الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بسم الله ( فصل : الرواية ) الرواية في اصطلاح العلماء ( إخبار ) يحترز به عن الإنشاء ( عن ) أمر ( عام ) من قول أو فعل ( لا يختص ) واحد منهما ( ب ) شخص ( معين ) من [ ص: 271 ] الأمة ( و ) من صفة هذا الإخبار : أنه ( لا ترافع فيه ممكن عند الحكام ) . ( وعكسه ) أي وعكس هذا المذكور ( الشهادة ) فإنها إخبار بلفظ خاص عن خاص علمه مختص بمعين يمكن الترافع فيه عند الحكام ( ومن شروط راو : عقل ) إجماعا ; إذ لا وازع لغير عاقل يمنعه من الكذب ، ولا عبارة أيضا . كالطفل ( و ) منها ( إسلام ) إجماعا لتهمة عداوة الكافر للرسول صلى الله عليه وسلم ولشرعه ( و ) منها ( بلوغ ) عند الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة ، لاحتمال كذب من لم يبلغ ، كالفاسق بل أولى ; لأنه غير مكلف ، فلا يخاف العقاب . وقال بعض أصحابنا : يتخرج في روايته روايتان . كشهادته . وروي عن الإمام أحمد رضي الله عنه : أن شهادة المميز تقبل . وعنه ابن عشر .

واختلف الصحابة والتابعون في قبول شهادته ( و ) منها ( ضبط ) لئلا يغير اللفظ والمعنى فلا يوثق به . قال الإمام أحمد رضي الله عنه : لا ينبغي لمن لا يعرف الحديث أن يحدث به . والشرط غلبة ضبطه وذكره على سهوه لحصول الظن إذا . ذكره الآمدي وجماعة . قال ابن مفلح : وهو محتمل . وفي الواضح لابن عقيل قول أحمد ، وقيل له : متى تترك حديث الرجل . ؟ قال : إذا غلب عليه الخطأ ، ولأن أئمة الحديث تركوا رواية كثير ممن ضعف ضبطه ممن سمع كثيرا ضابطا . فإن جهل حاله . فذكر الموفق في الروضة وغيره : أنها لا تقبل ; لأنه لا غالب لحال الرواة . قال ابن مفلح : وفيه نظر ، وأنه يحتمل ما قال الآمدي : من أنه يحمل على غالب حال الرواة . فإن جهل حالهم : اعتبر حاله . فإن قيل : ظاهر حال العدل ألا يروي إلا ما يضبطه . وقد أنكر على أبي هريرة الإكثار . وأجيب : بأنه لم ينكر عليه لعدم الضبط ، بل خيف ذلك لإكثاره . فإن قيل : الخبر دليل . والأصل صحته فلا يترك باحتمال ، كاحتمال حدث بعد طهارة . رد إنما هو دليل مع الظن ، ولا ظن مع تساوي المعارض واحتمال الحدث ورد على يقين الطهر ، فلم يؤثر ( و ) منها ( عدالة ) إجماعا لما سبق من الأدلة ( ظاهرا وباطنا ) عند أحمد والشافعي وغيرهما . وذكره الآمدي عن [ ص: 272 ] الأكثر . وعند القاضي وابن البناء ، وغيرهما : تكفي العدالة ظاهرا للمشقة . كما قلنا في الشهادة على رواية عن أحمد . اختارها أبو بكر عبد العزيز . وصاحب روضة الفقه من أصحابنا ( ومن روى ) حال كونه ( بالغا مسلما عدلا وقد تحمل ) حال كونه ( صغيرا ضابطا ، أو ) حال كونه ( كافرا ) ضابطا ( أو ) حال كونه ( فاسقا ) ضابطا ( قبل ) ما رواه ، لاجتماع الشروط فيه حال روايته ( وهي ) أي العدالة في اللغة : التوسط في الأمر من غير زيادة ولا نقصان ، وهي في اصطلاح أهل الشرع ( صفة ) أي كيفية نفسانية ، وتسمى قبل رسوخها حالا ( راسخة في النفس ) أي نفس المتصف بها ( تحمله ) على ملازمة التقوى والمروءة ، وتحمله أيضا على ( ترك الكبائر ) . ( ومنها ) أي من الكبائر : غيبة ونميمة . قال في شرح التحرير : اختلف في الغيبة والنميمة . هل هما من الصغائر أو من الكبائر ؟ والصحيح من المذهب أنهما من الكبائر . وقدمه ابن مفلح في أصوله ، وهو ظاهر ما قدمه في فروعه .

