الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الإحصار هو لغة : المنع . وشرعا : منع عن ركن ( إذا أحصر بعدو أو مرض ) أو موت محرم أو هلاك نفقة [ ص: 591 ] حل له التحلل فحينئذ ( بعث المفرد دما ) أو قيمته فإن لم يجد بقي محرما حين يجد أو يتحلل بطواف وعن الثاني أنه يقوم الدم بالطعام ويتصدق به فإن لم يجد صام عن كل نصف صاع يوما ( والقارن دمين ) فلو بعث واحدا لم يتحلل عنه ( وعين يوم الذبح ) ليعلم متى يتحلل ويذبحه ( في الحرم ولو قبل يوم النحر ) خلافا لهما ( ولو لم يفعل ورجع إلى أهله بغير تحلل وصبر ) محرما [ ص: 592 ] ( حتى زال الخوف جاز فإن أدرك الحج فبها ) ونعمت ( وإلا تحلل بالعمرة ) لأن التحلل بالذبح إنما هو للضرورة حتى لا يمتد إحرامه فيشق عليه زيلعي ( وبذبحه يحل ) ولو ( بلا حلق وتقصير ) هذا فائدة التعيين ، فلو ظن ذبحه ففعل كالحلال فظهر أنه لم يذبح أو ذبح في حل لزمه جزاء ما جنى ( و ) يجب ( عليه إن حل من حجه ) ولو نفلا ( حجة ) بالشروع ( وعمرة ) للتحلل إن لم يحج من عامه [ ص: 593 ] ( وعلى المعتمر عمرة ، و ) على ( القارن حجة وعمرتان ) إحداهما للتحلل

التالي السابق


باب الإحصار لما كان التحلل بالإحصار نوع جناية بدليل أن ما يلزمه ليس له أن يأكل منه ذكره عقب الجنايات ، وأخره لأن مبناه على الاضطرار وتلك على الاختيار نهر ( قوله لغة المنع ) أي بخوف أو مرض أو عجز أما لو منعه عدو بحبس في سجن أو مدينة فهو حصر كما في الكشاف وغيره . وفي المغرب أن هذا هو المشهور ، وتمامه في شرح ابن كمال ( قوله وشرعا منع عن ركنين ) هما الوقوف والطواف في الحج ، لكن سيأتي أن العمرة يتحقق فيها الإحصار ، ولها ركن واحد وهو الوقوف . وفي بعض النسخ عن ركن بالإفراد ، والمراد به الماهية : أي عما هو ركن النسك متعددا أو متحدا تأمل ( قوله بعدو ) أي آدمي أو سبع ( قوله أو مرض ) أي يزداد بالذهاب ( قوله أو موت محرم ) أراد به من لا تحرم خلوته بالمرأة فيشمل زوجها ، وكموتهما عدمهما ابتداء ; فلو أحرمت وليس لها محرم ولا زوج فهي محصرة كما في اللباب والبحر ، ثم هذا إذا كان بينها وبين مكة مسيرة سفر وبلدها أقل منه أو أكثر ، لكن يمكنها المقام في موضعها وإلا فلا إحصار فيما يظهر ( قوله أو هلاك نفقة ) فإن سرقت نفقته ، إن قدر على المشي فليس بمحصر وإلا فمحصر ، وإن قدر عليه للحال إلا أنه يخاف العجز في بعض الطريق جاز له التحلل لباب ، وظاهر كلامهم هذا أن المراد بالنفقة ما يشمل الراحلة تأمل .

[ تتمة ] زاد في اللباب : مما يكون به محصرا أمور أخر . منها العدة ، فلو أهلت بالحج فطلقها زوجها ولزمتها العدة صارت محصرة ولو مقيمة أو مسافرة معها محرم . ومنها لو ضل عن الطريق لكن إن وجد من يبعث الهدي معه فذلك الرجل يهديه إلى الطريق وإلا فلا يمكنه التحلل لعجزه عن تبليغ الهدي محله . قال في الفتح : فهو كالمحصر الذي لم يقدر على الهدي . [ ص: 591 ] ومنها منع الزوج زوجته إذا أحرمت بنفل بلا إذنه ، أو المولى مملوكه عبدا كان أو أمة ، فلو بإذنه أو أحرمت بفرض فغير محصرة لو لها محرم ، أو خرج الزوج معها ، وليس له منعها وتحليلها ، وهذا لو إحرامها بالفرض في أشهر الحج أو قبلها في وقت خروج أهل بلدها أو قبله بأيام يسيرة ، وإلا فله منعها . وأما المملوك فيكره لمولاه منعه بعد الإحرام بإذنه وهو محصر ، وليس لزوج الأمة منعها بعد إذن المولى . واعلم أن كل من منع عن المضي في موجب الإحرام لحق العبد فإنه يتحلل بغير الهدي ، فإذا أحرمت المرأة أو العبد بلا إذن الزوج أو المولى فلهما أن يحللاهما في الحال كما سيأتي بيانه آخر الحج ، ولا يتوقف على ذبح ، وعلى المرأة أن تبعث الهدي أو ثمنه إلى الحرم ، وعليها إن كان إحرامها بحج حج وعمرة ، وإن بعمرة فعمرة ; بخلاف ما لو مات زوجها أو محرمها في الطريق فلا تتحلل إلا بالهدي ، ولعل الفرق أن إحصارها حقيقي والأولى حكمي ; وعلى العبد هدي الإحصار بعد العتق وحجة وعمرة . ا هـ .

