الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ( 153 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وهذا الذي وصاكم به ربكم ، أيها الناس ، في هاتين الآيتين من قوله : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) ، وأمركم بالوفاء به ، هو " صراطه " يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده ( مستقيما ) ، يعني قويما لا اعوجاج به عن الحق ( فاتبعوه ) ، يقول : فاعملوا به ، واجعلوه لأنفسكم منهاجا تسلكونه ، فاتبعوه ( ولا تتبعوا السبل ) ، يقول : ولا تسلكوا طريقا سواه ، ولا تركبوا منهجا غيره ، ولا تبغوا دينا خلافه ، من [ ص: 229 ] اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان ، وغير ذلك من الملل ، فإنها بدع وضلالات ( فتفرق بكم عن سبيله ) ، يقول : فيشتت بكم - إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طرق ولا أديان - اتباعكم إياها " عن سبيله " ، يعني : عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه ، وهو الإسلام الذي وصى به الأنبياء ، وأمر به الأمم قبلكم ( ذلكم وصاكم به ) ، يقول تعالى ذكره : هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم : " أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " ، وصاكم به " لعلكم تتقون " ، يقول : لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها ، وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها ، فيحل بكم نقمته وعذابه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

14163 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، قال : البدع والشبهات .

14164 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

14165 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ولا تتبعوا السبل ) ، البدع والشبهات .

14166 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) [ ص: 230 ] ، وقوله : ( وأقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) [ سورة الشورى : 13 ] ، ونحو هذا في القرآن . قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .

14167 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، يقول : لا تتبعوا الضلالات .

14168 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا حماد ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا فقال : هذا سبيل الله . ثم خط عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطا فقال : هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها . ثم قرأ هذه الآية : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .

14169 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، قال : " سبيله " ، الإسلام ، و " صراطه " ، الإسلام . نهاهم أن يتبعوا السبل سواه ( فتفرق بكم عن سبيله ) ، عن الإسلام .

14170 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبان : أن رجلا قال لابن مسعود : ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد ، وعن يساره جواد ، وثم رجال يدعون من مر بهم . فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به [ ص: 231 ] إلى النار ، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة . ثم قرأ ابن مسعود : ( وأن هذا صراطي مستقيما ) ، الآية .

قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : ( وأن هذا صراطي مستقيما ) .

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : ( وأن ) بفتح " الألف " من " أن " ، وتشديد " النون " ، ردا على قوله : ( أن لا تشركوا به شيئا ) ، بمعنى : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " ، " وأن هذا صراطي مستقيما " .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : " وإن " بكسر " الألف " من " إن " ، وتشديد "النون " منها ، على الابتداء وانقطاعها عن الأول ؛ إذ كان الكلام قد انتهى بالخبر عن الوصية التي أوصى الله بها عباده دونه ، عندهم .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار وعوام المسلمين ، صحيح معنياهما ، فبأي القراءتين قرأ القارئ فهو مصيب الحق في قراءته .

وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر باتباع سبيله ، كما أمر عباده الأنبياء . وإن أدخل ذلك مدخل فيما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين : ( تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) ، وما أمركم به ، ففتح على ذلك " أن " ، [ ص: 232 ] فمصيب وإن كسرها ، إذ كانت " التلاوة " قولا وإن كان بغير لفظ " القول " لبعدها من قوله : " أتل " ، وهو يريد إعمال ذلك فيه ، فمصيب وإن كسرها بمعنى ابتداء وانقطاع عن الأول و " التلاوة " ، وأن ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوته على من أمر بتلاوة ذلك عليهم قد انتهى دون ذلك ، فمصيب .

وقد قرأ ذلك عبد الله بن أبي إسحاق البصري : " وأن " بفتح الألف من " أن " وتخفيف النون منها ، بمعنى : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " ، " وأن هذا صراطي " ، فخففها ؛ إذ كانت " أن " في قوله : ( أن لا تشركوا به شيئا ) ، مخففة ، وكانت " أن " في قوله ( وأن هذا صراطي ) ، معطوفة عليها ، فجعلها نظيرة ما عطفت عليه .

وذلك وإن كان مذهبا ، فلا أحب القراءة به ، لشذوذها عن قراءة قرأة الأمصار ، وخلاف ما هم عليه في أمصارهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية