الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
21015 9173 - (21525) - (5\174 - 175) عن عبد الله بن صامت، قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، أنا وأخي أنيس وأمنا، [ ص: 454 ] فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مال وذي هيئة، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك، خلفك إليهم أنيس، فجاء خالنا فنثا عليه ما قيل له، فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لنا فيما بعد. قال: فقربنا صرمتنا، فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا ثوبه وجعل يبكي، قال: فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، قال: فنافر أنيس رجلا عن صرمتنا، وعن مثلها، فأتيا الكاهن، فخير أنيسا، فأتانا بصرمتنا، ومثلها. وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين. قال: فقلت: لمن؟ قال: لله. قال: قلت: فأين توجه؟ قال: حيث وجهني الله، قال: وأصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء، قال أبو النضر : قال سليمان: كأني خفاء، قال: يعني خباء تعلوني الشمس. قال: فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة، فاكفني حتى آتيك. قال: فانطلق فراث علي، ثم أتاني، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلا يزعم أن الله أرسله على دينك. قال: فقلت: ما يقول الناس له؟ قال: يقولون: إنه شاعر وساحر وكاهن، وكان أنيس شاعرا، قال: فقال: قد سمعت قول الكهان، فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فوالله ما يلتام لسان أحد أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون. قال: فقلت له: هل أنت كافي حتى أنطلق فأنظر؟ قال: نعم، فكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنفوا له، وتجهموا له، وقال عفان: شئفوا له، وقال بهز: سبقوا له، وقال أبو النضر: شفوا له، قال: فانطلقت حتى قدمت مكة، فتضعفت رجلا منهم، فقلت: أين هذا الرجل الذي تدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلي، قال: الصابئ، قال: فمال أهل الوادي علي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي، فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، فدخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به ابن أخي ثلاثين، من بين يوم وليلة، وما لي طعام إلا [ ص: 455 ] ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان، وقال عفان: إصحيان، وقال بهز: إضحيان، وكذلك قال أبو النضر، فضرب الله على أصمخة أهل مكة فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتتا علي وهما تدعوان إساف ونائل، قال: فقلت: أنكحوا أحدهما الآخر. فما ثناهما ذلك، قال: فأتتا علي، فقلت: وهن مثل الخشبة. غير أني لم أكن، قال: فانطلقتا تولولان، وتقولان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا قال: فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل، فقال: "ما لكما " فقالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قالا: "ما قال لكما؟ " قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم. قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه حتى استلم الحجر، فطاف بالبيت، ثم صلى، قال: فأتيته، فكنت أول من حياه بتحية أهل الإسلام، فقال: "عليك ورحمة الله، ممن أنت؟ " قال: قلت: من غفار. قال: فأهوى بيده، فوضعها على جبهته، قال: فقلت في نفسي: كره أني انتهيت إلى غفار. قال: فأردت أن آخذ بيده، فقذفني صاحبه، وكان أعلم به مني قال: "متى كنت هاهنا "

قال: كنت هاهنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم. قال: "فمن كان يطعمك؟ " قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم. قال: فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها مباركة، وإنها طعام طعم ". قال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة. قال: ففعل، قال: فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم، وانطلق أبو بكر، وانطلقت معهما، حتى فتح أبو بكر بابا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها، فلبثت ما لبثت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد وجهت إلي أرض ذات نخل، ولا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك لعل الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟ " .

[ ص: 456 ]

قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا، قال: فقال لي: ما صنعت؟ قال: قلت: إني صنعت أني أسلمت وصدقت. قال: قال: فما بي رغبة عن دينك، فإني قد أسلمت وصدقت. ثم أتينا أمنا، فقالت: فما بي رغبة عن دينكما، فإني قد أسلمت وصدقت فتحملنا حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقال، يعني يزيد ببغداد: وقال بعضهم: إذا قدم، وقال بهز: إخواننا، نسلم، وكذا قال أبو النضر، وكان يؤمهم خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري، وكان سيدهم يومئذ، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأسلم بقيتهم، قال: وجاءت أسلم، فقالوا: يا رسول الله، إخواننا، نسلم على الذي أسلموا عليه. فأسلموا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله " وقال بهز: وكان يؤمهم إيماء بن رحضة، وقال أبو النضر: إيماء.


التالي السابق


* قوله : "أنا وأخي أنيسا وأمنا": بيان لفاعل "خرجنا".

* "ذو مال": أي: هو ذو مال، فهو بتقدير المبتدأ، وإلا فالظاهر: ذي مال.

* "وذو هيئة": أي: ذو وجاهة بين الناس.

* "خلفك": - بالتخفيف - أي: نابك، أو جاء عقبك.

* "فنثى": - بنون ثم ثاء مثلثة - أي: أظهره.

* "صرمتنا": - بكسر صاد مهملة - : القطيعة من الإبل، وتطلق على القطيعة من الغنم أيضا .

* "فنافر": من المنافرة، وهي المفاخرة، وكانت مفاخرتهما في الشعر أيهما أشعر؟ ومن كان أشعر فله صرمة الرجلين، وهذا معنى "عن صرمتنا وعن مثلها"؛ أي: راهن كل منهما صرمته، وقال: من كان أشعر، فله الصرمتان.

* "فخير": أي: حكم بأن أنيسا أشعر وأفضل.

[ ص: 457 ]

* "خفاء": بكسر خاء معجمة وتخفيف فاء ومد - وهو ككساء لفظا ومعنى.

* "فراث": أي: أبطأ.

* "على دينك": أي: رجلا كائنا على دينك، أو هو على دينك في ترك الأصنام والتوجه إلى عبادة الرحمن تعالى.

* "أقراء الشعر": - بالقاف والراء والمد - أي: طرقه وأنواعه.

* "شنفوا": - بشين معجمة مفتوحة ثم نون مكسورة ثم فاء - أي: أبغضوه.

* "وتجهموا له": أي: قابلوه بوجوه كريهة.

* "فتضعفت": أي: رأيته ضعيفا ، فرجوت أنه لا يصيبني بمكروه.

* "الصابئ": أي: هذا الصابئ.

* "نصب": - بضمتين، أو سكون الثاني - وهو صنم أو حجر كانوا يذبحون عليه؛ أي: صرت من كثرة الدماء التي سالت مني كأني نصب.

* "فسمنت": من سمن؛ كعلم، وجاء فيه لغة ككرم.

* "تكسرت": أي: انثنت من كثرة السمن.

* "عكن": جمع عكنة؛ كغرف جمع غرفة، وهي الطي في البطن من السمن.

* "سخفة جوع": - بفتح أو ضم فسكون - : رقة الجوع وضعفه.

* "قمراء": أي: طالع قمرها.

* "إضحيان": - بكسر الهمزة والحاء وسكون ضاد معجمة بينهما - أي: مضيئة.

[ ص: 458 ]

* "أصمخة أهل مكة": جمع صماخ؛ مثل: سلاح وأسلحة، وهو الخرق الذي في الأذن، والمراد هاهنا: الآذان، وهذا كناية عن النوم.

* "إساف": اسم صنم، وكذا "نائلة" وهو المشهور، وفي نسخ "المسند": "نائل".

* "فما ثناهما": - بالثاء المثلثة - أي: فما صرفهما.

* "فقلت: وهن": الهن - بفتح الهاء وتخفيف النون - يكون كناية عن كل شيء، وهو هاهنا كناية عن الذكر، قال النووي: أراد بذلك إسافا ونائلة، وغيظ الكفار بذلك.

* "لم أكن": من الكناية، أو التكنية؛ أي: صرحت بذلك.

* "تولولان": من الولولة، وهي الدعاء بالويل.

* "من أنفارنا": جمع نفر، أو نفير، وهو الذي ينفر عند الاستغاثة به، وروي: "أنصارنا" وهو بمعناه، قيل: تقديره: لو: كان أحد من أنصارنا، لانتصرنا.

قلت: أو كلمة "أو" للتمني، فلا تحتاج إلى تقدير جواب.

* "تملأ الفم": أي: عظيمة في القبح، كأنها من عظمتها لا يسع الفم غيرها، وقيل: المعنى: لا يمكن ذكرها وحكايتها، كأنها تشد فم حاكيها وتملؤه؛ لاستعظامها.

* "عليك ورحمة": أي: عليك السلام، حذف لظهور القرينة.

* "فقدعني": - بقاف ودال مهملة مخففة - أي: كفني.

* "طعام طعم": هو - بضم الطاء وإسكان العين - بمعنى: الطعام، والمراد [ ص: 459 ] هاهنا: مريد الطعام، ولذلك أضيف إليه الطعام؛ أي: تشبع شاربها كما يشبعه الطعام.

* "وجهت": - على بناء المفعول؛ من التوجيه - .

* "إلا يثرب": هذا كان قبل تسمية المدينة طابة وطيبة، وقد جاء النهي بعد ذلك عن تسميتها بيثرب، أو أنه سماها باسمها المعروف عند الناس حينئذ.

* "فما بي رغبة عن دينك": أي: لا أكرهه، بل أدخل فيه.

* "فتحملنا": أي: حملنا أنفسنا ومتاعنا على إبلنا وسرنا.

* "خفاف": بضم خاء معجمة وفاء - .

* "إيماء": - بكسر أوله، وجوز فتحه، ومد - .

* "رحضة": بفتحتين - .

* * *




الخدمات العلمية