ملخصا من اللباب وشرحه ( قوله حل له التحلل ) أفاد أنه رخصة في حقه حتى لا يمتد إحرامه فيشق عليه وأن له أن يبقى محرما كما يأتي ( قوله بعث المفرد ) أي بالحج أو العمرة إلى الحرم قهستاني ( قوله دما ) سيأتي بيانه في باب الهدي ، فلو بعث دمين تحلل بأولهما لأن الثاني تطوع كما في الينابيع قهستاني ( قوله أو قيمته ) أي يشترى بها شاة هناك وتذبح عنه هداية ، وفيه إيماء إلى أنه لا يجوز التصدق بتلك القيمة شرح اللباب ( قوله فإن لم يجد بقي محرما ) فلا يتحلل عندنا إلا بالدم نهاية ، ولا يقوم الصوم والإطعام مقامه بحر ، ولا يفيد اشتراط الإحلال عند الإحرام شيئا لباب . قال شارحه : هذا هو المسطور في كتب المذهب ونقل الكرماني والسروجي عن محمد أنه إن اشترط الإحلال عند الإحرام إذا أحصر جاز له التحلل بغير هدي ( قوله أو يتحلل بطواف ) أي ويسعى ويحلق بحر عن الخانية ، وهذا إن قدر على الوصول إلى مكة ، فإن عجز عنه وعن الهدي يبقى محرما أبدا قال في الفتح : هذا هو المذهب المعروف .

( قوله وعن الثاني ) رده في الفتح بأنه مخالف للنص ( قوله والقارن دمين ) فيه إشارة إلى أنه لا يتحلل إلا بذبح الثاني وأنه لا يشترط تعيين أحدهما للحج والآخر للعمرة قهستاني وكالقارن من جمع بين حجتين أو عمرتين فأحصر قبل السير إلى مكة ، فلو بعده يلزمه دم واحد لباب لأنه يصير رافضا لأحدهما بحر ( قوله فلو بعث واحدا إلخ ) عبارة الهداية : فإن بعث بهدي واحد ليتحلل عن الحج ويبقى في إحرام العمرة لم يتحلل عن واحد منهما لأن التحلل منهما شرع في حالة واحدة . ا هـ .

زاد في اللباب : ولو بعث ثمن هديين فلم يوجد بذلك القدر بمكة إلا هدي واحد فذبح لم يتحلل عن الإحرامين ولا عن أحدهما ( قوله وعين يوم الذبح ) لا بد أيضا من تعيين وقته من ذلك اليوم إذا أراد التحلل فيه لئلا يقع قبل الذبح ، فإذا عين وقت الزوال مثلا يتحلل بعده ، وإلا احتمل أن يكون الذبح وقت العصر والتحلل قبله ( قوله خلافا لهما ) حيث قالا إنه لا يجوز الذبح للمحصر بالحج إلا في يوم النحر ، ويجوز للمحصر بالعمرة متى شاء هداية فعلى قولهما لا حاجة إلى المواعدة في الحج لتعين يوم النحر وقتا له إلا إذا كان بعد أيام النحر فيحتاج إليها عند الكل كما في المحصر بالعمرة أفاده في شرح اللباب . قال في البحر : وفيه نظر لأنه مؤقت عندهما بأيام النحر لا باليوم الأول فيحتاج إلى المواعدة لتعيين اليوم الأول أو الثاني أو الثالث . وقد يقال : يمكنه الصبر إلى مضي الثلاثة فلا يحتاج إليها . ا هـ . [ ص: 592 ] قوله الخوف ) المراد به المانع خوفا أو غيره ( قوله وإلا ) بأن فاته الحج بفوت الوقوف ط وهذا لو محصرا بالحج ، فلو بالعمرة زال إحصاره بقدرته عليها ( قوله لأن التحلل ) علة لقوله جاز ( قوله فيشق ) بالنصب في جواب النفي ط وهو من باب نصر فالشين مضمومة ( قوله وبذبحه يحل ) في اللباب : ولا يخرج من الإحرام بمجرد الذبح حتى يتحلل بفعل . ا هـ .

أي من محظورات الإحرام ولو بغير حلق قاري . قلت : وهذا مخالف لكلام المصنف وغيره مع أنه لا تظهر له ثمرة تأمل . وأفاد أنه لو سرق بعد ذبحه لا شيء عليه ، وإن لم يسرق تصدق به ويضمن الوكيل قيمة ما أكل منه لو غنيا ويتصدق بها على الفقراء كما في اللباب ( قوله ولو بلا حلق وتقصير ) لكن لو فعله كان حسنا وهذا عندهما . وعن الثاني روايتان : في رواية يجب أحدهما ، وإن لم يفعل فعليه دم . وفي رواية ينبغي أن يفعل وإلا فلا شيء عليه و هو ظاهر الرواية ، كذا في الحقائق عن مبسوط خواهر زاده وجامع المحبوبي . فلا خلاف على ظاهر الرواية . وفي السراج : وهذا الخلاف إذا أحصر في الحل ، أما في الحرم فالحلق واجب . ا هـ . قال في الشرنبلالية . كذا جزم به في الجوهرة والكافي ، وحكاه البرجندي عن المصفى بقيل فقال : وقيل إنما لا يجب الحلق على قولهما إذا كان الإحصار في غير الحرم ، أما فيه فعليه الحلق ( قوله هذا ) أي ما أفاده قوله وبذبحه يحل من أنه لا يحل قبل الذبح ( قوله ففعل كالحلال ) أي كما يفعل الحلال من حلق وطيب ونحو ذلك ( قوله أو ذبح في حل ) محترز قول المصنف في الحرم ط ( قوله لزمه جزاء ما جنى ) ويتعدد بتعدد الجنايات ط .

قلت : ولم أر من صرح بذلك . نعم هو ظاهر كلامهم . ولينظر الفرق بينه وبين ما مر من أن المحرم لو نوى الرفض ففعل كالحلال على ظن خروجه من الإحرام بذلك لزمه دم واحد لجميع ما ارتكب لاستناد الكل إلى قضاء واحد وعللوا ذلك بأن التأويل الفاسد معتبر في دفع الضمانات الدنيوية كالباغي إذا أتلف مال العادل أو قتله ولا يخفى استناد الكل هنا إلى قصد واحد أيضا . ولذا قال بعض محشي الزيلعي : ينبغي عدم التعدد هنا أيضا ( قوله ويجب ) أي يلزم ، فيشمل الفرض القطعي . كما لو أحصر عن حجة الفرض . والواجب الاصطلاحي كما لو أحصر عن النفل أفاده ط ( قوله ولو نفلا ) أفاد شمول وجوب القضاء للفرض والنفل والمظنون والمفسد والحج عن الغير والحر والعبد ، إلا أن وجوب أداء القضاء على العبد يتأخر إلى ما بعد العتق لباب . والمظنون : هو ما لو أحرم على ظن أن عليه الحج ثم ظهر عدمه فأحصر وصرح البزدوي وصاحب الكشف أنه لا قضاء عليه ، لكن صرح السروجي في الغاية بأن الأصح وجوبه كما لو أفسده بلا إحصار أفاده القاري ( قوله بالشروع ) أي بسبب شروعه فيها .

وفيه أن هذا إنما يظهر في النفل . أما الفرض فهو واجب القضاء بالأمر لا بالمشروع تأمل ( قوله للتحلل ) لأنه في معنى فائت الحج يتحلل بأفعال العمرة . فإذا لم يأت بها قضاها نهر . والحاصل أن المحرم بالحج يلزمه الحج ابتداء ، وعند العجز تلزمه العمرة ، فإذا لم يأت بهما يلزمه قضاؤهما كما لو أحرم بهما كما في جامع قاضي خان ( قوله إن لم يحج من عامه ) أما لو حج منه لم يجب معها عمرة لأنه لا يكون [ ص: 593 ] كفائت الحج فتح . وأيضا إنما تجب عمرة مع الحج إذا حل بالذبح . أما إذا حل بأفعال العمرة فلا عمرة عليه في القضاء شرح اللباب . [ تنبيه ] إذا قضى الحج والعمرة إن شاء قضاهما بقران أو إفراد . واعلم أن نية القضاء إنما تلزم إذا تحولت السنة اتفاقا لو إحصاره بحج نفل ، فلو بحجة الإسلام فلا لأنها قد بقيت عليه حين لم يؤدها فينويها من قابل فتح ( قوله وعلى المعتمر عمرة ) أي على المعتمر إذا أحصر قضاء عمرة ، وهذا فرع تحقق الإحصار عنها . ومن فروع المسألة ما لو أهل بنسك مبهم ، فإن أحصر قبل التعيين كان عليه أن يبعث بهدي واحد ويقضي عمرة استحسانا ، وفي القياس حجة وعمرة وتمامه في النهر ( قوله وعلى القارن حجة وعمرتان ) ويتخير في القضاء بين الإفراد والقران كما صرحوا به ، وحققه في البحر ، فيفرد كلا من الثلاثة أو يجمع بين حجة وعمرة ثم يأتي بعمرة كما في شرح اللباب .

( قوله إحداهما للتحلل ) يشير إلى أن لزوم العمرتين فيما إذا لم يحج من عام الإحصار ، إذ لو حج من عامه بأن زال الإحصار بعد الذبح وقدر على تجديد الإحرام والأداء ففعل كان عليه عمرة القران فقط كما في الفتح لأنه لا يكون كفائت الحج ، فلا تلزمه عمرة التحلل كما مر في المفرد . قلت : ومثله لو حل بأفعال العمرة كما يفهم مما مر




الخدمات العلمية