الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ) . الظاهر أن الخوف هو الخشية هنا ، جريا على أصل اللغة في الخوف ، فيكون المعنى : بتوقع الجنف أو الإثم من الموصي . قال مجاهد : المعنى : من خشي أن يجنف الموصي ، ويقطع ميراث طائفة ، ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد ، وذلك هو الجنف دون إثم ، وإذا تعمد فهو الجنف في إثم ، فوعظه في ذلك ورده ، فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته ، فلا إثم عليه .

( إن الله غفور ) عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ، ورجع عما أراد من الأذية رحيم ) به . وقيل : يراد بالخوف هنا العلم ، أي : فمن علم ، وخرج عليه قوله تعالى : ( إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ) . وقول أبي محجن :


أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها



والعلقة بين الخوف والعلم حتى أطلق على العلم الخوف ، وأن الإنسان لا يخاف شيئا حتى يعلم أنه مما يخاف منه ، فهو من باب التعبير بالمسبب عن السبب ، وقال في المنتخب : الخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم ، وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص ، وبين الظن والعلم مشابهة في أمور كثيرة ، فلذلك صح إطلاق كل واحد منهما على الآخر . انتهى كلامه . وعلى الخوف بمعنى العلم ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة ، والربيع ، معنى الآية : من خاف أي : علم بعد موت الموصي أن الموصي حاف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته ، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق ، فلا إثم عليه ، أي : لا يلحقه إثم التبديل المذكور قبل ، وإن كان في فعله تبديلها ، ولكنه تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى . وقال عطاء : المعنى : فمن خاف من موص جنفا أو إثما في عطيته لورثته عند حضور أجله ، فأعطى بعضا دون بعض ، فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك .

وقال طاوس : المعنى : فمن خاف من موص جنفا أو إثما في وصيته لغير ورثته بما يرجع بعضه على ورثته ، فأصلح بين ورثته فلا إثم عليه . وقال الحسن : هو أن يوصي للأجانب ويترك الأقارب ، فيرد إلى الأقارب ، قال : وهذا هو الإصلاح . وقال السدي : المعنى : فمن خاف من موص بآبائه وأقربائه جنفا على بعضهم لبعض ، فأصلح بين الآباء والأقرباء ، فلا إثم عليه . وقال علي بن عيسى : هو مشتمل على أمر ماض واقع ، وأمر غير واقع ، فإن كانت الوصية باقية أمر الموصي بإصلاحها ، ورد من الجنف إلى النصف ، وإن كانت ماضية أصلحها الموصى إليه بعد موته . وقيل : هو أن يوصي لولد ابنته ، يقصد بها نفع ابنته ، وهذا راجع إلى قول طاوس المتقدم . وإذا فسرنا الخوف بالخشية ، فالخوف إنما يصح في أمر مرتبط والوصية قد وقعت ، فكيف يمكن تعليقها بالخوف ؟ والجواب : أن المصلح إذا شاهد الموصي يوصي ، فظهرت منه أمارات الجنف أو التعدي بزيادة غير مستحق ، أو نقص مستحق ، أو عدل عن مستحق ، فأصلح عند ظهور الأمارات : لأنه لم يقطع بالجنف والإثم ، فناسب أن يعلق بالخوف : لأن الوصية لم تمض بعد ولم تقع ، أو علق بالخوف وإن كانت قد وقعت : لأنه له أن ينسخها أو يغيرها بزيادة أو نقصان ، فلم يصر الجنف أو الإثم معلومين : لأن تجويز الرجوع يمنع من القطع . أو علق بالخوف وإن كانت الوصية استقرت ومات الموصي يجوز أن يقع بين الورثة والموصى لهم مصالحة على وجه يزول به الميل والخطأ ، فلم يكن الجنف ولا الإثم مستقرا ، فعلق بالخوف . والجواب الأول أقوى ، ومن : شرطية ، والجواب : فلا إثم عليه : و ( من موص ) متعلق بخاف ، أو بمحذوف تقديره : كائنا من موص ، وتكون حالا ، إذ لو تأخر لكان صفة ، كقوله : ( جنفا أو إثما ) فلما تقدم صار حالا ، ويكون الخائف في [ ص: 24 ] هذين التقديرين ليس الموصي ، ويجوز أن يكون " من " لتبيين جنس الخائف ، فيكون الخائف بعض الموصين على حد ، من جاءك من رجل فأكرمه ، أي : من جاءك من الرجال فالجائي رجل ، والخائف هنا موص . والمعنى : فمن خاف من الموصي جنفا أو إثما من ورثته ومن يوصي له ، فأصلح بينهم ، فلا إثم على الموصي المصلح ، وهذا معنى لم يذكره المفسرون ، إنما ذكروا أن الموصي مخوف منه لا خائف ، وأن الجنف أو الإثم من الموصي لا من ورثته ، ولا من يوصي له . وأمال حمزة خاف ، وقرأ هو والكسائي وأبو بكر : " موص " ، من وصى والباقون : موص ، من : أوصى ، وتقدم أنهما لغتان . وقرأ الجمهور : جنفا ، بالجيم والنون ، وقرأ علي : حيفا ، بالحاء والياء . وقال أبو العالية : الجنف الجهالة بموضع الوصية ، والإثم : العدول عن موضعها ، وقال عطاء ، وابن زيد : الجنف الميل ، والإثم أن يكون قد أثم في إيثاره بعض الورثة على بعض ، وقال السدي : الجنف الخطأ ، والإثم العمد . وأما الحيف فمعناه : البخس ، وذلك بأن يريد أن يعطي بعض الورثة دون بعض . قال الفراء : تحيف مالا أي : نقصه من حافاته ، وروي : من حاف في وصيته ألقي في ألوى ، وألوى واد في جهنم .

فأصلح بينهم : الضمير عائد على الموصي والورثة ، أو على الموصى لهما وعلى الورثة والموصى لهم على اختلاف الأقاويل التي سبقت ، والظاهر عوده على الموصى لهم ، إذ يدل على ذلك لفظ " الموصي " لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له ، كما قيل في قوله : " وأداء إليه " أي : إلى العافي ، لدلالة " من عفي له " ، ومنه ما أنشده الفراء - رحمه الله تعالى :


وما أدري إذا يممت أرضا     أريد الخير أيهما يليني



فقال : أيهما ، فأعاد الضمير على الخير والشر ، وإن لم يتقدم ذكر الشر ، لكنه تقدم الخير وفيه دلالة على الشر ، والظاهر أن هذا المصلح هو الوصي ، والمشاهد ، ومن يتولى بعد موته ذلك من وال ، أو ولي ، أو من يأمر بالمعروف ، فكل هؤلاء يدخل تحت قوله : " فمن خاف " إذا ظهرت لهم أمارات الجنف أو الإثم ، ولا وجه لتخصيص الخائف بالوصي ، وأما كيفية هذا الإصلاح فبالزيادة أو النقصان ، أو كف للعدوان " فلا إثم عليه " يعني : في تبديل الوصية إذا فعل ذلك لقصد الإصلاح ، والضمير " عليه " عائد على من عاد عليه ضمير " فأصلح " وضمير " خاف " ، وهو " من " وهو الخائف المصلح . وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، لما ذكر المبدل في أول الآية وكان هذا من التبديل ، بين مخالفته للأول ، وأنه لا إثم عليه : لأنه رد الوصية إلى العدد ، ولما كان المصلح ينقص الوصايا ، وذلك يصعب على الموصى له ، أزال الشبهة بقوله : " فلا إثم عليه " ، وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي ، وصرف ماله عن من أحب إلى من يكره ، انتهى .

وهذا يرجع معناه إلى قوله الأول . وقال أيضا : إن الإصلاح يحتاج إلى الإكثار من القول ، وقد يتخلله بعض ما لا ينبغي من قول أو فعل ، فبين أن ذلك لا إثم فيه إذا كان لقصد الإصلاح ، ودلت الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع ، انتهى كلامه .

( إن الله غفور رحيم ) . قيل : غفور لما كان من الخائف ، وقيل : للمصلح " رحيم " حيث رخص ، وقيل : غفور للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف والخطأ والعهد والإثم إذ رجع إلى الحق ، رحيم للمصلح . وقال الراغب : أي متجاوز عن ما عسى أن يسقط من المصلح مما لم يجر . وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة [ ص: 25 ] أن البر ليس هو تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب ، بل البر هو الإتيان بما كلفه الإنسان من تكاليف الشرع ، اعتقادا وفعلا وقولا . فمن الاعتقاد : الإيمان بالله ، وملائكته الذين هم وسائط بينه وبين أنبيائه ، وكتبه التي نزلت على أيدي الملائكة ، وأنبيائه المتلقين تلك الكتب من ملائكته . ثم ذكر ما جاءت به الأنبياء عن الله في تلك الكتب من إيتاء المال ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيفاء بالعهد ، والصبر في الشدائد . ثم أخبر أن من استوفى ذلك فهو الصابر المتقي ، ولما كان تعالى قد ذكر قبل ما حلل وما حرم ، ثم أتبع ذلك بمن أخذ مالا من غير حله ، ووعده بالنار ، وأشار بذلك إلى جميع المحرمات من الأموال ، ثم ذكر من اتصف بالبر التام وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها ، أخذ تعالى يذكر ما حرم من الدماء ، ويستدعي صونها ، وكان تقديم ذكر المأكول لعموم البلوى بالأكل .

فشرع القصاص ، ولم يخرج من وقع منه القتل واقتص منه عن الإيمان . ألا تراه قد ناداه باسم الإيمان ، وفصل شيئا من المكافأة فقال : ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) ، ثم أخبر بعد ذلك أنه إذا وقع عفو من الولي على دية فليتبع الولي بالمعروف ، وليؤدي الجاني بالإحسان ليزرع بذلك الود بين القاتل والولي ، ويزيل الإحن ؟ لأن مشروعية العفو تستدعي على الثالث التحاب وصفاء البواطن . ثم ذكر أن ذلك تخفيف منه تعالى ، إذ فيه صون نفس القاتل بشيء من عرض الدنيا ، ثم توعد من اعتدى بعد ذلك ، ثم أخبر أن في مشروعية القصاص حياة ، إذ من علم أنه مقتول بمن قتل ، وكان عاقلا ، منعه ذلك من الإقدام على القتل ، إذ في ذلك إتلاف نفس المقتول وإتلاف نفس قاتله ، فيصير بمعرفته بالقصاص متحرزا من أن يقتل فيقتل ، فيحيي بذلك من أراد قتله وهو ، فكان ذلك سببا لحياتيهما . ثم ذكر تعالى مشروعية الوصية لمن حضره الموت ، وذكر أن الوصية للوالدين والأقربين ، وتوعد من بدل الوصية بعد ما علمها ، ثم ذكر أنه لا إثم على من أصلح بين الموصى إليهم إذا كان جنفا أو إثما من الموصي ، وأن ذلك لا يعد من التبديل الذي يترتب عليه الإثم ، فجاءت هذه الآيات حاوية لما يطلب من المكلف من بدء حاله ، وهو الإيمان بالله ، وختم حاله وهو الوصية عند مفارقه هذا الوجود ، وما تخلل بينهما مما يعرض من مبار الطاعات ، وهنات المعاصي ، من غير استيعاب لأفراد ذلك ، بل تنبيها على أفضل الأعمال بعد الإيمان ، وهو إقامة الصلاة وما بعدها ، وعلى أكبر الكبائر بعد الشرك ، وهو قتل النفس ، فتعالى من كلامه فصل ، وحكمه عدل .

التالي السابق


الخدمات العلمية