الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 311 ] الحديث السابع والثلاثون . عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال : إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك ، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة . رواه البخاري ومسلم .

التالي السابق


هذا الحديث خرجاه من رواية الجعد أبي عثمان ، حدثنا أبو رجاء العطاردي ، عن ابن عباس وفي رواية لمسلم زيادة في آخر الحديث ، وهي : أو محاها الله ، ولا يهلك على الله إلا هالك . وفي هذا المعنى أحاديث متعددة ، فخرجا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقول الله : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة ، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها ، فإن عملها ، فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها من أجلي ، فاكتبوها له حسنة ، وإن أراد أن يعمل حسنة ، فلم يعملها ، فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وهذا لفظ البخاري ، وفي رواية لمسلم : قال الله عز وجل : إذا تحدث عبدي بأن [ ص: 312 ] يعمل حسنة ، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل ، فإذا عملها ، فأنا أكتبها بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة ، فأنا أغفرها له ما لم يعملها ، فإذا عملها ، فأنا أكتبها له بمثلها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قالت الملائكة : رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة - وهو أبصر به - قال : ارقبوه ، فإن عملها ، فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها ، فاكتبوها له حسنة ، إنما تركها من جراي . قال رسول الله صلى عليه وسلم : إذا أحسن أحدكم إسلامه ، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله . وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل عمل ابن آدم يضاعف : الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله عز وجل : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ، وفي رواية بعد قوله : إلى سبعمائة ضعف : إلى ما يشاء الله . وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله : من عمل حسنة ، فله عشر أمثالها أو أزيد ، ومن عمل سيئة ، فجزاؤها مثلها أو أغفر . وفيه أيضا عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من هم بحسنة ، فلم يعملها ، كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة ، فلم يعملها لم يكتب عليه شيء ، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة . وفي " المسند " عن خريم بن فاتك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من هم بحسنة ، [ ص: 313 ] فلم يعملها ، فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه ، وحرص عليها ، كتبت له حسنة ، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ، ومن عملها كتبت له واحدة ، ولم تضاعف عليه ، ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها ، ومن أنفق نفقة في سبيل الله ، كانت له بسبعمائة ضعف . وفي المعنى أحاديث أخر متعددة . فتضمنت هذه النصوص كتابة الحسنات ، والسيئات ، والهم بالحسنة والسيئة ، فهذه أربعة أنواع : النوع الأول : عمل الحسنات ، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات ، وقد دل عليه قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ الأنعام : 160 ] . وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له ، فدل عليه قوله تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [ البقرة : 261 ] ، فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف . وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود ، قال : جاء رجل بناقة مخطومة ، فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله ، فقال : لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة . وفي " المسند " بإسناد فيه نظر عن أبي عبيدة بن الجراح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله ، وعياله ، أو عاد مريضا ، أو ماز أذى ، فالحسنة بعشر أمثالها . [ ص: 314 ] وخرج أبو داود من حديث سهل بن معاذ عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف . وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من أرسل نفقة في سبيل الله ، وأقام في بيته ، فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله ، فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية : والله يضاعف لمن يشاء [ البقرة : 261 ] . وخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لما نزلت هذه الآية : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل [ البقرة : 261 ] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رب زد أمتي ، فأنزل الله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [ البقرة : 245 ] ، فقال : رب زد أمتي فأنزل الله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ الزمر : 10 ] . [ ص: 315 ] وخرج الإمام أحمد من حديث علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة ثم تلا أبو هريرة : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ النساء : 40 ] . وقال : " إذا قال الله أجرا عظيما ، فمن يقدر قدره ؟ " وروي عن أبي هريرة موقوفا . وخرج الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا : من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة . ومن حديث تميم الداري مرفوعا : من قال : أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، إلها واحدا أحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له كفوا أحد عشر مرات ، كتب الله له أربعين ألف ألف حسنة ، وفي كلا الإسنادين ضعف . [ ص: 316 ] وخرج الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعا : من قال : سبحان الله ، كتب الله له مائة ألف حسنة ، وأربعة وعشرين ألف حسنة .


وقوله في حديث أبي هريرة : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدل على أن الصيام لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله عز وجل لأنه أفضل أنواع الصبر ، و إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ الزمر : 10 ] ، وقد روي هذا المعنى عن طائفة من السلف ، منهم كعب وغيره . وقد ذكرنا فيما سبق في شرح حديث : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه أن مضاعفة الحسنات زيادة على العشر تكون بحسب حسن الإسلام ، كما جاء ذلك مصرحا به في حديث أبي هريرة وغيره ، وتكون بحسب كمال الإخلاص ، وبحسب فضل ذلك العمل في نفسه ، وبحسب الحاجة إليه . وذكرنا من حديث ابن عمر أن قوله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ الأنعام : 160 ] نزلت في الأعراب ، وأن قوله : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ النساء : 40 ] نزلت في المهاجرين . النوع الثاني : عمل السيئات ، فتكتب السيئة بمثلها ، من غير مضاعفة ، كما قال تعالى : ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون [ الأنعام : 160 ] . وقوله : كتبت له سيئة واحدة إشارة إلى أنها غير مضاعفة ، ما صرح به في [ ص: 317 ] حديث آخر ، لكن السيئة تعظم أحيانا بشرف الزمان أو المكان ، كما قال تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم [ التوبة : 36 ] 0 قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية : فلا تظلموا فيهن أنفسكم : في كلهن ، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر ، فجعلهن حرما ، وعظم حرماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم . وقال قتادة في هذه الآية : اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا فيما سوى ذلك ، وإن كان الظلم في كل حال غير طائل ، ولكن الله تعالى يعظم من أمره ما يشاء تعالى ربنا . وقد روي في حديثين مرفوعين أن السيئات تضاعف في رمضان ، ولكن إسنادهما لا يصح . وقال الله تعالى : الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ البقرة : 197 ] . قال ابن عمر : الفسوق : ما أصيب من معاصي الله صيدا كان أو غيره ، وعنه قال : الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم . وقال تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ الحج : 25 ] . [ ص: 318 ] وكان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم ، خشية ارتكاب الذنوب فيه : منهم ابن عباس ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وكذلك كان عمر بن عبد العزيز يفعل ، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : الخطيئة فيه أعظم . وروي عن عمر بن الخطاب ، قال : لأن أخطئ سبعين خطيئة - يعني بغير مكة - أحب إلي من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة . وعن مجاهد قال : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات . وقال ابن جريج : بلغني أن الخطيئة بمكة بمائة خطيئة ، والحسنة على نحو ذلك . وقال إسحاق بن منصور : قلت لأحمد : في شيء من الحديث أن السيئة تكتب بأكثر من واحدة ؟ قال : لا ، ما سمعنا إلا بمكة لتعظيم البلد " ولو أن رجلا بعدن أبين هم " . وقال إسحاق بن راهويه كما قال أحمد ، وقوله : " ولو أن رجلا بعدن أبين هم " من قول ابن مسعود ، وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى .


وقد تضاعف السيئات بشرف فاعلها ، وقوة معرفته بالله ، وقربه منه ، فإن من عصى السلطان على بساطه أعظم جرما ممن عصاه على بعد ، ولهذا توعد الله خاصة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء ، وإن كان قد عصمهم منها ، ليبين لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك ، كما قال تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات [ الإسراء : 74 - 75 ] . وقال تعالى : يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين [ ص: 319 ] [ الأحزاب : 30 - 35 ] . وكان علي بن الحسين يتأول في آل النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم مثل ذلك لقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم . النوع الثالث : الهم بالحسنات ، فتكتب حسنة كاملة ، وإن لم يعملها ، كما في حديث ابن عباس وغيره ، وفي حديث أبي هريرة الذي خرجه مسلم كما تقدم : إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة ، فأنا أكتبها له حسنة والظاهر أن المراد بالتحدث حديث النفس ، وهو الهم ، وفي حديث خريم بن فاتك : من هم بحسنة فلم يعملها ، فعلم الله منه أنه قد أشعر قلبه ، وحرص عليها ، كتبت له حسنة وهذا يدل على أن المراد بالهم هنا هو العزم المصمم الذي يوجد معه الحرص على العمل ، لا مجرد الخطرة التي تخطر ، ثم تنفسخ من غير عزم ولا تصميم . قال أبو الدرداء : من أتى فراشه وهو ينوي أن يصلي من الليل ، فغلبته عيناه حتى يصبح ، كتب له ما نوى . وروي عنه مرفوعا ، وخرجه ابن ماجه مرفوعا . قال الدارقطني : المحفوظ الموقوف ، وروي معناه من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 320 ] وروي عن سعيد بن المسيب ، قال : من هم بصلاة ، أو صيام ، أو حج ، أو عمرة ، أو غزوة ، فحيل بينه وبين ذلك ، بلغه الله تعالى ما نوى . وقال أبو عمران الجوني : ينادى الملك : اكتب لفلان كذا وكذا ، فيقول : يا رب ، إنه لم يعمله ، فيقول : إنه نواه . قال زيد بن أسلم : كان رجل يطوف على العلماء ، يقول : من يدلني على عمل لا أزال منه لله عاملا ، فإني لا أحب أن تأتي علي ساعة من الليل والنهار إلا وأنا عامل لله تعالى ، فقيل له : قد وجدت حاجتك ، فاعمل الخير ما استطعت ، فإذا فترت أو تركته فهم بعمله ، فإن الهام بعمل الخير كفاعله . ومتى اقترن بالنية قول أو سعي ، تأكد الجزاء ، والتحق صاحبه بالعامل ، كما روى أبو كبشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إنما الدنيا أربعة نفر : عبد رزقه الله مالا وعلما ، فهو يتقي فيه ربه ، ويصل فيه رحمه ، ويعلم لله فيه حقا ، فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه الله علما ، ولم يرزقه مالا ، فهو صادق النية ، يقول : لو أن لي مالا ، لعملت بعمل فلان ، فهو بنيته ، فأجرهما سواء ، وعبد رزقه الله مالا ، ولم يرزقه علما يخبط في ماله بغير علم ، لا يتقي فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم فيه لله حقا ، فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما ، [ ص: 321 ] فهو يقول : لو أن لي مالا ، لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء . خرجه الإمام أحمد والترمذي وهذا لفظه وابن ماجه . وقد حمل قوله : فهما في الأجر سواء على استوائهما في أصل أجر العمل ، دون مضاعفته ، فالمضاعفة يختص بها من عمل العمل دون من نواه ، فلم يعمله ، فإنهما لو استويا من كل وجه ، لكتب لمن هم بحسنة ولم يعملها عشر حسنات ، وهو خلاف النصوص كلها ، ويدل على ذلك قوله تعالى : فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه [ النساء : 95 - 96 ] . قال ابن عباس وغيره : القاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجة القاعدون من أهل الأعذار ، والقاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجات هم القاعدون من غير أهل الأعذار .


النوع الرابع : الهم بالسيئات من غير عمل لها ، ففي حديث ابن عباس : أنها تكتب حسنة كاملة ، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما : أنها تكتب حسنة ، وفي حديث أبي هريرة قال : إنما تركها من جراي يعني : من أجلي . وهذا يدل على أن المراد من قدر على ما هم به من المعصية ، فتركه لله تعالى ، وهذا لا ريب في أنه يكتب له بذلك حسنة ؛ لأن تركه المعصية بهذا القصد عمل صالح . فأما إن هم بمعصية ، ثم ترك عملها خوفا من المخلوقين ، أو مراءاة لهم ، فقد قيل : إنه يعاقب على تركها بهذه النية ، لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرم . وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم ، فإذا اقترن به ترك [ ص: 322 ] المعصية لأجله ، عوقب على هذا الترك . وقد خرج أبو نعيم بسند ضعيف عن ابن عباس ، قال : يا صاحب الذنب ، لا تأمنن سوء عاقبته ، ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته ، وذكر كلاما ، وقال : وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عملته . وقال الفضيل بن عياض : كانوا يقولون : ترك العمل للناس رياء ، والعمل لهم شرك . وأما إن سعى في حصولها بما أمكنه ، ثم حال بينه وبينها القدر ، فقد ذكر جماعة أنه يعاقب عليها حينئذ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : : إن الله يتجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تكلم به أو تعمل ومن سعى في حصول المعصية جهده ، ثم عجز عنها ، فقد عمل ، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار ، قالوا : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ ! قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه .


وقوله : ما لم تكلم به أو تعمل يدل على أن الهام بالمعصية إذا تكلم بما هم به بلسانه فإنه يعاقب على الهم حينئذ ، لأنه قد عمل بجوارحه معصية ، وهو التكلم باللسان ويدل على ذلك حديث الذي قال : لو أن لي مالا [ ص: 323 ] لعملت فيه ما عمل فلان يعني : الذي يعصي الله في ماله ، قال : فهما في الوزر سواء . ومن المتأخرين من قال : يعاقب على التكلم بما هم به ما لم تكن المعصية التي هم بها قولا محرما ، كالقذف والغيبة والكذب ؛ فأما ما كان متعلقها العمل بالجوارح ، فلا يأثم بمجرد تكلم ما هم به ، وهذا قد يستدل به على حديث أبي هريرة المتقدم : وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة ، فأنا أغفرها له ما لم يعملها . ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس ، جمعا بينه وبين قوله : ما لم تكلم به أو تعمل ، وحديث أبي كبشة يدل على ذلك صريحا ، فإن قول القائل بلسانه : لو أن لي مالا ، لعملت فيه بالمعاصي ، كما عمل فلان ، ليس هو العمل بالمعصية التي هم بها ، وإنما أخبر عما هم به فقط مما متعلقه إنفاق المال في المعاصي ، وليس له مال بالكلية ، وأيضا فالكلام بذلك محرم ، فكيف يكون معفوا عنه ، غير معاقب عليه ؟ وأما إن انفسخت نيته ، وفترت عزيمته من غير سبب منه ، فهل يعاقب على ما هم به من المعصية ، أم لا ؟ هذا على قسمين : أحدهما : أن يكون الهم بالمعصية خاطرا خطر ، ولم يساكنه صاحبه ، ولم يعقد قلبه عليه ، بل كرهه ، ونفر منه ، فهو معفو عنه ، وهو كالوساوس الرديئة التي سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها ، فقال : ذاك صريح الإيمان . ولما نزل قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء [ ص: 324 ] [ البقرة : 284 ] ، شق ذلك على المسلمين ، وظنوا دخول هذه الخواطر فيه ، فنزلت الآية التي بعدها ، وفيها قوله : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به [ البقرة : 286 ] فبينت أن ما لا طاقة لهم به ، فهو غير مؤاخذ به ، ولا مكلف به ، وقد سمى ابن عباس وغيره ذلك نسخا ، ومرادهم أن هذه الآية أزالت الإبهام الواقع في النفوس من الآية الأولى ، وبينت أن المراد بالآية الأولى العزائم المصمم عليها ، ومثل هذا كان السلف يسمونه نسخا .


القسم الثاني : العزائم المصممة التي تقع في النفوس وتدوم ، ويساكنها صاحبها ، فهذا أيضا نوعان : أحدهما : ما كان عملا مستقلا بنفسه من أعمال القلوب ، كالشك في الوحدانية ، أو النبوة ، أو البعث ، أو غير ذلك من الكفر والنفاق ، أو اعتقاد تكذيب ذلك ، فهذا كله يعاقب عليه العبد ، ويصير بذلك كافرا ومنافقا . وقد روي عن ابن عباس أنه حمل قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [ البقرة : 284 ] ، على مثل هذا . وروي عنه حملها على كتمان الشهادة لقوله تعالى : ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ البقرة : 283 ] . ويلحق بهذا القسم سائر المعاصي المتعلقة بالقلوب ، كمحبة ما يبغضه الله ، وبغض ما يحبه الله ، والكبر ، والعجب ، والحسد ، وسوء الظن بالمسلم من غير موجب ، مع أنه قد روي عن سفيان أنه قال في سوء الظن إذا لم يترتب عليه قول أو فعل ، فهو معفو عنه . وكذلك روي عن الحسن أنه قال في الحسد ، ولعل هذا محمول من قولهما على ما يجده الإنسان ، ولا يمكنه دفعه ، فهو يكرهه ويدفعه عن نفسه ، فلا يندفع إلا على ما يساكنه ، ويستروح إليه ، ويعيد حديث [ ص: 325 ] نفسه به ويبديه . والنوع الثاني : ما لم يكن من أعمال القلوب ، بل كان من أعمال الجوارح ، كالزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، والقتل ، والقذف ، ونحو ذلك ، إذا أصر العبد على إرادة ذلك ، والعزم عليه ، ولم يظهر له أثر في الخارج أصلا . فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء : أحدهما : يؤاخذ به ، قال ابن المبارك : سألت سفيان الثوري : أيؤاخذ العبد بالهمة ؟ فقال : إذا كانت عزما أوخذ . ورجح هذا القول كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم ، واستدلوا له بنحو قوله عز وجل واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه [ البقرة : 235 ] ، وقوله : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم [ البقرة : 225 ] ، وبنحو قول النبي صلى الله عليه وسلم : الإثم ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس ، وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تكلم به ، أو تعمل على الخطرات ، وقالوا : ما ساكنه العبد ، وعقد عليه قلبه ، فهو من كسبه وعمله ، فلا يكون معفوا عنه ، ومن هؤلاء من قال : إنه يعاقب عليه في الدنيا بالهموم والغموم ، روي ذلك عن عائشة مرفوعا وموقوفا ، وفي صحته نظر . وقيل : بل يحاسب العبد به يوم القيامة ، فيقفه الله عليه ، ثم يعفو عنه ، ولا يعاقبه به ، فتكون عقوبته المحاسبة ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والربيع بن أنس ، وهو اختيار ابن جرير ، واحتج له بحديث ابن عمر في النجوى ، [ ص: 326 ] وذاك ليس فيه عموم ، وأيضا ، فإنه وارد في الذنوب المستورة في الدنيا ، لا في وساوس الصدور . والقول الثاني : يؤاخذ بمجرد النية مطلقا ، ونسب ذلك إلى نص الشافعي ، وهو قول ابن حامد من أصحابنا عملا بالعمومات . وروى العوفي عن ابن عباس ما يدل على مثل هذا القول . وفيه قول ثالث : أنه لا يؤاخذ بالهم بالمعصية إلا بأن يهم بارتكابها في الحرم ، كما روى السدي ، عن مرة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : ما من عبد يهم بخطيئة ، فلم يعملها ، فتكتب عليه ، ولو هم بقتل إنسان عند البيت ، وهو بعدن أبين ، أذاقه الله من عذاب أليم ، وقرأ عبد الله : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ الحج : 25 ] . خرجه الإمام أحمد وغيره . وقد رواه عن السدي شعبة وسفيان ، فرفعه شعبة ووقفه سفيان ، والقول قول سفيان في وقفه . وقال الضحاك : إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة ، وهو بأرض أخرى ، ولم يعملها فتكتب [ ص: 327 ] عليه ولم يعملها ، وقد تقدم عن أحمد وإسحاق ما يدل على مثل هذا القول ، وكذا حكاه القاضي أبو يعلى عن أحمد . وروى أحمد في رواية المروزي حديث ابن مسعود هذا ، ثم قال أحمد يقول : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ، قال أحمد : لو أن رجلا بعدن أبين هم بقتل رجل في الحرم ، هذا قول الله سبحانه : نذقه من عذاب أليم ، هكذا قال ابن مسعود رحمه الله . وقد رد بعضهم هذا إلى ما تقدم من المعاصي التي متعلقها القلب ، وقال : الحرم يجب احترامه وتعظيمه بالقلوب ، فالعقوبة على ترك هذا الواجب ، وهذا لا يصح ، فإن حرمة الحرم ليست بأعظم من حرمة محرمه سبحانه ، والعزم على معصية الله عزم على انتهاك محارمه ، ولكن لو عزم على ذلك قصدا ، لانتهاك حرمة الحرم واستخفافا بحرمته ، فهذا كما لو عزم على فعل معصية لقصد الاستخفاف بحرمة الخالق عز وجل ، فيكفر بذلك ، وإنما ينتفي الكفر عنه إذ كان همه بالمعصية لمجرد نيل شهوته ، وغرض نفسه ، مع ذهوله عن قصد مخالفة الله ، والاستخفاف بهيبته وبنظره ، ومتى اقترن العمل بالهم ، فإنه يعاقب عليه ، سواء كان الفعل متأخرا أو متقدما ، فمن فعل محرما مرة ، ثم عزم على فعله متى قدر عليه ، فهو مصر على المعصية ، ومعاقب على هذه النية ، وإن لم يعد إلى عمله إلا بعد سنين عديدة . وبذلك فسر ابن المبارك وغيره الإصرار على المعصية . وبكل حال فالمعصية إنما تكتب بمثلها من غير مضاعفة ، فتكون العقوبة على المعصية ، ولا ينضم إليها الهم بها ، إذا لو ضم إلى المعصية الهم بها ، لعوقب على عمل المعصية عقوبتين ، ولا يقال : فهذا يلزم مثله في عمل الحسنة ، فإنها إذا عملها بعد الهم بها ، أثيب على الحسنة دون الهم بها ، لأنا [ ص: 328 ] نقول : هذا ممنوع ، فإن من عمل حسنة ، كتبت له عشر أمثالها ، فيجوز أن يكون بعض هذه الأمثال جزاء للهم بالحسنة ، والله أعلم .


وقوله في حديث ابن عباس في رواية مسلم : أو محاها الله يعني أن عمل السيئة إما أن تكتب لعاملها سيئة واحدة ، أو يمحوها الله بما شاء من الأسباب ، كالتوبة والاستغفار وعمل الحسنات . وقد سبق الكلام فيما تمحى به السيئات في شرح حديث أبي ذر : اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها . وقوله بعد ذلك : ولا يهلك على الله إلا هالك : يعني بعد هذا الفضل العظيم من الله ، والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات ، والتجاوز عن السيئات ، يهلك على الله إلا من هلك ، وألقى بيديه إلى التهلكة ، وتجرأ على السيئات ، ورغب عن الحسنات ، وأعرض عنها . ولهذا قال ابن مسعود : ويل لمن غلب وحدانه عشراته . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، مرفوعا : هلك من غلب واحده عشرا . وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة ، وهما يسير ، ومن يعمل بهما قليل : تسبح الله في دبر كل صلاة عشرا ، وتحمده عشرا ، وتكبره عشرا ، قال : فتلك خمسون ومائة باللسان ، وألف [ ص: 329 ] وخمسمائة في الميزان ، وإذا أخذت مضجعك ، تسبحه ، وتكبره ، وتحمده مائة ، فتلك مائة باللسان ، وألف في الميزان ، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة . وفي " المسند " عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يدع أحد منكم أن يعمل لله ألف حسنة حين يصبح يقول : سبحان الله وبحمده مائة مرة ، فإنها ألف حسنة ، فإنه لن يعمل إن شاء الله تعالى مثل ذلك في يومه من الذنوب ، ويكون ما عمل من خير سوى ذلك وافرا .



الخدمات العلمية