الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ، كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء ؟ قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال الله أعلم بما كانوا عاملين وعن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلا على هذه الفطرة فذكره إلا أنه قال كما تنتجون الإبل فهل تجدون فيها جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ؟ قالوا يا رسول الله (فذكر الحديث) وفي رواية لمسلم على الملة ، وزاد في رواية له فإن كانا مسلمين فمسلم .

                                                            التالي السابق


                                                            باب أولاد المشركين .

                                                            عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء ، قالوا : يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال الله أعلم بما كانوا [ ص: 225 ] عاملين ، وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلا على هذه الفطرة فذكره إلا أنه قال كما تنتجون الإبل فهل تجدون فيها جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ، قالوا يا رسول الله فذكر الحديث . (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه من الطريق الأولى أبو داود من طريق مالك ، ومسلم من طريق سفيان بن عيينة ، مختصرا بلفظ سئل عن أطفال المشركين عمن يموت منهم صغيرا فقال الله أعلم بما كانوا عاملين كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، وأخرجه من الطريق الثانية البخاري ، ومسلم من طريق عبد الرزاق ، وأخرجه مسلم أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ الملة ، وفي لفظ له هذه الملة حتى يبين عنه لسانه ، ورواه مسلم أيضا من طريق الدراوردي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ، وفيه فإن كانا مسلمين فمسلم .

                                                            (الثانية) اختلف في المراد بالفطرة هنا على أقوال (أحدها) أن المراد الخلقة فإن الفطر بمعنى الخلق ، والمراد الخلقة المعروفة الأولى المخالفة لخلق البهائم أي على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة ؛ ذكره ابن عبد البر عن جماعة من أهل الفقه والنظر قال : وأنكروا أن يفطر المولود على كفر أو إيمان ، وإنما يعتقد ذلك بعد البلوغ إذا ميز . ولو فطر في أول أمره على شيء ما انتقل عنه [ ص: 226 ] وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون ، ومحال أن يعقل الطفل حال ولادته كفرا أو إيمانا ، والله تعالى يقول والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا فمن لا يعلم شيئا استحال منه الكفر والإيمان قال ابن عبد البر . هذا القول أصح ما قيل في ذلك .

                                                            (القول الثاني) أن المراد هنا الإسلام حكاه ابن عبد البر عن أبي هريرة ، والزهري ، وغيرهما .

                                                            وقال هؤلاء هذا هو المعروف عند عامة السلف من أهل العلم بالتأويل فقد أجمعوا في قول الله تعالى فطرت الله التي فطر الناس عليها أنها دين الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث اقرءوا إن شئتم فطرت الله التي فطر الناس عليها ، واحتجوا بقوله في حديث عياض بن حماد إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين .

                                                            ثم رده ابن عبد البر بأن الإسلام مستحيل من الطفل ، وقرر المازري ذلك بأن المراد بالفطرة ما أخذ عليهم في صلب آدم يوم ألست بربكم وأن الولادة تقع عليها حتى يقع التعبير بالأبوين ، وقرره أبو العباس القرطبي بأن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت على ذلك القبول ، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام ، وصحح هذا أبو العباس القرطبي بقوله في الرواية التي قدمناها من عند مسلم على هذه الملة .

                                                            وهي إشارة إلى ملة الإسلام قال : وقد جاء ذلك مصرحا به في الصحيح جبل الله الخلق على معرفته فاجتالتهم الشياطين .

                                                            وفي معنى ذلك قول النووي الأصح أن معناه أن كل مولود يولد متهيأ للإسلام فمن كان أبواه أو أحدهما مسلما استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا ، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما فيتبعهما في أحكام الدنيا ، وهذا معنى يهودانه وينصرانه أي يحكم له بحكمهما في الدنيا فإن بلغ استمر عليه حكم الكفر فإن سبقت له سعادة أسلم وإلا مات على كفره ، انتهى .

                                                            (القول الثالث) أن المراد البداءة التي ابتدأهم عليها أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة ، والموت ، والشقاء ، والسعادة قال محمد بن نصر المروزي ، وهذا المذهب سببه ما حكاه أبو عبيد عن عبد الله بن المبارك أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فقال يفسره الحديث الآخر حين [ ص: 227 ] سئل عن أطفال المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين .

                                                            قال : وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه ، وقال ابنه عبد الله ما رسمه مالك في الموطإ ، وذكره في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا القول (القول الرابع) أن معناه أن الله تعالى قد فطرهم على الإنكار ، والمعرفة ، وعلى الكفر والإيمان فأخذ من ذرية آدم عليه السلام الميثاق حين خلقهم فقال ألست بربكم قالوا جميعا (بلى) فأما أهل السعادة فقالوا بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم ، وأما أهل الشقاوة فقالوا بلى كرها لا طوعا قال محمد بن نصر المروزي ، وسمعت إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى ، واحتج بقول أبي هريرة اقرءوا إن شئتم فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال إسحاق يقول لا تبديل لخلقته التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر ، والإيمان ، والمعرفة ، والإنكار .

                                                            قال : واحتج له بقوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم الآية قال إسحاق : أجمع أهل العلم إنها الأرواح قبل الأجساد ، واحتج لهذا أيضا بحديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر ، وأنه طبع كافرا ، وبحديث عائشة ، وقوله عليه الصلاة والسلام لها وما يدريك إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا ، وخلق النار ، وخلق لها أهلا .

                                                            قال إسحاق فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم قال ابن عبد البر إن أراد هؤلاء أن الله خلق الأطفال ، وأخرجهم من بطون أمهاتهم ليعرف منهم العارف ويعترف فيؤمن ، وينكر منهم المنكر فيكفر كما سبق له القضاء ، وذلك في حين يصح منهم فيه الإيمان ، والكفر فذلك ما قلنا ، وإن أرادوا أن الطفل يولد عارفا مقرا مؤمنا وعارفا جاحدا كافرا في حين ولادته فهذا يكذبه العيان والعقل قال ، وقول إسحاق في هذا الباب لا يرضاه الحذاق الفهماء من أهل السنة .

                                                            وإنما هو قول المجبرة .

                                                            (القول الخامس) أن معناه ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق قبل أن يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره فخاطبهم ألست بربكم قالوا بلى فأقروا له جميعا بالربوبية عن معرفة منهم به ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مخلوقين مطبوعين على تلك المعرفة ، وذلك الإقرار قالوا ، وليست تلك المعرفة بإيمان [ ص: 228 ] ولا ذلك الإقرار بإيمان ، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب فطرة ألزمها قلوبهم ثم أرسل إليهم الرسل فدعوهم إلى الاعتراف له بالربوبية فمنهم من أنكر بعد المعرفة لأنه لم يكن الله ليدعو خلقه إلى الإيمان به ، وهو لم يعرفهم نفسه ، رواه أبو داود في سننه عن حماد بن سليم أنه سئل عن هذا الحديث فقال هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم حين قال ألست بربكم قالوا بلى

                                                            (القول السادس) أن المراد بالفطرة ما يقلب الله قلوب الخلق إليه بما يريد فقد يكفر العبد ثم يؤمن فيموت مؤمنا ، وقد يؤمن ثم يكفر فيموت كافرا ، وقد يكفر ثم لا يزال على كفره حتى يموت عليه ، وقد يكون مؤمنا حتى يموت على الإيمان فالفطرة عند هؤلاء ما قدره الله على عباده من أول أحوالهم إلى آخرها سواء كانت حالة واحدة لا تنتقل أو حالا بعد حال قال ابن عبد البر ، وهذا وإن كان صحيحا في الأصل فإنه أضعف الأقاويل من جهة اللغة في معنى الفطرة حكاها كلها ابن عبد البر ، وغيره .

                                                            (القول السابع) أن المراد بالفطرة ملة أبيه أي دينه بمعنى أن له حكمه حكاه القاضي عياض .

                                                            وقال أبو عبيد القاسم بن سلام سألت محمد بن الحسن عن هذا الحديث فقال كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض ، وقبل الأمر بالجهاد قال أبو عبيد كأنه يعني أنه لو كان يولد على الفطرة ثم مات قبل أن يهوده أبواه أو ينصرانه لم يرثهما ، ولم يرثاه لأنه مسلم وهما كافران ، ولما جاز أن يسبى فلما فرضت الفرائض ، وتقررت السنن على خلاف ذلك علم أنه يولد على دينهما انتهى .

                                                            وهذا يوافق القول الثاني أن المراد بالفطرة الإسلام لله وجعله منسوخا لما ذكره ، والحق أنه لا يحتاج فيه إلى دعوى النسخ لأنه وإن كان معناه الولادة على الإسلام فقد أخبر في بقيته أن أبويه يهودانه وينصرانه أي يثبت له حكمهما بطريق التبعية فالحكم بإسلامه هو الباطن ويهوديته أو نصرانيته هو في الظاهر .

                                                            وقال ابن عبد البر أظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه لإشكاله عليه أو لجهله به أو لكراهة الخوض في ذلك قال ، وقوله إن ذلك كان قبل الأمر بالجهاد فليس كما قال لأن في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد ، وهو حديث صحيح ثم روي عن الأسود بن سريع قال [ ص: 229 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال قوم بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان فقال رجل أو ليس أبناؤهم أولاد المشركين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليس خياركم أولاد المشركين إنه ليس من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فيعبر عنه لسانه ويهوده أبواه أو ينصرانه

                                                            (الثالثة) حكى ابن عبد البر عن طائفة أنه ليس في هذا الحديث ما يقتضي العموم ، وأن معناه أن كل من ولد على الفطرة ، وكان أبواه على غير الإسلام هوداه أو نصراه أو مجساه قالوا : وليس معناه أن جميع المولودين يولدون على الفطرة بل المعنى أن المولود على الفطرة بين الأبوين الكافرين يكفرانه ، وكذا من يولد على الفطرة ، وكان أبواه كافرين حكم له بحكمهما في صغره حتى يبلغ فيكون له حكم نفسه حينئذ لا حكم أبويه ، واحتج هؤلاء بحديث الغلام الذي قتله الخضر فإنه لم يولد على الفطرة بل طبع كافرا .

                                                            ، وحديث أبي سعيد مرفوعا ألا إن بني آدم خلقوا طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ، ويحيى مؤمنا ، ويموت مؤمنا ، ومنهم من يولد كافرا ، ويحيى كافرا ، ويموت كافرا ، ومنهم من يولد مؤمنا ، ويحيى مؤمنا ، ويموت كافرا ، ومنهم من يولد كافرا ، ويحيى كافرا ، ويموت مؤمنا . ويرد هذا التأويل لفظ الرواية الثانية ما من مولود يولد إلا على هذه الفطرة .

                                                            (الرابعة) قوله فأبواه يهودانه وينصرانه يحتمل أن يكون بطريق العقل ، والتعليم ، والتسبيب ، ويحتمل أن يكون بالتبعية حكما ، وإن لم يقع ذلك فعلا ، وفيه على الثاني تبعية الصغير لأبويه الكافرين في حكم الكفر ، وهو كذلك بالإجماع ، والواو في قوله وينصرانه بمعنى أو لأن الأبوين لا يفعلان الأمرين معا ، وإنما يفعلان أحدهما .

                                                            (الخامسة) قوله كما تناتج الإبل أي تتناتج فحذف إحدى التاءين تخفيفا وقوله جمعاء بفتح الجيم ، وإسكان الميم ، وبالمد أي مجتمعة الأعضاء سليمة من النقص ، وقوله هل تحس بضم أوله وكسر ثانيه وتشديد ثالثه من الإحساس ، وهو الإدراك بأحد الحواس ، وقوله جدعاء بفتح الجيم ، وإسكان الدال المهملة ، وبالمد أي مقطوعة الأذن أو غيرها من الأعضاء ، ومعناه أن البهيمة تلد البهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها ، وإنما يحصل فيها النقص ، والجدع بعد ولادتها فكذلك يخرج المولود [ ص: 230 ] سليما من الكفر ، وإنما يطرأ له ذلك بعد ، وقوله في الرواية الثانية تنتجون بضم أوله ، وإسكان ثانيه ، وفتح ثالثه .

                                                            وقوله الإبل منصوب على المفعولية ، وهذا الفعل مبني للفاعل ، وإن كانت صيغته صيغة المبني للمفعول ، وقول أبي العباس القرطبي إنه مبني لما لم يسم فاعله إن أراد في الصورة ، وإلا فهو ، وهم فقد ذكر فاعله معه .

                                                            (السادسة) قوله يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير هذا السؤال إنما هو عن أولاد المشركين ، وقد صرح بذلك في حديث أبي هريرة ، وفي حديث ابن عباس ، وكلاهما في صحيح البخاري ، ومسلم ، وقوله الله أعلم بما كانوا عاملين .

                                                            استدل به من ذهب إلى التوقف في أولاد المشركين ، وأنا لا ندري هل هم في الجنة أم في النار ، ومعنى الحديث أنه من علم الله أنه إن بلغ كان مسلما فهو في الجنة ، ومن علم أنه إن بلغ كان كافرا كان في النار ، وقد اختلف العلماء في أولاد المسلمين فالأكثرون على الجزم بأنهم في الجنة ، وقيل فيهم يتوقف ، واحتج قائله بما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت توفي صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها ، وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا خلقهم لها ، وهم في أصلاب آبائهم .

                                                            وحكى النووي الأول عن إجماع من يعتد به من علماء المسلمين ، والتوقف عن بعض من لا يعتد به ، وقال ، وأجاب العلماء عن حديث عائشة بأنه لعله نهاها عن التسرع إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص قوله إني لا أراه مؤمنا قال أو مسلما الحديث .

                                                            قال ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم وغير ذلك من الأحاديث انتهى .

                                                            وذكر المازري أن بعضهم ينكر الخلاف في ذلك لقوله تعالى واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم قال وبعض المتكلمين يقف فيهم ، ولا يرى نصا قاطعا بكونهم في الجنة ، ولم يثبت عنده الإجماع فيقول به ، واستثنى قبل ذلك من الخلاف أولاد الأنبياء عليهم السلام [ ص: 231 ] وقال قد تقرر الإجماع على أنهم في الجنة ، وحكى ابن عبد البر التوقف في أولاد المسلمين عن جماعة كثيرة من أهل الفقه ، والحديث منهم حماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، وابن المبارك ، وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم .

                                                            قال : وهو نسبة ما رسمه مالك في أبواب القدر من موطآته ، وما أورد في ذلك من الأحاديث ، وعلى ذلك أكثر أصحابه ، وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى .

                                                            وروى أبو داود في سننه عن ابن وهب قال (سمعت مالكا قيل له إن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث قال مالك احتج عليهم بآخره قالوا أرأيت من يموت وهو صغير قال الله أعلم بما كانوا عاملين) وأما أطفال المشركين ففيهم مذاهب :

                                                            (أحدها) أنهم في النار تبعا لآبائهم .

                                                            (والثاني) أنهم في الجنة .

                                                            (والثالث) التوقف فيهم .

                                                            (والرابع) أنهم يمتحنون في الآخرة ، وقد ورد هذا في حديث روي من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود الحديث . وفيه يقول المولود رب لم أدرك العقل قال فترتفع لهم نار فيقال ردوها وادخلوها قال فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل قال فيقول الله تعالى إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم . وروي موقوفا على أبي سعيد ، وروي أيضا من حديث أنس ، ومعاذ بن جبل والأسود بن سريع ، وأبي هريرة وثوبان قال ابن عبد البر ، والأحاديث في ذلك من أحاديث الشيوخ ، وفيها علاوات ليست من أحاديث الأئمة الفقهاء ، وهو أصل عظيم ، والقطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضعيف في العلة والنظر مع أنه قد عارضها ما هو أقوى منها انتهى .

                                                            (والقول الخامس) أنهم في برزخ حكاه أبو العباس القرطبي عن قوم قال قيل أحسبهم من غير أهل النار حكى النووي الأول ، وهو أنهم في النار عن الأكثرين والثاني [ ص: 232 ] وهو أنهم في الجنة عن المحققين قال : وهو الصحيح ، ويستدل عليه بأشياء منها حديث إبراهيم الخليل صلوات الله عليه حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، وحوله أولاد الناس قالوا يا رسول الله ، وأولاد المشركين قال : وأولاد المشركين . رواه البخاري في صحيحه

                                                            ومنها قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ولا يتوجه على المولود التكليف ، ويلزمه قول الرسول حتى يبلغ ، وهذا متفق عليه قال : والجواب عن حديث والله أعلم بما كانوا عاملين أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار ، وحقيقة لفظه الله أعلم بما كانوا يعملون لو بلغوا ، والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ ، وأما غلام الخضر فيجب تأويله قطعا لأن أبويه كانا مؤمنين فيكون هو مسلما فيتأول على أن معناه أن الله علم أنه لو بلغ لكان كافرا لا أنه كافر في الحال ، ولا تجري عليه في الحال أحكام الكفار انتهى .

                                                            وسفك دمه في الحال غير سائغ في شريعتنا ، ولا أظنه كان في شريعة موسى عليه السلام ، ولهذا أنكره ، وإنما هو شريعة الخضر عليه السلام فهي شريعة منسوخة لا يجوز التمسك بها على أن بعضهم ذكر أن هذا الغلام كان قد بلغ ، وكان قاطع طريق ، ووصفه بأنه غلام ليس صريحا في أنه لم يبلغ ففي الحديث عن عبد الملك بن ربيعة قال اجتمعت أنا ، والفضل بن عباس ، ونحن غلامان شابان قد بلغنا ، ولكنه قول بعيد منكر ، وروى ابن عبد البر في التمهيد عن عائشة قالت سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ، ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت ألا تزر وازرة وزر أخرى فقال هم على الفطرة أو قال في الجنة . وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت ربي اللاهين من ذرية البشر فأعطانيهم أن لا يعذبهم ، وعن أنس مرفوعا أيضا وأولاد المشركين خدم أهل الجنة . وعن سلمان موقوفا (أطفال المشركين خدم أهل الجنة) .

                                                            وروى ابن عبد البر أيضا عن ابن عباس قال (لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو متقاربا أو كلمة تشير إلى هذين حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر ؛ قال يحيى بن آدم فذكرته لابن المبارك فقال أفيسكت الإنسان على الجهل ؟ قلت فتأمر بالكلام فسكت) . وذكر ابن عبد البر [ ص: 233 ] أيضا عن ابن عون قال (كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال ماذا كان بين فلان وبين حفص بن عمر في أولاد المشركين قال : وتكلم ربيعة الرأي في ذلك فقال القاسم : إذا الله انتهى عن شيء فانتهوا وقفوا عنده قال فكأنما كانت نارا فانطفأت) .



                                                            (السابعة) استدل به على أن الولد الصغير يتبع أبويه في الإسلام والكفر ، وقد عرفت أن في رواية لمسلم فإن كانا مسلمين فمسلم ، وقد أجمع المسلمون على ذلك إنما اختلفوا فيما إذا أسلم أحد أبويه فقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد ، والجمهور يتبع أيهما أسلم سواء كان هو الأب أو الأم ، وقال مالك يتبع أباه خاصة دون أمه حتى لو أسلمت أمه وأبوه كافر استمر على الحكم له بالكفر .



                                                            واختلفوا أيضا فيما إذا سبي ، وليس معه أحد أبويه فقال الجمهور أيضا يتبع السابي فإذا كان مسلما فهو مسلم ، ولو كان أبواه كافرين حيين ، وقال مالك هو على حاله من الحكم عليه بالكفر ، ولو انفرد عنهما حتى يسلم استقلالا بعد البلوغ




                                                            الخدمات العلمية