الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قول القائل: الذات والصفات شيء واحد فإن أراد به أن الصفات ليست مباينة للموصوف، فصحيح. وإن أراد أن نفس الذات هي نفس الصفات، فهذه مكابرة. وهذا القائل، وإخوانه، يقولون بذلك، وقد صرح هو بأن العلم نفس العالم، وهذا غاية المناقضة لصريح المعقول.

وقوله: "إنه بعيد من المعارف الأول، أنه ليس يجوز أن يكون العلم هو العالم" فهذا قاله بناء على ما يراه أن هذا حق في نفس الأمر. [ ص: 241 ]

والصواب أن هذا ممتنع في صريح العقل، معلوم علما يقينيا أن العلم ليس هو نفس العالم، ومن قال هذا فقد أتى بغاية السفسطة، وجحد العلم الضروري.

وأما قوله: ليس عند المعتزلة برهان على وجوب هذا في الأول -وهو أن تكون الذات والصفات شيئا واحدا- ولا عند المتكلمين برهان على نفي الجسمية، وإنما برهان ذلك عند العلماء الذين هم الفلاسفة عنده.

فيقال: لا ريب عند كل من له عقل أن ما يذكره الفلاسفة في نفي ذلك أفسد في العقل الصريح مما يذكره المتكلمون. وأنت قد أفسدت طريقة ابن سينا، ولم تعتمد في ذلك إلا على إثبات النفس، وهو أنها ليست بجسم، فيلزم أن يكون الباري كذلك.

ومن المعلوم أن الأدلة النافية لهذا عن النفس: إن كانت صحيحة، فهي على نفي ذلك عن الرب أولى، وإن لم تكن صحيحة بطل قولك.

ومن المعلوم أن أدلة نفي الجسم عن النفس أضعف بكثير من نفي ذلك عن واجب الوجود. فكيف يكون الأضعف حجة على الأقوى؟!

وقد تكلم على فساد ما ذكروه في النفس في غير هذا الموضع. وأما ما ذكره من أنه لا يمكن أن يكون بهذا النفي يقين إلا عند من عني بالصناعة البرهانية -يعني طريقته الفلسفية- وقوله: إن صناعة الكلام جدلية لا برهانية. [ ص: 242 ]

فهذا كما يقال في المثل السائر: رمتني بدائها وانسلت، ولا يستريب عاقل نظر في كلام الفلاسفة في الإلهيات، ونظر في كلام أي صنف قدر من أصناف اليهود والنصارى فضلا عن أصناف المتكلمين من المسلمين، أن ما يقوله هؤلاء في الإلهيات أكمل وأصح في العقل مما يقوله المتفلسفة، وأن ما يقولونه في الإلهيات قليل جدا، وهو مع قلته فأدلة المتكلمين خير من أدلتهم بكثير.

وهذه طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وصفاته، لا تفيده إلا ما لا نزاع فيه، وهو وجود واجب الوجود. وأما كونه مغايرا للأفلاك، فإنما بناه على نفي الصفات، وهو مع فساده فدليلهم على نفيه أضعف من دليل المعتزلة.

فهم مع مشاركتهم للمعتزلة في النفي، لا يستدلون إلا بما هو أضعف من دليلهم.

وأما هذا الرجل فإنه تارة يأخذ طريقة متلقاة من الشرع، وتارة طريقة متلقاة عن المتكلمين، وتارة يقول ما يظن أنه قول الفلاسفة، لم يحك عن الفلاسفة في الإلهيات طريقة إقناعية، فضلا عن طريقة برهانية.

وإذا قدر أنه عنى بالبرهان القياس العقلي المنطقي، فمن المعلوم أن صورة القياس لا تفيد العلم بمواده.

والبرهان إنما يكون برهانه بمواده اليقينية، وإلا فصورته أمر سهل يقدر عليه عامة الناس.

وأهل الكلام لا ينازعون في الصورة الصحيحة. وهب أن الإنسان عنده ميزان، فإذا لم يكن معه ما يزن به، كان من معه مال لم يزنه، [ ص: 243 ] أعني من هذا. هذا بتقدير أن يكون ما ذكروه في المنطق صحيحا، فكيف وفيه من الفساد والتناقض ما هو مذكور في موضعه؟

التالي السابق


الخدمات العلمية