الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويستحب لمن فرغ من الصلاة أن يذكر الله تعالى لما روى ابن الزبير رضي الله عنهما أنه { كان يهلل في أثر كل صلاة يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا نعبد إلا إياه ، وله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ، ولو كره الكافرون ثم يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهذا في دبر كل صلاة } وكتب المغيرة إلى معاوية رضي الله عنهما : " { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد } ) . "

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) اتفق الشافعي والأصحاب وغيرهم رحمهم الله على أنه يستحب ذكر الله تعالى بعد السلام ، ويستحب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد والرجل والمرأة والمسافر وغيره ، ويستحب أن يدعو أيضا بعد السلام بالاتفاق وجاءت في هذه المواضع أحاديث كثيرة صحيحة في الذكر والدعاء قد جمعتها في كتاب الأذكار ( منها ) عن أبي أمامة رضي الله عنه قال { قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الدعاء أسمع ؟ قال : جوف الليل الآخر ، ودبر الصلوات المكتوبات } رواه الترمذي وقال حديث حسن . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم بالتكبير } رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية مسلم " كنا نعرف " [ ص: 466 ] وعن ابن عباس أيضا : " { أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته } رواه البخاري ومسلم . وعن ثوبان رضي الله عنه قال " { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا قال : اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام } " قيل للأوزاعي وهو أحد رواته : كيف الاستغفار ؟ قال تقول : أستغفر الله أستغفر الله . رواه مسلم .

                                      وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة وسلم قال : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد } رواه البخاري ومسلم . وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما { أنه كان يقول في دبر كل ، صلاة حين يسلم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون قال ابن الزبير : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة } رواه مسلم . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه { أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضول من أموالهم يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون ، فقال ألا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ فقالوا : بلى يا رسول الله ، قال : تسبحون الله وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين فقال أبو صالح لما سئل عن كيفية ذكرها يقول : سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثا وثلاثين } رواه البخاري ومسلم ( الدثور ) بضم الدال جمع دثر بفتح الدال وإسكان المثلثة وهو المال الكثير . وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن [ ص: 467 ] دبر كل صلاة مكتوبة ثلاثا وثلاثين تسبيحة ، وثلاثا وثلاثين تحميدة ، وأربعا وثلاثين تكبيرة } رواه مسلم .

                                      وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وحمده ثلاثا وثلاثين ، وكبر الله ثلاثا وثلاثين ، وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر } رواه مسلم . وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ دبر الصلاة بهؤلاء الكلمات : اللهم إني أعوذ بك من الجبن ، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا ، وأعوذ بك من عذاب القبر } رواه البخاري في أول كتاب الجهاد . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة قال : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت } هكذا رواه أبو داود بإسناد صحيح وهو إسناد مسلم ، هكذا في رواية ، وفي رواية أنه كان يقول هذا بين التشهد والتسليم ، وقد سبق هذا في موضعه ولا منافاة بين الروايتين فهما صحيحتان ، وكان يقول الدعاء في الموضعين والله أعلم .

                                      وعن معاذ رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال : يا معاذ والله إني لأحبك ، أوصيك يا معاذ لا تدعهن دبر كل صلاة ، تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك } رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح .

                                      وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال { أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين دبر كل صلاة } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم . وفي رواية أبي داود " بالمعوذات " فينبغي أن يقرأ قل هو الله أحد مع المعوذتين . وروى الطبراني في معجمه أحاديث في فضل آية الكرسي دبر الصلاة المكتوبة ، لكنها كلها ضعيفة ، وفي الباب أحاديث كثيرة غير ما ذكرته هنا ، وجاء في الذكر بعد صلاة الصبح أحاديث ( منها ) حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [ ص: 468 ] { من قال في دبر كل صلاة الفجر وهو ثان رجله قبل أن يتكلم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، عشر مرات كتب له عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه وحرس من الشيطان ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله تعالى } رواه الترمذي والنسائي ، قال الترمذي حديث حسن غريب . وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة } رواه الترمذي وقال : حديث حسن ، وفي الباب غير ما ذكرته والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال القاضي أبو الطيب يستحب أن يبدأ من هذه الأذكار بحديث الاستغفار وحكى حديث ثوبان ، قال الشافعي رحمه الله في الأم بعد أن ذكر حديث ابن عباس السابق في رفع الصوت بالذكر ، وحديث ابن الزبير السابق ، وحديث أم سلمة المذكور في الفصل بعد هذا : أختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله تعالى بعد السلام من الصلاة . ويخفيان الذكر إلا أن يكون إماما يريد أن يتعلم منه فيجهر حتى يرى أنه قد تعلم منه فيسر ، فإن الله تعالى يقول { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } يعني والله أعلم الدعاء ( ولا تجهر ) ترفع ( ولا تخافت ) حتى لا تسمع نفسك . [ وأحسب ما روى ابن الزبير من تهليل النبي صلى الله عليه وسلم وما روى ابن عباس من تكبيره كما رويناه ] قال : وأحسبه إنما جهر قليلا - يعني في حديث ابن عباس وحديث ابن الزبير - ليتعلم الناس منه لأن عامة الروايات [ ص: 469 ] التي كتبناها مع هذا وغيرها ليس يذكر فيها بعد التسليم تهليل ولا تكبير [ وقد يذكر أنه ذكر بعد الصلاة بما وصف ويذكر انصرافه بلا ذكر ] وقد ذكرت أم سلمة " مكثه صلى الله عليه وسلم ولم تذكر جهرا وأحسبه صلى الله عليه وسلم لم يمكث إلا ليذكر سرا " . قال : وأستحب للمصلي ، منفردا أو مأموما أن يطيل الذكر بعد الصلاة ويكثر الدعاء رجاء الإجابة بعد المكتوبة ، هذا نصه في الأم واحتج البيهقي وغيره لتفسيره الآية بحديث عائشة رضي الله عنها قالت في قول الله تعالى : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } نزلت في الدعاء . رواه البخاري ومسلم . وهكذا قال أصحابنا : إن الذكر والدعاء بعد الصلاة يستحب أن يسر بهما إلا أن يكون إماما يريد تعليم الناس فيجهر ليتعلموا ، فإذا تعلموا وكانوا عالمين أسره . واحتج البيهقي وغيره في الإسرار بحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال { كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنه معكم سميع قريب } رواه البخاري ومسلم ( اربعوا ) - بفتح الباء - أي ارفقوا .



                                      ( فرع ) قد ذكرنا استحباب الذكر والدعاء للإمام والمأموم والمنفرد وهو مستحب عقب كل الصلوات بلا خلاف ، وأما ما اعتاده الناس أو كثير منهم من تخصيص دعاء الإمام بصلاتي الصبح والعصر فلا أصل له ، وإن كان قد أشار إليه صاحب الحاوي فقال : إن كانت صلاة لا يتنفل بعدها كالصبح والعصر استدبر القبلة واستقبل الناس ودعا ، وإن كانت مما يتنفل بعدها كالظهر والمغرب والعشاء فيختار أن يتنفل في منزله ، وهذا الذي أشار إليه من التخصيص لا أصل له ، بل الصواب استحبابه في كل الصلوات ، ويستحب أن يقبل على الناس فيدعو . والله أعلم .



                                      ( فرع ) وأما هذه المصافحة المعتادة بعد صلاتي الصبح والعصر [ ص: 470 ] فقد ذكر الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله أنها من البدع المباحة ولا توصف بكراهة ولا استحباب ، وهذا الذي قاله حسن ، والمختار أن يقال : إن صافح من كان معه قبل الصلاة فمباحة كما ذكرنا ، وإن صافح من لم يكن معه قبلها فمستحبة ; لأن المصافحة عند اللقاء سنة بالإجماع للأحاديث الصحيحة في ذلك ، وسأبسط الكلام في المصافحة والسلام وتشميت العاطس وما يتعلق بها ويشبهها في فصل عقب صلاة الجمعة إن شاء الله تعالى .



                                      ( فرع ) يستحب الإكثار من الذكر أول النهار وآخره ، وفي الليل ، وعند النوم والاستيقاظ ، وفي ذلك أحاديث كثيرة جدا مشهورة في الصحيحين وغيرهما مع آيات من القرآن الكريم وقد جمعت معظم ذلك مهذبا في كتاب الأذكار .




                                      الخدمات العلمية