الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب المسابقة بالخيل عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء إلى ثنية الوداع ، وكان أمدها ثنية الوداع ، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق ، وكان عبد الله بن عمر فيمن سابق بها .

                                                            التالي السابق


                                                            باب المسابقة بالخيل .

                                                            عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق على الخيل التي قد أضمرت من الحفياء إلى ثنية الوداع ؛ وكان أمدها ثنية الوداع ، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق ، وكان عبد الله بن عمر فيمن سابق بها . (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه الشيخان ، وأبو داود ، والنسائي من هذا الوجه من طريق مالك ، والشيخان ، والنسائي من طريق الليث بن سعد ، والشيخان من طريق موسى بن عقبة ، ومسلم من طريق أيوب السختياني ، وأسامة بن زيد ، وإسماعيل بن أمية ، والشيخان وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من طريق عبيد الله بن عمر إلا أن لفظ أبي داود مختصر كان يضمر الخيل ليسابق بها ومسلم من طريق أيوب السختياني ، وأسامة بن زيد ، وإسماعيل بن أمية ، والنسائي من طريق ابن أبي ذئب ثمانيتهم عن نافع عن ابن عمر . وفي صحيح البخاري من طريق موسى بن عقبة (فقلت لموسى بين ذلك يعني الحفياء وثنية الوداع ؟ قال ستة أميال أو سبعة) ، وفيه (قلت فكم بين ذلك يعني الثنية ، ومسجد بني زريق قال ميل أو نحوه) وفي الترمذي في نفس الحديث (وبينهما ستة أميال ، وبينهما ميل) ، وهو في صحيح البخاري من كلام سفيان الثوري بلفظ خمسة أميال أو ستة

                                                            وذكر ابن عبد البر في التمهيد أن ابن بكير [ ص: 238 ] كان يقول عن مالك إلى عند مسجد بني زريق ، وخالفه جمهور الرواة فقالوا إلى مسجد بني زريق (قلت) ولا تفاوت بين اللفظين فهما بمعنى واحد ، ولا يعد ذلك اختلافا .

                                                            قال ابن عبد البر ، ورواه ابن أبي ذئب بلفظ كان يضمر ثم يسبق فاختصره ، ولم يذكر الأمد والغاية (قلت) هو عند النسائي من طريق ابن أبي ذئب بذكر الأمد ، والغاية فهما كرواية غيره ثم روى ابن عبد البر رواية عبيد الله بن عمر من طريق الثوري عنه ، وفيه " فيما لم يضمر من الحفياء إلى مسجد بني زريق " .

                                                            وقال هكذا قال من الحفياء إلى مسجد بني زريق ، ومالك يقول من الثنية إلى مسجد بني زريق ، وهو الصواب إن شاء الله لأنه تابعه عليه الليث ، وموسى بن عقبة (قلت) ، ورواية عبيد الله بن عمر من طريق الثوري عنه في صحيح البخاري ، وسنن الترمذي باللفظ المشهور . والاختلاف إنما هو في رواية ابن عبد البر خاصة ، وروى أبو داود عن أحمد بن حنبل عن عقبة بن خالد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سبق بين الخيل ، وفضل القرح في الغاية . قال ابن عبد البر ، ولم يقل هذا الحديث أحد غير عقبة بن خالد هذا

                                                            ، وقد ، وجدت له أصلا فيما رواه أبو سلمة التبوذكي نا عبد الملك بن حرب عن عبد الملك بن مجاشع بن مسعود السلمي حدثني أبي وعمي عن جدي (أن ناسا من أهل البصرة ضمروا خيولهم فنهاهم الأمير عقبة بن غزوان أن يجروها حتى كتب إلى عمر فكتب إليه عمر أن أرسل القرح من رأس مائة علوة ، ولا يركبها إلا أربابها) ورواه أحمد في مسنده من رواية عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل وراهن .

                                                            ورواه البيهقي من رواية حماد بن سليمان عن العمري عن نافع عن ابن عمر أن الخيل كانت تجري من ستة أميال للسبق فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق . قال البيهقي حماد بن سليمان هذا مجهول .

                                                            ، وروى الطبراني في معجمه الأوسط من رواية عاصم بن عمر عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل ، وجعل بينها سبقا ، وجعل فيها محللا ، وقال لا سبق إلا في حافر أو نصل . وأورده ابن عدي في الكامل في ترجمة عاصم بن عمر ، وضعفه .

                                                            (الثانية) قوله أضمرت بضم الهمزة ، وإسكان الضاد المعجمة ، وكسر الميم ، وتخفيفها ، ويجوز أن يقال فيه [ ص: 239 ] ضمرت بتشديد الميم بدون همزة ، والأول هو الرواية ، ويجوز في قوله لم تضمر الوجهان إسكان الضاد ، وتخفيف الميم ، وفتح الضاد ، وتشديد الميم . والموافق لقوله أضمرت الأول ، والمراد به أن تعلف الخيل حتى تسمن وتقوى ثم يقلل علفها فلا تعلف إلا قوتا ، وتدخل بيتا كنينا ، وتغشى بالجلال حتى تحمى لتعرق ويجف عرقها فيخف لحمها وتقوى على الجري قال الخطابي ، ومن العرب من يطعمها اللحم واللبن في أيام التصمر ، و الحفياء بفتح الحاء المهملة ، وإسكان الفاء بعدها ياء مثناة من تحت يجوز فيه المد والقصر ، وجهان مشهوران أشهرهما وأفصحهما المد ، والحاء مفتوحة بلا خلاف قاله النووي .

                                                            وقال القاضي عياض في المشارق : وضبطه بعضهم بضم الحاء ، وهو خطأ ، وقال الحازمي في المؤتلف ، ويقال فيها أيضا الحيفاء بتقديم المثناة من تحت على الفاء ، والمشهور المعروف في كتب الحديث ، وغيرها الحفياء و ثنية الوداع بفتح الثاء المثلثة وكسر النون ، وتشديد الياء المثناة من تحت والثنية الطريق في الجبل كالثقب . وحكى صاحب المحكم مع ذلك ثلاثة أقوال أيضا قيل الطريق إلى الجبل ، وقيل العقبة ، وقيل الجبل نفسه انتهى .

                                                            وأضيفت هذه الثنية إلى الوداع لأن الخارج من المدينة يمشي معه المودعون إليها قال ابن عبد الله ، وزعموا أنها إنما سميت بذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعه بها بعض المقيمين بالمدينة في بعض أسفاره . وقيل لأنه عليه الصلاة والسلام شيع إليها بعض سراياه فودعه عندها ، وقيل إن المسافر من المدينة كان يشيع إليها ، ويودع عندها قديما ، وصحح القاضي عياض هذا الأخير ، واستدل عليه بقول نساء الأنصار حين مقدم النبي صلى الله عليه وسلم

                                                            طلــــــــع البــــــــدر علينـــــــا مــــــــن ثنيـــــــات الـــــــوداع

                                                            فدل على أنه اسم قديم قال ابن عبد البر ، وأظنها على طريق مكة . ومنها بدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهر إلى المدينة في حين إقباله من مكة فقال شاعرهم

                                                            طلــــــــع البــــــــدر علينـــــــا     مــــــــن ثنيـــــــات الـــــــوداع
                                                            وجـــــــب الشـــــــكر علينــــــا     مـــــــــا دعــــــــا للــــــــه داع

                                                            انتهى .

                                                            (وهذا الذي ذكره من إنشادهم هذا الشعر عند قدومه عليه الصلاة والسلام . [ ص: 240 ] المدينة ) رواه البيهقي في دلائل النبوة وأبو الحسن المقري في كتاب الشمائل له عن ابن عائشة .

                                                            وقال ابن القطان إنما سميت بثنية الوداع لأنهم كانوا يشيعون الحجاج والغزاة إليها ويودعونهم عندها ، وإليهم كانوا يخرجون عند التلقي انتهى .

                                                            وهذا كله مردود ففي صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي عن السائب بن يزيد قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس يتلقونه إلى ثنية الوداع . وهذا صريح في أنها من جهة الشام ، ولهذا لما نقل والدي رحمه الله في شرح الترمذي كلام ابن بطال قال إنه وهم قال : وكلام ابن عائشة معضل لا تقوم به حجة ثم قال : ويحتمل أن تكون الثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها ثنية الوداع .

                                                            وقوله ، وكان أمدها ثنية الوداع يجوز فيه رفع الأول ونصب الثاني ، وعكسه على تقديم الخبر ، وقد ضبطناه بالوجهين ، والأمد الغاية قال النابغة

                                                            ســبق الجـواد إذا اسـتولى علـى الأمـد

                                                            ، وتقدم في الفائدة الأولى عن موسى بن عقبة أن بين الحفياء وثنية الوداع ستة أميال أو سبعة .

                                                            ، وعن سفيان الثوري ستة أميال أو خمسة ، وأطلق القاضي عياض هذا الثاني عن سفيان فظن النووي أنه ابن عيينة فصرح بذلك ، وهو وهم ، وإنما هو الثوري كما عرفت ، وتقدم أن في الترمذي الجزم بستة أميال .

                                                            وقوله من الثنية أي المذكورة ، وهي ثنية الوداع ومسجد بني زريق بتقديم الزاي على الراء أضيف إليهم لصلاتهم به ، وهي إضافة تعريف لا ملك .

                                                            (الثالثة) فيه المسابقة بين الخيل ، وأن ذلك ليس من العبث المذموم بل من الرياضة المحمودة التي يتوصل بها إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة إلى القتال كرا وفرا ، وهذا مجمع عليه ، وإنما اختلفوا في أنها مباحة أو مستحبة ، ومذهب أصحابنا أنها مستحبة .



                                                            (الرابعة) وفيه إضمار الخيل لما فيه من المصلحة ، وهي القوة على الجري ، وينبغي أن يجري في استحبابه الخلاف المتقدم ، ولا يخفى اختصاص استحباب الأمرين بالخيل المعدة لقتال الكفار ، ومن ساواهم في جواز قتاله أما المعدة لقتال من لا يحل قتاله فلا يستحب فيها ذلك بل لا يجوز بهذا القصد ، والله أعلم .



                                                            (الخامسة) وفيه أنه لا بد في المسابقة من إعلام ابتداء الغاية وانتهائها ، وهو كذلك بالإجماع ، وإلا أدى إلى [ ص: 241 ] النزاع الذي لا ينقطع .



                                                            (السادسة) وفيه أنه لا تسابق إلا بين فرسين يمكن أن يسبق أحدهما الآخر لأنه عليه الصلاة والسلام لم يسابق بين المضمرات وغيرها بل جعل كل صنف منها مع ملائمه لأن غير المضمرة لا تساوق المضمرة كيف ، وقد جعل ميدان المضمرات ستة أميال ، وميدان غيرها ميلا واحدا ، وهذا تفاوت كبير ، وفيه أنه لو عينت غاية لا تقدر تلك الخيل على قطعها لم يصح ، وتقدم من سنن أبي داود أنه عليه الصلاة والسلام فضل القرح في الغاية وهو بضم القاف وتشديد الراء ، وآخره حاء مهملة جمع قارح ، وهو من الخيل ما كان ابن خمس سنين فأكثر ، وهو أشد قوة ممن هو أصغر منه سنا ، ويقال في نظيره من الإبل بازل ، وعلى هذا جاء قول الشاعر

                                                            وابــن اللبــون إذا مــا لــذ فــي قـرن ولـم ينفـع صولـة الـبزل القنـا عدس

                                                            وذكر ابن عبد البر بعد نقله هذا الحديث أنه إن صح ففيه دليل على أن التي كانت قد أضمرت من تلك الخيل كانت قرحا ، وذلك غير لازم إنما اللازم . بل يمكن أن يسابق بين بعض القرح وغيرها ، وتفضيلها في الغاية على غيرها لكن قال الخطابي لا ضمر بين الخيل إلا القرح . الإفتاء والمهارة .

                                                            (السابعة) وفيه إطلاق الفعل على الأمر به والمسوغ له أنه مسبب عنه فقوله سابق أي أمر لوجود مسوغه .



                                                            (الثامنة) يحتمل أن تكون هذه المسابقة بعوض ، وبغير عوض ، وليس في الحديث ذكر عوض ، وما ذكر من الترجمة للترمذي ، وغيره عليه بالرهان نظر نعم تقدم أن ذكر الرهن في ذلك روي من حديث ابن عمر في مسند أحمد ، وعند البيهقي ، ومعجم الطبراني ، وغيرها ، وأجمع العلماء على جواز المسابقة بغير عوض ، وأجمعوا على جوازها أيضا بعوض لكن بشرط أن يكون العوض من غير المتسابقين إما الإمام أو أحد الرعية قال الجمهور ، وبذل الرهان من أحدهما خاصة صحيح ، وبعضهم منع هذه الصورة ، وهو رواية عن [ ص: 242 ] مالك ، ويجوز أن يكون منهما لكن يكون معهما محلل ، وهو ثالث على فرس مكافئ لفرسيهما بشرط أن لا يخرج المحلل من عنده شيئا ليخرج هذا العقد عن صورة القمار هذا مذهب الشافعي وأحمد والجمهور ، ومنع مالك إخراج السبق منهما ، ولو بمحلل ، ولم يعرف مالك المحلل ، والأصل للجمهور في اعتباره ما رواه أبو داود ، وابن ماجه من رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أدخل فرسا بين فرسين يعني ، وهو لا يؤمن أن يسبق فليس بقمار ، ومن أدخل فرسا بين فرسين ، وقد أمن أن يسبق فهو قمار ولم ينفرد به سفيان بن حسين كما زعم بعضهم فقد رواه أبو داود أيضا من طريق سعيد بن بشير عن الزهري .



                                                            (التاسعة) وفي قوله ، وكان عبد الله بن عمر فيمن سابق بها دليل على أن المراد المسابقة بين الخيل مركوبة ، وليس المراد إرسال الفرسين ليجريا بأنفسهما ، وقد صرح الفقهاء بأنه لو شرط ذلك في عقد المسابقة لم يصح لأن الدواب لا تهتدي لقصد الغاية بغير راكب ، وربما نفرت بخلاف الطيور إذا جوزت المسابقة عليها فإنها تهتدي للمقصد .



                                                            (العاشرة) وفيه دليل لجواز أن يقال مسجد بني فلان ، وقد ترجم له البخاري بهذه الترجمة قال ابن بطال ، وفيه جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها ونسبتها إليهم ، وليس في ذلك تزكية لهم قال : وروي عن النخعي أنه كان يكره أن يقال مسجد بني فلان ، ولا يرى بأسا أن يقال مصلى بني فلان قال : وهذا الحديث يرد قوله فلا فرق بين قولنا مصلى ومسجد ، والله الموفق .




                                                            الخدمات العلمية