الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الطرف الثاني في وجوب الجهاد

                                                                                                                                                                        قد يكون فرض كفاية ، وقد يتعين كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وهل كان فرض كفاية في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أم فرض عين ؟ فيه وجهان ، أصحهما : فرض كفاية لقوله تعالى : ( لا يستوي القاعدون ) الآية ، وأما اليوم فهو ضربان ، أحدهما : أن يكون الكفار مستقرين في بلدانهم ، فهو فرض كفاية ، فإن امتنع الجميع منه ، أثموا ، وهل يعمهم الإثم ، أم يختص بالذين يدنوا إليه ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح أنه يأثم كل من لا عذر له كما سيأتي بيان الأعذار إن شاء الله تعالى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وإن قام من فيه كفاية ، سقط عن الباقين . وتحصل الكفاية بشيئين .

                                                                                                                                                                        أحدهما : أن يشحن الإمام الثغور بجماعة يكافئون من بإزائهم من الكفار ، وينبغي أن يحتاط بإحكام الحصون وحفر الخنادق ونحوهما ، ويرتب في كل ناحية أميرا كافيا يقلده الجهاد وأمور المسلمين .

                                                                                                                                                                        الثاني : أن يدخل الإمام دار الكفر غازيا بنفسه ، أو بجيش يؤمر عليهم من يصلح لذلك ، وأقله مرة واحدة في كل سنة ، فإن زاد فهو أفضل ، ويستحب أن يبدأ بقتال من يلي دار الإسلام من الكفار ، فإن كان الخوف من الأبعدين أكثر ، بدأ بهم ، ولا يجوز إخلاء سنة عن جهاد [ ص: 209 ] إلا لضرورة ، بأن يكون في المسلمين ضعف وفي العدو كثرة ، ويخاف من ابتدائهم الاستئصال ، أو لعذر بأن يعز الزاد وعلف الدواب في الطريق ، فيؤخر إلى زوال ذلك ، أو ينتظر لحاق مدد ، أو يتوقع إسلام قوم ، فيستميلهم بترك القتال ، هذا ما نصر عليه الشافعي ، وجرى عليه الأصحاب - رحمهم الله - وقال الإمام : المختار عندي في هذا مسلك الأصوليين ، فإنهم قالوا : الجهاد دعوة قهرية ، فيجب إقامته بحسب الإمكان حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم ، ولا يختص بمرة في السنة ، ولا يعطل إذا أمكنت الزيادة ، وما ذكره الفقهاء حملوه على العادة الغالبة ، وهي أن الأموال والعدد لا تتأتى لتجهيز الجنود في السنة أكثر من مرة ، ثم إن تمكن الإمام من بث الأجناد للجهاد في جميع الأطراف ، فعل ، وإلا فيبدأ بالأهم فالأهم ، وينبغي له أن يرعى النصفة بالمناوبة بين الأجناد في الإغزاء ، ويسقط الوجوب في هذا الضرب بأعذار .

                                                                                                                                                                        منها : الصغر والجنون والأنوثة ، وللإمام أن يأذن للمراهقين والنساء في الخروج ، وأن يستصحبهم لسقي الماء ومداواة المرضى ومعالجة الجرحى ، ولا يأذن للمجانين بحال ، ولا جهاد على الخنثى .

                                                                                                                                                                        ومنها : المرض ، فلا جهاد على من به مرض يمنعه من القتال والركوب على دابة ، ولا على من لا يمكنه القتال إلا بمشقة شديدة ، ولا اعتبار بالصداع ووجع الضرس والحمى الخفيفة ونحوها .

                                                                                                                                                                        ومنها : العرج ، فلا جهاد على من به عرج بين وإن قدر على الركوب ووجد دواب ، وقيل : يلزمه الجهاد راكبا ، والصحيح الأول ، وسواء العرج في رجل أو رجليه ، ولا اعتبار بعرج يسير لا يمنع المشي ، ولا جهاد على أشل اليد ، ولا من فقد معظم أصابعه بخلاف فاقد الأقل .

                                                                                                                                                                        ومنها : العمى ، فلا جهاد على أعمى ، ويجب على الأعور والأعشى [ ص: 210 ] وعلى ضعيف البصر إن كان يدرك الشخص ، ويمكنه أن يتقي السلاح .

                                                                                                                                                                        ومنها : الفقر ، فلا جهاد على من عجز عن سلاح وأسباب القتال ، ويشترط أن يجد نفقة طريقه ذهابا ورجوعا ، فإن لم يكن له أهل ولا عشيرة ، ففي اشتراط نفقة الرجوع وجهان سبقا في الحج ، فإن كان القتال على باب البلد ، أو حواليه ، سقط اشتراط نفقة الطريق ، ويشترط وجدان راحلة إن كان سفره مسافة القصر ، ويشترط كون جميع ذلك فاضلا عن نفقة من يلزمه نفقته ، وسائر ما ذكرناه في الحج ، وكل عذر يمنع وجوب الحج ، يمنع وجوب الجهاد إلا أمن الطريق ، فإنه شرط هناك ولا يشترط هنا ؛ لأن مبنى الغزو على ركوب المخاوف ، هذا إن كان الخوف من طلائع الكفار ، وكذا لو كان من متلصصي المسلمين على الصحيح ، ولو بذل للفاقد ما يحتاج إليه ، لم يلزمه قبوله ، إلا أن يبذله الإمام ، فيلزمه أن يقبل ويجاهد ؛ لأن ما يعطيه الإمام حقه ، ولا يلزم الذمي الجهاد ، والحاصل أن الجهاد لا يجب إلا على مسلم بالغ عاقل ذكر حر مستطيع ، ولا جهاد على رقيق وإن أمره سيده ؛ إذ ليس القتال من الاستخدام المستحق للسيد ، ولا يلزمه الذب عن سيده عند خوفه على روحه إذا لم نوجب الدفع عن الغير ، بل السيد في ذلك كالأجنبي ، وللسيد استصحابه في سفر الجهاد وغيره ليخدمه ويسوس دوابه ، والمدبر والمكاتب ومن بعضه حر لا جهاد عليهم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        مما يمنع وجوب الجهاد الدين ، فمن عليه دين حال لمسلم أو ذمي ليس له أن يخرج في سفر جهاد أو غيره إلا بإذنه ، وله أن يمنعه السفر لتوجه المطالبة به ، والحبس إن امتنع ، وإن كان معسرا ، فليس له منعه على الصحيح ؛ إذ لا مطالبة في الحال ، ولو استناب الموسر من يقضي دينه من مال حاضر ، فله الخروج ، وإن أمره بالقضاء من مال [ ص: 211 ] غائب ، فلا ، ومتى أذن صاحب الدين ، فله الخروج ، ويلتحق بأصحاب فرض الكفاية ، وفيه احتمال للإمام ، وإن كان الدين مؤجلا ، فله أن يخرج في سفر لا يغلب فيه الخطر على ما سبق في التفليس ، وهل لصاحب الدين منعه من سفر الجهاد ؟ فيه خمسة أوجه ، أصحها : لا . والثاني : نعم ، إلا أن يقيم كفيلا بالدين . والثالث : له المنع إن لم يخلف وفاء . والرابع : له المنع إن لم يكن من المرتزقة ، والخامس : له ذلك إن كان الدين يحل قبل رجوعه ، وركوب البحر كسفر الجهاد على الأصح .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        من أحد أبويه حي ، يحرم عليه الجهاد إلا بإذنه ، أو بإذنهما إن كانا حيين مسلمين ، ولا يحتاج إلى إذن كافر ، والأجداد والجدات كالوالدين ، وقيل : لا يشترط إذن الجد مع وجود الأب ، ولا الجدة مع وجود الأم ، والأول أصح ، وليس للوالد منع الولد من حجة الإسلام على الصحيح ، وله المنع من حج التطوع ، وأما سفره لطلب العلم ، فإن كان لطلب ما هو متعين ، فله الخروج بغير إذنهما ، وليس لهما المنع ، وإن كان لطلب ما هو فرض كفاية ، بأن خرج لطلب درجة الفتوى وفي الناحية مستقل بالفتوى ، فليس لهما المنع على الأصح ، فإن لم يكن هناك مستقل ، ولكن خرج جماعة ، فليس لهما على المذهب ؛ لأنه لم يوجد في الحال من يقوم بالمقصود ، والخارجون ، فلا يظفرون بالمقصود ، وإن لم يخرج معه أحد ، لم يحتج إلى إذن ، ولا منع لهما قطعا ؛ لأنه يدفع الإثم عن نفسه ، كالفرض المتعين عليه ، وقيد بعضهم هذه الصورة بما إذا لم يمكنه التعلم في بلده ، ويجوز أن لا يشترط ذلك ، بل يكفي أن يتوقع في السفر زيادة فراغ أو إرشاد أستاذ أو غيرهما ، كما لم يقيد الحكم في سفر التجارة بمن لم يتمكن منها ببلده ، بل اكتفي بتوقع زيادة ربح ، أو رواج ، وأما سفر [ ص: 212 ] التجارة وغيره ، فإن كان قصيرا ، فلا منع منه بحال ، وإن كان طويلا ، نظر إن كان فيه خوف ظاهر ، كركوب بحر أو بادية مخطرة ، وجب الاستئذان على الصحيح ، ولهما المنع ، وإن كان الأمن غالبا ، فالأصح أنه لا منع ولا يلزمه الاستئذان ، والولد الكافر في هذه الأسفار كالمسلم ، بخلاف سفر الجهاد ، فإنه متهم فيه ، والرقيق كالحر على الصحيح لشمول معنى البر والشفقة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        من خرج للجهاد بإذن صاحب الدين أو الوالدين ، ثم رجعوا عن الإذن ، أو كان الأبوان كافرين ، فخرج ثم أسلما ، ولم يأذنا ، وعلم المجاهد الحال ، فإن لم يشرع في القتال ، ولم يحضر الوقعة لزمه الانصراف إلا أن يخاف على نفسه أو ماله أو يخاف انكسار قلوب المسلمين ، فلا يلزمه ، فإن لم يمكنه الانصراف للخوف ، وأمكنه أن يقيم في قرية في الطريق حتى يرجع الجيش ، لزمه أن يقيم ، وأوهم في " الوسيط " خلافا في وجوب الإقامة هناك ، وحكى ابن كج قولا أنه لا يلزمه الانصراف ، والمشهور الأول ، وإن علم بعد الشروع في القتال ، فأربعة أوجه ، أصحها : تجب المصابرة ، ويحرم الانصراف ، والثاني : يجب الانصراف ، والثالث : يتخير بين الانصراف والمصابرة ، والرابع : يجب الانصراف إن رجع صاحب الدين دون الأبوين إن رجع ، لعظم شأن الدين ومن شرط عليه الاستئذان ، فخرج بلا إذن ، لزمه الانصراف ما لم يشرع في القتال ؛ لأن سفره سفر معصية إلا أن يخاف على نفسه أو ماله ، فإن شرع في القتال ، فوجهان مرتبان ، وهذه الصورة أولى بوجوب الانصراف ؛ لأن أول الخروج معصية ، ولو خرج عبد بغير إذن سيده ، لزمه الانصراف ما لم يحضر الوقعة ، فإن حضر ، فلا ، قال الروياني : يستحب الرجوع .

                                                                                                                                                                        [ ص: 213 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو مرض من خرج للجهاد أو عرج ، أو فني زاده ، أو هلكت دابته ، فله أن ينصرف ما لم يحضر الوقعة ، وكذا الحكم لو كان العذر حاصلا وقت الخروج ، فإن حضر الوقعة ، فهل يلزمه الثبات أم له الرجوع ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني ، قال الإمام : والوجهان إذا لم يورث انصرافه فشلا في الجند ، فإن أورثه ، حرم الرجوع قطعا ، وفي " التهذيب " في صورة موت الدابة يلزمه القتال راجلا إن أمكنه ذلك ، وإلا فلا ، وقيل : إذا انقطع عنه سلاحه ، أو انكسر ، لزمه القتال بالحجارة إن أمكنه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        حيث جوزنا الانصراف لرجوع الأبوين أو صاحب الدين عن الإذن ، أو لحدوث المرض ونحوه ، فليس للسلطان حبسه ، قال الشافعي - رحمه الله - : إلا أن يتفق ذلك لجماعة ، ويخشى من انصرافهم خلل في المسلمين ، ولو انصرف لذهاب نفقة ، أو هلاك دابة ، ثم قدر على النفقة والدابة في بلاد الكفار ، لزمه الرجوع للجهاد ، وإن كان فارق بلاد الكفر ، لم يلزمه الرجوع ، وعن نصه أن من خرج للجهاد ، وبه عذر مرض وغيره ، ثم زال عذره ، وصار من أهل فرض الجهاد ، لم يكن له الرجوع عن الغزو ، وكذا لو حدث العذر ، وزال قبل أن ينصرف .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        من شرع في قتال ولا عذر له ، لزمه المصابرة ، وعبر الأصحاب عن هذا بأن الجهاد يصير متعينا على من هو من أهل فرض الكفاية بالشروع ، ولو اشتغل شخص بالتعلم ، وأنس الرشد فيه من نفسه ، هل يحرم عليه قطعه ؟ وجهان ، أحدهما : نعم ، فيلزمه الإتمام ، قاله القاضي حسين ، وأصحهما : لا ؛ لأن الشروع لا يغير حكم المشروع فيه بخلاف الجهاد ، فإن رجوعه يؤدي إلى التخذيل ، وهل يجب إتمام صلاة الجنازة إذا [ ص: 214 ] شرع فيها ؟ وجهان ، قال القفال : لا ، وقال الجمهور : نعم ، وهو الأصح ، قال الغزالي : الأصح أن العلم وسائر فروض الكفاية تتعين بالشروع .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية