الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن قوله : ( الذين يتربصون بكم ) إما بدل من الذين يتخذون ، وإما صفة للمنافقين ، وإما نصب على الذم ، وقوله ( يتربصون ) أي : ينتظرون ما يحدث من خير أو شر ، فإن كان لكم فتح أي : ظهور على اليهود قالوا للمؤمنين : ألم نكن معكم ، أي : فأعطونا قسما من الغنيمة ، وإن كان للكافرين يعني اليهود نصيب ، أي : ظفر على المسلمين قالوا ألم نستحوذ عليكم ، يقال : استحوذ على فلان ، أي : غلب عليه وفي تفسير هذه [ ص: 66 ] الآية وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يكون بمعنى : ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئا من ذلك ، ونمنعكم من المسلمين بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم وتوانينا في مظاهرتهم عليكم ، فهاتوا لنا نصيبا مما أصبتم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن يكون المعنى أن أولئك الكفار واليهود كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام ، ثم إن المنافقين حذروهم عن ذلك وبالغوا في تنفيرهم عنه وأطمعوهم أنه سيضعف أمر محمد وسيقوى أمركم ، فإذا اتفقت لهم صولة على المسلمين قال المنافقون : ألسنا غلبناكم على رأيكم في الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وقلنا لكم بأنه سيضعف أمره ويقوى أمركم ، فلما شاهدتم صدق قولنا فادفعوا إلينا نصيبا مما وجدتم . والحاصل أن المنافقين يمنون على الكافرين بأنا نحن الذين أرشدناكم إلى هذه المصالح ، فادفعوا إلينا نصيبا مما وجدتم .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لم سمى ظفر المسلمين فتحا ، وظفر الكفار نصيبا ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : تعظيما لشأن المؤمنين واحتقارا لحظ الكافرين ، لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء حتى تنزل الملائكة بالفتح على أولياء الله ، وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دنيء ينقضي ولا يبقى منه إلا الذم في الدنيا والعقوبة في العاقبة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) أي : بين المؤمنين والمنافقين ، والمعنى أنه تعالى ما وضع السيف في الدنيا عن المنافقين ، بل أخر عقابهم إلى يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) وفيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو قول علي - عليه السلام - وابن عباس - رضي الله عنهما - : أن المراد به في القيامة بدليل أنه عطف على قوله : ( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن المراد به في الدنيا ولكنه مخصوص بالحجة ، والمعنى أن حجة المسلمين غالبة على حجة الكل ، وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة والدليل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : هو أنه عام في الكل إلا ما خصه الدليل ، وللشافعي - رحمه الله - مسائل : منها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه بدار الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية ، ومنها : أن الكافر ليس له أن يشتري عبدا مسلما بدلالة هذه الآية ، ومنها : أن المسلم لا يقتل بالذمي بدلالة هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) قد مر تفسير الخداع في سورة البقرة في قوله ( يخادعون الله والذين آمنوا ) [البقرة : 9] قال الزجاج في تفسير هذه الآية : ( يخادعون الله ) أي : يخادعون رسول الله ، أي : يظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر كما قال : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) [الفتح : 10] وقوله ( وهو خادعهم ) أي : مجازيهم بالعقاب على خداعهم . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إنه تعالى خادعهم في الآخرة ، وذلك أنه تعالى يعطيهم نورا كما يعطي المؤمنين ، فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم وبقوا في الظلمة ، ودليله قوله تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) [البقرة : 17] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية