسف ( وقعت للساعة واحدة وبعد كل شهر أخرى ; لأن الشهر في حقها دليل الحاجة كالطهر في حق ذوات الأقراء على ما بينا ) من أن الشهر في حقها قائم مقام الحيض .

( قوله وإن نوى أن تقع الساعة ثلاث وقعن عندنا ) خلافا لزفر ( لما قلنا ) من أنه سني وقوعا فيصح منويا . [ ص: 485 ] ولقائل أن يقول : ينبغي أن تقع الثلاث في الحال متتابعة ; لأن هذه يجوز أن يطلقها عقيب جماعه فكان كل وقت في حقها وقت طلاق السنة ، وما وجهتم به ذلك وهو أن الرغبة مستمرة ولو عقيب الجماع يوجب توالي الثلاث في الوقوع ، كما لو مسها بشهوة وقال أنت طالق ثلاثا للسنة على ما مر عن أبي حنيفة حيث تقع الثلاث متتالية ; لأن وقت كل واقع منها وقت السنة وإن اختلف الوجه ، وعلى هذا يجب أن لا ينحصر حل طلاقها ثلاثا بطلقات متفرقة في أن يفرق بين كل تطليقتين بشهر ، بل غايته أن يكون أولى ، وينعطف بهذا البحث على ما تقدم أيضا .

( قوله بخلاف ما إذا قال أنت طالق للسنة إلخ ) إذا قال أنت طالق للسنة ولم يذكر ثلاثا وقعت واحدة في الحال إن كانت في طهر لم يجامعها فيه ، وإن كانت قد جامعها أو حائضا لم يقع شيء حتى تطهر فتقع واحدة ; لأن اللام فيه للاختصاص : أي الطلاق المختص بالسنة . ولو نوى ثلاثا مفرقا على الأطهار صح ; لأن المعنى في أوقات طلاق السنة ، ومن ضرورة وقوع الطلاق في كل وقت منها وهي متعددة تعدد الواقع فيصح .

ولو نوى ثلاثا جملة اختلف فيه ; فذهب المصنف وفخر الإسلام والصدر الشهيد وصاحب المختلفات إلى أنه لا يصح وإنما يقع به واحدة في الحال . وذهب القاضي أبو زيد وشمس الأئمة وشيخ الإسلام إلى أنه يصح فتقع الثلاث جملة كما تقع مفرقة على الأطهار ; لأن للسنة يحتمل معنى التعليل فيصح وقوعها كما إذا صرح بلفظ الثلاث ، وحققه بعضهم بأن التطليقة المختصة بالسنة مستحب وهو ما عرف وبدعي وكلاهما عرفا بالسنة وإن اقترن أحدهما بالنهي فأيهما نواه صح فإذا نوى البدعي صح ; لأنه محتمل كلامه ، ومختار المصنف أوجه ; لأن مع نية الجملة لا تكون اللام للوقت مفيدة للعموم ، وما وقع الثلاث إلا عن ضرورة تعميمها بالوقوع ; لأن مجرد طالق لا تصح فيه نية الثلاث على ما سيأتي إن شاء الله تعالى . فإذا فقد تعميم الأوقات لم يبق ما يصلح لإيقاع الثلاث فلا تعمل نية جملتها ، وقولهم المختص بالسنة مستحب وبدعي ، فأيهما نواه صح ، إن أرادوا أنه إذا نوى الطلاق العام الذي هو أحد القسمين صح منعناه ; لأن طالقا لا يراد به الثلاث أصلا بلا خلاف في المذهب على ما سيأتي لعدم احتماله إياه فلا يراد به ، وإن أرادوا أنه إذا نوى فردا من الطلاق البدعي أو المستحب صح فمسلم ولا يفيد وقوع الكل ، وليس ثم موجب آخر لغرض أن اللام ليست لعموم الوقت ليس غير .

وأورد عليه بعض الشارحين منع أن تعميم الأوقات يستلزم تعميم الواقع للاتفاق على أنه إذا قال أنت طالق كل يوم ولا نية له لا يقع الثلاث لما سيعرف من أنها بطلاق واحد تكون طالقا كل يوم ، وكذا بطلاق في وقت من أوقات السنة تصير به طالقا في جميع أوقاتها المستقبلة ، وهذا غير مطابق للمتنازع فيه ; لأن الكلام فيما إذا نوى بقوله أنت طالق للسنة تعميم أوقات السنة بالوقوع لا فيما إذا لم تكن له نية ، وقد ذكرنا [ ص: 486 ] أنه إذا لم تكن نية تقع واحدة وكذلك طالق كل يوم تقع به واحدة بلا نية .

ولو نوى فيه تجدد الواقع في الأيام عملت نيته فيقع الثلاث في ثلاثة أيام . نعم هذا يصلح إشكالا على صحة وقوع الثلاث مفرقا على الأطهار في هذه المسألة ومفرقا على الأيام في المسألة الموردة بناء على ما ذكرنا من أن طالقا لا يقبل التعميم ، وللسنة على ما قرر المصنف لوقتها فيفيد تعميم الوقت ، لكن تعميمه لا يستلزم تعميم الواقع في العدد بل انسحاب حكم طلقة واحدة يوجب أنها طالق في جميع أوقات السنة المستقبلة وفي كل الأيام فلم يوجب تعميم طالق في عدد الطلاق ولا يحتمله فلا يحتمل حينئذ التعميم فلا تصح نيته ، وسنذكر ما ذكر من وجه تصحيح في فصل إضافة الطلاق إن شاء الله تعالى . [ فروع ]

ألفاظ طلاق السنة على ما روى بشر عن أبي يوسف : للسنة وفي السنة وعلى السنة وطلاق سنة والعدة وطلاق عدة وطلاق العدل وطلاقا عدلا وطلاق الدين والإسلام ، وأحسن الطلاق وأجمله ، أو طلاق الحق أو القرآن أو الكتاب ، كل هذه تحمل على أوقات السنة بلا نية ; لأن كل ذلك لا يكون إلا في المأمور به . ولو قال طالق في كتاب الله أو بكتاب الله أو معه ، فإن نوى طلاق السنة وقع في أوقاتها ، وإلا وقع في الحال ; لأن الكتاب يدل على الوقوع للسنة والبدعة فيحتاج إلى النية . ولو قال على الكتاب أو به أو على قول القضاة أو الفقهاء أو طلاق القضاة أو الفقهاء ، فإن نوى السنة دين ، وفي القضاء يقع في الحال ; لأن قول القضاة والفقهاء يقتضي الأمرين ، فإذا خصص ديم ولا يسمع في القضاء ; لأنه غير ظاهر . ولو قال عدلية أو سنية وقع عند أبي يوسف للسنة ، ولو قال حسنة أو جميلة وقع في الحال . وقال محمد في الجامع الكبير : وقع في الحال في كليهما ; لأن هذه الصفات جاز أن توصف بها المرأة فلا تجعل للطلاق حتى يتأخر فيقع في الحال ، واعتبر أبو يوسف الغالب وباقي هذا الفصل تشبيه الطلاق . ولو قال طالق للبدعة أو طلاق البدعة ونوى الثلاث في الحال يقع ; لأنها محتمل كلامه ، [ ص: 487 ] وكذا الواحدة في الحيض والطهر الذي فيه جماع ، وإن لم تكن له نية ، فإن كان في طهر فيه جماع أو في حالة الحيض أو النفاس وقعت واحدة من ساعته ، وإن كانت في طهر لا جماع فيه لا يقع للحال حتى تحيض أو يجامعها في ذلك الطهر .




الخدمات العلمية