الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        للغنيمة أحكام ، أحدها : يجوز التبسط بتناول أطعمتها ، وبعلف الدواب قبل القسمة بلا عوض ، فيحتاج إلى بيان جنس المأخوذ ، والمنفعة المعتبرة ، والأخذ ومكان الأخذ ، أما جنسه ، فهو القوت وما يصلح به القوت ، واللحم والشحم وكل طعام يعتاد أكله على العموم ، ولعلف [ ص: 262 ] الدواب التبن والشعير وما في معناهما ، وذكر الإمام فيما ليس بقوت ، ولكن يؤكل غالبا ، كالفواكه ، وجهين ، وقطع الجمهور بجواز التبسط في الجميع ، وأما الفانيد والسكر والأدوية التي تندر الحاجة إليها ، ففيها أوجه ، الصحيح وبه قال الجمهور : لا تباح لندور الحاجة ، فإن احتاج إليها مريض منهم ، أخذ قدر حاجته بقيمته ، وينبغي أن يقال : يراجع أمير الجيش فيه ، والثاني : تباح للحاجة بلا عوض ، والثالث : أن ما لا يؤكل إلا تداويا ، يحسب عليه ، وما يكون للتداوي وغيره ، لا يحسب عليه ، وأما المنفعة المعتبرة ، فمنفعة الأكل والشرب والعلف ، وفي جواز أخذ الشحم والدهن لتوقيح الدواب ، وهو مسحها بالمذاب ، وهو المغلي ولجربها وجهان ، أحدهما : الجواز ، كعلفها ، والأصح المنصوص : المنع ، كالمداواة ، وعلى الأول ينبغي أن يجوز الإدهان بها ، ولا يجوز إطعام البزاة والصقور منها بخلاف الدواب المحتاج إليها للركوب والحمل .

                                                                                                                                                                        ولا يجوز أخذ سائر الأموال ولا الانتفاع بها ، كلبس ثوب وركوب دابة ، فلو خالف ، لزمته الأجرة ، كما تلزمه القيمة إذا أتلف بعض الأعيان ، فإن احتاج لبرد وغيره ، قال الروياني : يستأذن الإمام ويحسب عليه ، ويجوز أن يأذن في لبسه بالأجرة مدة الحاجة ، ثم يرده إلى المغنم ، ولا يجوز استعمال السلاح إلا أن يضطر إليه في القتال ، فإذا انقضت الحرب ، رده إلى المغنم ، ويجوز ذبح الحيوان المأكول للحمه ، كتناول الأطعمة ، وقيل : لا يجوز ، لندور الحاجة إليه ، والصحيح الأول ، ثم قال الجماهير : لا فرق بين الغنم وسائر الحيوانات المأكولة ، وأشار [ ص: 263 ] الإمام إلى تخصيص الذبح بالغنم ، وصرح به الغزالي ، والصواب الأول . ثم ما يذبح يجب رد جلده إلى المغنم ، إلا ما يؤكل مع اللحم ، ويحرم على الذابح أن يتخذ من جلده سقاء أو حذاء أو شراكا ، فإن فعل ، وجب رد المصنوع كذلك ولا شيء له في الصنعة ، بل إن نقص لزمه الأرش ، وإن استعمله لزمه الأجرة ومتى ذبح ما يجوز ذبحه ، هل تلزمه قيمته لندور الحاجة ؟ وجهان ، الصحيح : المنع ، كالأطعمة ، ودعوى الندور ممنوعة .

                                                                                                                                                                        أما الأخذ وقدر المأخوذ ، فيجوز أخذ العلف والطعام لمن يحتاج إليه ، فلو كان معه ما يغنيه عنهما ، هل له الأخذ ؟ وجهان ، أحدهما : لا ، لاستغنائه ، وأصحهما : نعم ، لإطلاق الأحاديث ، وكل من أخذ فليأخذ كفايته ، ولا بأس باختلاف قدر ما يأخذون بحسب الحاجة ، قال البغوي : ولهم التزود لقطع مسافة بين أيديهم ، ولو أكل فوق حاجته ، لزمه قيمته ، نص عليه ، ولو كان معه دابتان فأكثر ، فله أخذ علفهن ، وفي وجه لا يأخذ إلا علف واحدة ، كما لا يسهم إلا لفرس ، والصحيح الأول ، ولو أخذ غانم فوق حاجته ، وضيف به غانما أو غانمين ، جاز ، وليس فيه إلا أنه تولى إصلاح الطعام لهم وليس له أن يضيف به غير الغانمين ، فإن فعل ، لزم الآكل الضمان ، ويكون المضيف كمن قدم طعاما مغصوبا إلى ضيف فأكله ، فينظر أعلم الحال أم جهله ، والحكم ما سبق في كتاب الغصب ، ولو أتلف بعض الغانمين من طعام الغنيمة شيئا ، كان كإتلافه مالا آخر ، فيلزمه رد القيمة إلى المغنم ، لأنه لم يستعمله في الوجه المسوغ شرعا ، وما يأخذه لا يملكه بالأخذ ، لكن أبيح له الأخذ ، كالضيف ، ذكره الإمام . ولو لحق الجيش مدد بعد انقضاء القتال وحيازة المال ، هل لهم [ ص: 264 ] التبسط في الأطعمة ؟ وجهان ، أصحهما : المنع ، وبه قطع البغوي ، ووجه الجواز مظنة الحاجة وعزة الطعام هناك ، ومن دخل من الغانمين دار الإسلام وقد فضل مما أخذه شيء ، ففي وجوب رده إلى المغنم ثلاثة أقوال ، أظهرها : يجب ، لزوال الحاجة والمأخوذ متعلق حق الجميع ، والثاني : لا ، لإباحة الأخذ ، والثالث : إن كان قليلا لا يبالى به ، ككسر الخبز وبقية التبن في المخالي ، لم يرد ، وإلا فيرد ، ومتى وجب الرد ، فإن لم تقسم الغنيمة ، رده إلى المغنم ، وإن قسمت ، رده إلى الإمام ، فإن أمكن قسمته كما قسمت الغنيمة ، فعل ، وإن لم يكن لنزارة ذلك القدر ولتفرق الغانمين ، قال الصيدلاني : يجعل في سهم المصالح ، أما مكان الأخذ والتبسط ، فهو دار الحرب ، فإذا انتهوا إلى عمران دار الإسلام ، وتمكنوا من الشراء ، أمسكوا ، ولو خرجوا عن دار الحرب ، ولم ينتهوا إلى عمران دار الإسلام فوجهان ، أصحهما : جواز التبسط ، لبقاء الحاجة ، والثاني : المنع ، لأن مظنة الحاجة دار الحرب فيناط الحكم به وعكسه ، ولو وجدوا سوقا في دار الحرب : وتمكنوا من الشراء ، فقد طرد الغزالي فيه الوجهين لانعكاس الدليلين ، وقطع الإمام بالجواز وقال : لم أر أحدا منع التبسط بهذا السبب ، ونزلوا دار الحرب في إباحة الطعام منزلة السفر في الرخص ، فإنها وإن ثبتت لمشقة السفر ، فالمرفه الذي لا كلفة عليه يشارك فيها ، وذكر أنه لو كان لجماعة من الكفار معنا مهادنة ، وكانوا لا يمتنعون من مبايعة من يطرقهم من المسلمين ، فالظاهر وجوب الكف عن أطعمة المغنم في دارهم ، لأنها وإن لم تكن مضافة إلى دار الإسلام ، فهي في قبضة الإمام بمثابة دار الإسلام فيما نحن فيه للتمكن من الشراء منهم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ليس للغانم أن يقرض ما أخذه من الطعام والعلف لغير الغانمين [ ص: 265 ] ولا أن يبيعه ، فإن فعل ، لزم الآخذ رده إلى المغنم ، فلو أقرضه غانما آخر فوجهان ، الصحيح عند الجمهور وهو المنصوص : أن للمقرض مطالبة المقترض بعينه أو بمثله من المغنم ، لا من خالص ماله ، لأنه إذا أخذه صار أحق به ، ولم تزل يده عنه إلا ببدل . والثاني وهو قول الشيخ أبي حامد ، ورجحه الإمام : أنه لا مطالبة ، ولا يلزمه الرد ، لأن الآخذ من جملة المستحقين ، وإذا حصل في يده ، فكأنه أخذه بنفسه ، والوجهان متفقان أنه ليس قرضا محققا ، لأن الآخذ لا يملك المأخوذ حتى يملكه لغيره ، فعلى الأول : لو رد عليه من خالص ملكه ، لم يأخذه المقرض ، لأن غير المملوك لا يقابل بالمملوك حتى إذا لم يكن في المغنم طعام آخر ، سقطت المطالبة ، وإذا رد من المغنم ، الأول أحق به لحصوله في يده ، وعلى هذا إذا دخلوا دار الإسلام ، انقطعت حقوق الغانمين عن أطعمة المغنم ، فيرد المستقرض على الإمام ، وإذا دخلوا دار الإسلام وقد بقي عين المستقرض في يد المقترض ، بني على أن الباقي من طعام المغنم هل يجب رده إلى المغنم ؟ إن قلنا : نعم ، رده إلى المغنم ، وإلا ، فإن جعلنا للقرض اعتبارا ، رده إلى المقرض ، وإلا لم يلزمه شيء .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو باع غانم ما أخذه لغانم آخر ، فهذا إبدال مباح بمباح ، وهو كإبدال الضيفان لقمة بلقمة ، وكل واحد منهما أولى بما صار إليه ، ولو تبايعا صاعا بصاعين ، لم يكن ذلك ربا ، لأنه ليس بمعاوضة محققة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        مقتضى ما تكرر أن المأخوذ مباح للغانم غير مملوك أنه لا يجوز له أن يأكل طعام نفسه ، ويصرف المأخوذ إلى حاجة أخرى بدلا عن طعامه ، كما لا يتصرف الضيف فيما قدم إليه إلا بالأكل . [ ص: 266 ] فرع

                                                                                                                                                                        قال الإمام : لو قل الطعام ، واستشعر الأمير الازدحام والتنازع فيه ، جعله تحت يده ، وقسمه على المحتاجين على قدر حاجاتهم ، وله أن يمنع من معه كفايته مزاحمة المحتاجين .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية