الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ رد المبطلين لشفعة الجوار ]

قال المبطلون لشفعة الجوار : لا تضر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض ; فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال : { إن الشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر قال : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط ، ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك ، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق } قال الشافعي : ثنا سعيد بن سالم ثنا ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة } وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها } وفي الموطإ من حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم ، فإذا صرفت الطرق ووقعت الحدود فلا شفعة } .

وقال سعيد بن منصور : ثنا إسماعيل بن زكريا عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عوف بن عبد الله عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال : " إذا صرفت الحدود وعرف الناس حدودهم فلا شفعة بينهم " .

وقال أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عثمان بن عفان : إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها ، وهذا قول ابن العباس .

قالوا : ولا ريب أن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والإحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسم الموجب لنقص قيمة ملكه عليه .

قالوا : وقد فرق الله بين الشريك والجار شرعا وقدرا ; ففي الشركة حقوق لا توجد في الجوار ; فإن الملك في الشركة مختلط وفي الجوار متميز ، ولكل من الشريكين على صاحبه [ ص: 99 ] مطالبة شرعية ومنع شرعي ; أما المطالبة ففي القسمة ، وأما المنع فمن التصرف ; فلما كانت الشركة محلا للطلب ومحلا للمنع كانت محلا للاستحقاق ، بخلاف الجواب ، فلم يجز إلحاق الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف ،

والمعنى الذي وجبت به الشفعة رفع مؤنة المقاسمة ، وهي مؤنة كثيرة ، والشريك لما باع حصته من غير شريكه فهذا الدخيل قد عرضه لمؤنة عظيمة ، فمكنه الشارع من التخلص منها بانتزاع الشقص على وجه لا يضر بالبائع ولا بالمشتري ، ولم يمكنه الشارع من الانتزاع قبل البيع ; لأن شريكه مثله ومساو له في الدرجة ، فلا يستحق عليه شيئا إلا ولصاحبه مثل ذلك الحق عليه ، فإذا باع صار المشتري دخيلا ، والشريك أصيل ، فرجح جانبه وثبت له الاستحقاق .

قالوا : وكما أن الشارع يقصد رفع الضرر عن الجار فهو أيضا يقصد رفع الضرر عن المشتري ، ولا يزيل ضرر الجار بإدخال الضرر على المشتري ; فإنه محتاج إلى دار يسكنها هو وعياله ، فإذا سلط الجار على إخراجه وانتزاع داره منه أضر به إضرارا بينا ، وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا ، وتطلبه دارا لا جار لها كالمتعذر عليه أو كالمتعسر ; فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق ; لئلا يضر الناس بعضهم بعضا ، ويتعذر على من أراد شراء دار لها جار أن يتم له مقصوده ، وهذا بخلاف الشريك ، وإن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها ، والشريك يمكنه ذلك بانضمامها إلى ملكه ، فليس على المشتري ضرر في انتزاعها منه وإعطائه ما اشتراها به .

قالوا : وحينئذ فتعين حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة ; فيكون لفظ الجار فيها مرادا به الشريك ، ووجه هذا الإطلاق المعنى والاستعمال ، أما المعنى فإن كل جزء من ملك الشريك مجاور لملك صاحبه ، فهما جاران حقيقة ، وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران ، ولذا سميت الزوجة جارة كما قال الأعشى :

أجارتنا بيني فإنك طالقه

فتسمية الشريك جارا أولى وأحرى .

وقال حمل بن مالك : كنت بين جارتين لي ، هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة ، فأما إن كان المراد بالحق فيها حق الجار على جاره فلا حجة فيها على إثبات الشفعة ، وأيضا فإنه إنما أثبت له على البائع حق العرض عليه إذا أراد [ ص: 100 ] البيع ، فأين ثبوت حق الانتزاع من المشتري ؟ ولا يلزم من ثبوت هذا الحق ثبوت حق الانتزاع ، فهذا منتهى إقدام الطائفتين في هذه المسألة .

والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه ، وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث ، أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة ، وإن لم يكن بينهما حق مشترك ألبتة - بل كان كل واحد منهم متميزا ملكه وحقوق ملكه - فلا شفعة ، وهذا الذي نص عليه أحمد في رواية أبي طالب ، فإنه سأله عن الشفعة : لمن هي ؟ فقال : إذا كان طريقهما واحدا ، فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وقول القاضيين سوار بن عبيد الله ، وعبيد الله بن الحسن العنبري ، وقال أحمد في رواية ابن مشيش : أهل البصرة يقولون : إذا كان الطريق واحدا كان بينهم الشفعة مثل دارنا هذه ، على معنى حديث جابر الذي يحدثه عبد الملك ، انتهى .

فأهل الكوفة يثبتون شفعة الجوار مع تميز الطرق والحقوق ، وأهل المدينة يسقطونها مع الاشتراك في الطريق والحقوق ، وأهل البصرة يوافقون أهل المدينة إذا صرفت الطرق ولم يكن هناك اشتراك في حق من حقوق الأملاك ، ويوافقون أهل الكوفة إذا اشترك الجاران في حق من حقوق الأملاك كالطريق وغيرها ، وهذا هو الصواب ، وهو أعدل الأقوال ، وهو اختيار شيخ الإسلام بن تيمية .

وحديث جابر الذي أنكره من أنكره على عبد الملك صريح فيه ، فإنه قال : { الجار أحق بسقبه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا } فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ، ونفاها به مع اختلاف الطريق بقوله : { فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } فمفهوم حديث عبد الملك هو بعينه منطوق حديث أبي سلمة ، فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه ، لا يعارضه ويناقضه ، وجابر روى اللفظين ; فالذي دل عليه حديث أبي سلمة عنه من إسقاط الشفعة عند تصريف الطرق وتمييز الحدود هو بعينه الذي دل عليه حديث عبد الملك عن عطاء عنه بمفهومه ، والذي دل عليه حديث عبد الملك بمنطوقه هو الذي دلت عليه سائر أحاديث جابر بمفهومها ، فتوافقت السنن بحمد الله وائتلفت ، وزال عنها ما يظن بها من التعارض ، وحديث أبي رافع الذي رواه البخاري يدل على مثل ما دل عليه حديث عبد الملك ; فإنه دل على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق ، فإن البيتين كانا في نفس دار سعد والطريق واحد بلا ريب . [ ص: 101 ] والقياس الصحيح يقتضي هذا القول ; فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك ، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه ، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري ; فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه ; فهذا المذهب أوسط المذاهب ، وأجمعها للأدلة ، وأقربها إلى العدل ، وعليه يحمل الاختلاف عن عمر رضي الله عنه ; فحيث قال : لا شفعة ففيما إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق ، وحيث أثبتها ففيما إذا لم تصرف الطرق ، فإنه قد روي عنه هذا وهذا ، وكذلك ما روي عن علي كرم الله وجهه ، فإنه قال : " إذا حدث الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " ومن تأمل أحاديث شفعة الجوار رآها صريحة في ذلك ، وتبين له بطلان حملها على الشريك وعلى حق الجوار غير الشفعة ، وبالله التوفيق .

فإن قيل : بقي عليكم أن في حديث جابر وأبي هريرة : { فإذا وقعت الحدود فلا شفعة } فأسقط الشفعة بمجرد وقوع الحدود ، وعند أرباب هذا القول إذا حصل الاشتراك في الطريق فالشفعة ثابتة ، وإن وقعت الحدود ، وهذا خلاف الحديث .

فالجواب من وجهين :

أحدهما أن من الرواة من اختصر أحد اللفظين ، ومنهم من جود الحديث فذكرهما ، ولا يكون إسقاط من أسقط أحد اللفظين مبطلا لحكم اللفظ الآخر .

الثاني - أن تصريف الطرق داخل في وقوع الحدود ; فإن الطريق إذا كانت مشتركة لم تكن الحدود كلها واقعة ، بل بعضها حاصل ، وبعضها منتف ; فوقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية