الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1046 [ ص: 349 ] ص: وقال آخرون في ذلك ما قد حدثني القاسم بن جعفر البصري ، قال: سمعت يحيى بن الحكم الكيساني يقول: سمعت أبا عبد الرحمن عبيد الله بن محمد بن عائشة يقول: إن آدم -عليه السلام - لما تيب عليه عند الفجر، صلى ركعتين فصارت الصبح، وفدي إسحاق -عليه السلام - عند الظهر فصلى إبراهيم -عليه السلام - أربعا فصارت الظهر، وبعث عزير -عليه السلام - فقيل له: كم لبثت؟ فقال: يوما. فرأى الشمس فقال: أو بعض يوم، فصلى أربع ركعات فصارت العصر، وقد قيل: غير عزير ، وغفر لداود -عليه السلام- عند المغرب، فقام يصلي أربع ركعات، فجهد، فجلس في الثالثة، فصارت المغرب ثلاثا، وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- فلذلك قالوا: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر .

                                                قال أبو جعفر - رحمه الله -: فهذا عندنا معنى صحيح؛ لأن أول الصلوات إن كانت الصبح وآخرها العشاء الآخرة فالوسطى فيما بين الأولى والآخرة وهي العصر؛ فلذلك قلنا: إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله -.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قال قوم آخرون في وجه تسمية صلاة العصر الصلاة الوسطى ما قاله أبو عبد الرحمن عبيد الله بن محمد بن حفص بن عمر القرشي التيمي البصري المعروف بابن عائشة وبالعيشي وبالعائشي ؛ لأنه من ولد عائشة بنت طلحة بن عبيد الله ، وهو أحد مشايخ أبي داود وأحمد بن حنبل وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيان ، وثقه أبو حاتم ، وقال أبو داود : صدوق. وروى له الترمذي والنسائي .

                                                روى ذلك عنه يحيى بن الحكم الكيساني الواسطي ، قال أبو حاتم الرازي : هو صدوق. وروى عنه أيضا، وروى عنه القاسم بن جعفر البصري شيخ الطحاوي .

                                                قوله: "لما تيب عليه" أي: لما تاب الله عليه، يعني لما قبل توبته عند الفجر؛ صلى ركعتين، فصارت تلك الركعتان الصبح، أي صلاة الصبح.

                                                قوله: "وفدي إسحاق -عليه السلام- عند الظهر" يعني: جعل له فداء، وهو الكبش الذي [ ص: 350 ] أرسله الله إليه ليذبح عوضا عنه، وعند الجمهور الذي فدي هو إسماعيل -عليه السلام -، فصلى إبراهيم -عليه السلام - عند ذلك أربعا، أي أربع ركعات، فصارت الظهر، أي صلاة الظهر.

                                                قوله: "وبعث عزير -عليه السلام-" أي: من نومه الذي سلطه الله عليه مائة عام، والأصح أنه مات؛ لقوله تعالى: فأماته الله مائة عام وذلك لما مر على بيت المقدس وقد خربها بختنصر ، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها قال ذلك ليعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة، كما طلبه إبراهيم -عليه السلام - فمات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس: يوما، ثم التفت فرأى بقية من الشمس، فقال: أو بعض يوم، فلما عاش وقام، صلى أربع ركعات فصارت العصر، أي صلاة العصر.

                                                قوله: "وقد قيل: غير عزير " أي قد قيل: إن الذي صلى العصر غير عزير -عليه السلام-، وهو يونس -عليه السلام- ، على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى.

                                                قوله: "وغفر لداود -عليه السلام- " .

                                                وذكر الفارقي في كتاب "البستان": الصلوات الخمس صلاها خمسة من الأنبياء عليهم السلام، فآدم صلى الفجر، وإبراهيم صلى الظهر، ويونس صلى العصر، وعيسى صلى المغرب، وموسى صلى العشاء.

                                                وذكر الشيخ الإمام الفقيه الزاهد أبو علي الحسن بن يحيى البخاري الزندويستي في كتابه "روضة العلماء" قال الفقيه رحمه الله تعالى: سألت أبا الفضل البرهدري ، فقلت له: لم كانت الفجر ركعتين والظهر والعصر أربعا، والمغرب ثلاثا، والعتمة أربعا؟ فقال: الشرع [ ص: 351 ] فقلت: زدني، فقال: قالت الحكماء: لأن كل صلاة صلاها نبي من الأنبياء عليهم السلام في وقتها فادخرها الله تعالى لأمه محمد -عليه السلام- لينالوا فضل أولئك الأنبياء.

                                                فأما الفجر فإنما كان ركعتين؛ لأن أول من صلاها أبونا آدم -عليه السلام -، ولما أخرج من الجنة أظلمت عليه الدنيا، وجن الليل ولم يكن رآه قبل ذلك، فخاف من ذلك خوفا شديدا، فلما أصبح وانشق الفجر صلى ركعتين شكرا لله تعالى، الأولى منها شكرا لله لنجاته من ظلمة الليل، والثانية شكرا لضوء النهار، وكان منه تطوعا، فأمرنا الله تعالى بذلك ليذهب به عنا ظلمة المعاصي، كما أذهب عنه ظلمة الليل، وينور علينا نور الطاعة كما نور عليه نور النهار.

                                                وأما صلاة الظهر أربع ركعات؛ لأن أول من صلاها إبراهيم الخليل -عليه السلام- لما أمر بذبح الولد، ثم نودي: قد صدقت الرؤيا وكان النداء عند الزوال، ونظر إبراهيم -عليه السلام - إلى الفداء وكان في أربعة أحوال:

                                                حال الذبح، فرفعه الله عنه بالفداء.

                                                وحال غم الولد؛ فكشف الله عنه ذلك.

                                                وحال النداء الذي ناداه الله تعالى وفدا عنه: وفديناه بذبح عظيم

                                                وحال رضى الله عنه، وصلى عند ذلك أربع ركعات كل ركعة شكرا لما صنع من صنائعه، فأمرنا الله تعالى بذلك، فقال: صلوا أربع ركعات؛ الظهر لأوفقكم على ذبح إبليس اللعين، كما وفقت خليلي بذبح الولد، وأنجيكم من الغم كما نجيته، وأفدي لكم من النار كما فديت عنه، وأرضى عنكم كما رضيت عنه.

                                                وأما صلاة العصر فأول من صلاها يونس -عليه السلام- حين أنجاه الله تعالى من بطن الحوت، فكان في أربع ظلمات: ظلمة الزلة، وظلمة الماء، وظلمة الليل، وظلمة [ ص: 352 ] بطن الحوت، فكانت نجاته عند العصر، فصلى أربعا شكرا لله تعالى تطوعا منه، ففرض الله علينا، فقال: عبدي، صل العصر أربعا لأنجيك من ظلمة الخطايا كما أنجيته من بطن الحوت، ومن ظلمة القيامة كما أنجيته من ظلمة الماء، ومن ظلمة جهنم كما أنجيته من ظلمة الليل، ومن ظلمة القبر كما أنجيته من ظلمة الزلة.

                                                وأما المغرب فأول من صلاها عيسى بن مريم عليهما السلام حين أخبره الله تعالى: أن قومك يدعونني ثالث ثلاثة فصلى حينئذ ثلاث ركعات، وكان بعد غروب الشمس، فالركعة الأولى: لنفي الألوهية عن نفسه، والثانية: لنفيها عن والدته، والثالثة: لإثبات الألوهية لله تعالى، فإذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين قال: فعند ذلك يهون عليه الحساب وتنجيه من النار، وتؤمنه من الفزع الأكبر، فأمرنا الله بها ليهون علينا الحساب، وينجينا من النار كما أنجاه، ويؤمننا من الفزع الأكبر كما فعل به.

                                                وأما العتمة فأول من صلاها موسى -عليه السلام -، حين ضل عن الطريق عند خروجه من المداين، وكان في غم المرأة، وغم أخيه هارون ، وغم عدوه فرعون ، وغم أولاده؛ فنجاه الله تعالى من ذلك كله، وسمع مناديا ينادي: إني أنا ربك يعني هاديك، أجمع بينك وبين أخيك، وأظفرك على عدوك، فلما سمعه وكان وقت العتمة صلى أربع ركعات لكل حالة ركعة، فأمرنا الله تعالى بذلك، فقال: عبدي، صل العتمة أربعا لأهديك كما هديته، وأكفيك كما كفيته، وأجمع بينك وبين الأنبياء عليهم السلام والصديقين كما جمعت بينه وبين هارون ، فأعطيك الظفر على عدوك إبليس اللعين، كما أعطيته على عدوه فرعون ، فلذلك كانت الصلاة في الأوقات مختلفة. انتهى.

                                                وفيه مسائل:

                                                لم سميت الصلاة صلاة ؟ أجيب: لأن فيها الدعاء، والصلاة: الدعاء في اللغة.

                                                وقيل: لأن فيها الصلاة على الرسول -عليه السلام-، وقيل: لأن تاركها يصلى النار، [ ص: 353 ] وقيل: لأنها صلة بين العبد وربه، ويقال: لاتصال أركانها بعضها ببعض.

                                                ولم وضعت على أعضاء مختلفة ؟ أجيب بأنه ورد في الحديث: "خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبع؛ ليكون شكرا لها" .

                                                ولم وضعت على سبعة عشر ركعة ؟ أجيب بأن المفاصل سبع عشرة، فأراد بأن يعتق بكل ركعة مفصلا.

                                                ولم وضعت مثنى وثلاث ورباع؟ أجيب بأن الله أراد أن توافق تلك الركعات أجنحة الملائكة ليكونوا مستغفرين للمصلين قاله جعفر الصادق -رضي الله عنه-.

                                                وقيل: وضعت ركعتين لأن العبد نصفان: روح وجسد، وثلاثا: لأن له نفسا وقلبا وروحا، وأربعا: لأن له أربع طبائع.

                                                ولم وضعت في خمسة أوقات ؟ أجيب بأن لله تعالى أفعالا في هذه الأوقات الخمسة ما ليس في غيرها، وأراد من عنده خدمة خاصة في هذه الأوقات.

                                                وقيل: لأن أبواب السماء تفتح في هذه الأوقات.




                                                الخدمات العلمية