قال القرطبي : لا خلاف أن الغيبة من الكبائر . انتهى . وقيل : إنهما من الصغائر اختاره جماعة ، منهم صاحب الفصول والغنية والمستوعب ( و ) تحمله أيضا على ترك ( الرذائل ) المباحة . كالأكل في السوق ونحو ذلك . فلا يأتي بكبيرة للآية الكريمة في القاذف . وقيس عليه الباقي من الكبائر . ويشترط مع ذلك أن يكون ( بلا بدعة مغلظة ) وسيأتي الكلام عليها ( وتقبل رواية ) من اتصف بذلك ، ولو أنه ( قاذف بلفظ الشهادة ) قال أصحابنا وغيرهم : إن قذف بلفظ الشهادة قبلت روايته ; لأن نقص العدد ليس من جهته . زاد القاضي في العدة : وليس بصريح في القذف . وقد اختلفوا في الحد ، ويسوغ فيه الاجتهاد ، ولا ترد الشهادة بما يسوغ فيه الاجتهاد . وكذا زاد ابن عقيل . قال الشيرازي في اللمع : وأبو بكرة ومن شهد معه تقبل روايتهم ; لأنهم أخرجوا ألفاظهم مخرج الإخبار ، لا مخرج القذف . وجلدهم عمر باجتهاده ( ويحد ) القاذف بلفظ الشهادة مع قبول روايته .

قال في شرح التحرير : واتفق الناس على الرواية عن أبي بكرة . والمذهب عندهم [ ص: 273 ] يحد . وروي عن أحمد والشافعي : أنه لا يحد . قال ابن مفلح : فيتوجه من هذه الرواية بقاء عدالته . وقاله الشافعية ، وهو معنى ما جزم به الآمدي ومن وافقه ، وأنه ليس من الجرح ; لأنه لم يصرح بالقذف . وقال الشيخ تقي الدين : صرح القاضي في قياس الشبه من العدالة بعدالة من أتى بكبيرة أي واحدة لقوله تعالى { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } وروي عن أحمد فيمن أكل الربا : إن أكثر لم يصل خلفه . قال القاضي وابن عقيل : فاعتبر الكثرة . وقال الموفق في المغني : إن أخذ صدقة محرمة وتكرر ذلك منه ، ردت روايته ( والصغائر ) وهي كل قول أو فعل محرم لا حد فيه في الدنيا ولا وعيد في الآخرة ( وهن ) مع كثرة صورهن ( سواء حكما ) أي في الحكم . قال في التحرير : ولم يفرق أصحابنا وغيرهم في الصغائر ، بل أطلقوا . فظاهره أنه لا فرق ( إن لم تتكرر تكررا يخل بالثقة بصدقه ) أي صدق الراوي ( لم تقدح ) في صحة روايته ( لتكفيرها ) أي تكفير الصغائر ( باجتناب الكبائر ومصائب الدنيا ) على الأصح في كون الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر ، وهو مذهب الجمهور . وقال الأستاذ والقاضي أبو بكر بن الباقلاني وابن فورك والقشيري والسبكي . وحكي عن الأشعرية : إن جميع الذنوب كبائر . قال القرافي : كأنهم كرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة إجلالا له ، مع موافقتهم في الجرح أنه ليس بمطلق المعصية ، بل منه ما يقدح ، ومنه ما لا يقدح . وإنما الخلاف في التسمية . انتهى . استدل الجمهور بقوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } - الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم ، في تكفير الصلوات الخمس والجمعة ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر ; إذ لو كان الكل كبائر لم يبق بعد ذلك ما يكفر بما ذكر . وفي الحديث { الكبائر سبع } وفي رواية { تسع - وعدها } فلو كانت الذنوب كلها كبائر لما ساغ ذلك . وما أحسن ما قال الكوراني في شرح جمع الجوامع : إن أرادوا إسقاط العدالة فقد خالفوا الإجماع . وإن أرادوا قبح المعصية نظرا إلى كبريائه تعالى ، وأن مخالفته لا تعد أمرا صغيرا . فنعم القول . انتهى .

وعلى الأصح في كون [ ص: 274 ] الصغائر سواء حكما . وقال الآمدي ، ومن وافقه : إن مثل سرقة لقمة والتطفيف بحبة ، واشتراط أخذ الأجرة على إسماع الحديث يعتبر تركه كالكبائر . وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه في اشتراط أخذ الأجرة : لا يكتب عنه الحديث ولا كرامة . وقاله إسحاق بن راهويه وأبو حاتم . قال ابن مفلح : ويعتبر ترك ما فيه دناءة وترك مروءة كأكله في السوق بين الناس الكثير . ومد رجليه وكشف رأسه بينهم والبول في الشوارع واللعب بالحمام وصحبة الأراذل والإفراط في المزح ، لحديث أبي مسعود البدري { إذا لم تستح فاصنع ما شئت } رواه البخاري ، يعني : إذا صنع ما شاء فلا يوثق به . انتهى .

وعلى الأصح في كون الصغائر إن لم تتكرر منه تكررا يخل الثقة بصدق الراوي لم يقدح في روايته . قال ابن قاضي الجبل في أصوله : حد الإصرار المانع في الصغائر : أن تتكرر منه تكررا يخل الثقة بصدقه . انتهى .

وقيل : يقدح تكرارها في الجملة . وقيل : ثلاثا . قاله ابن حمدان في المقنع وآداب المفتي . وقال في الترغيب وغيره : تقدح كثرة الصغائر وإدمان واحدة . وقال الموفق في المقنع : لا يدمن على صغيرة ، وهو مراد الأول . وعليه أكثر الأصحاب فالإدمان هنا كما قال ابن قاضي الجبل في أصوله كما تقدم . وعلى الأصح في كون الصغائر تكفر باجتناب الكبائر وبمصائب الدنيا لظاهر قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } ولما دلت عليه السنة من تكفير الصغائر بمصائب الدنيا . واختار ذلك الشيخ تقي الدين في الرد على الرافضي .

وحكاه عن الجمهور ( ويرد كاذب ولو تدين ) أي تحرز عن الكذب ( في الحديث ) عند أكثر العلماء ، منهم الإمامان مالك وأحمد وغيرهما ; لأنه لا يؤمن عليه أن يكذب فيه . وعنه ولو بكذبة واحدة . واختاره ابن عقيل في الواضح وغيره .

واحتج الإمام أحمد رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم { رد شهادة رجل في كذبة } وإسناده جيد ، لكنه مرسل . رواه إبراهيم الحربي والخلال وجعله في التمهيد إن صح للزجر . وفيه وعيد في منامه صلى الله عليه وسلم في الصحيح . وفي الصحيحين : [ ص: 275 ] الزجر عن شهادة الزور ، وأنها من الكبائر . وذكر في الفصول في الشهادة : أن بعضهم اختار هذه الرواية . وقاس عليها بقية الصغائر . والصحيح من المذهب : أن الكذبة الواحدة لا تقدح للمشقة وعدم دليله . وذكر ابن عقيل في الشهادة من الفصول : أنه ظاهر مذهب أحمد . وعليه جمهور أصحابه . وقياس بقية الصغائر عليها بعيد ، لأن الكذب معصية فيما تحصل به الشهادة ، وهو الخبر العام . انتهى ( وتقدح كذبة ) واحدة ( فيه ) أي في الحديث ( ولو تاب ) منها . نص على ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه . وقال : لا تقبل توبته مطلقا . وقاله القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا وغيرهم ، قال : لأنه زنديق . فتخرج توبته على توبته وفارق الشهادة ; لأنه قد يكذب فيها لرشوة إلى أرباب الدنيا . وقال ابن عقيل : هذا فرق بعيد ; لأن الرغبة إليهم بأخبار الرجاء ، أو الوعيد غاية الفسق ، وظاهر كلام جماعة من أصحابنا : أن توبته تقبل . وقاله كثير من العلماء ، لكن في غير ما كذب فيه . كتوبته فيما أقر بتزويره . وقبلها الدامغاني الحنفي فيه أيضا . قال : لأن ردها ليس بحكم ، ورد الشهادة حكم . قال القاضي أبو يعلى : سألت أبا بكر الشاشي عنه . فقال : لا يقبل خبره فيما رد ، ويقبل في غيره اعتبارا بالشهادة . قال : وسألت قاضي القضاة الدامغاني . فقال : يقبل حديثه المردود وغيره ، بخلاف شهادته إذا ردت ثم تاب لم تقبل تلك خاصة . قال : لأن هناك حكما من الحاكم بردها . فلا ينقض ، ورد الخبر ممن روي له ليس بحكم . انتهى .

قال الشيخ تقي الدين : وهذا يتوجه لو رددنا الحديث لفسقه ، بل ينبغي أن يكون هو المذهب . فأما إذا علمنا كذبه فيه فأين هذا من الشهادة ؟ فنظيره أن يتوب من شهادة زور ويقر فيها بالتزوير ( والكبيرة ) عند الإمام أحمد رضي الله عنه ، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( ما فيه حد في الدنيا أو ) فيه ( وعيد ) خاص ( في الآخرة . وزيد ) أي وزاد الشيخ تقي الدين وأتباعه ( أو ) ما فيه ( لعنة أو غضب أو نفي إيمان ) اختلف الناس في الكبيرة ، هل لها ضابط تعرف به أو لا ؟ فذهب بعض العلماء إلى أنها لا يعرف ضابطها قال القاضي في المعتمد : معنى الكبيرة أن عقابها أعظم والصغيرة أقل ، ولا يعلمان إلا بتوقيف . قال الواحدي : الصحيح أن الكبائر ليس لها حد تعرف به ، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ، [ ص: 276 ] ولكن الله تعالى أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه ، رجاء أن تجتنب الكبائر . نظيره إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة في يوم الجمعة وقيام الساعة ونحو ذلك . وذهب الأكثرون إلى أن لها ضابطا معروفا ، ثم اختلفوا في ذلك الضابط على أقوال . الأول - وهو المعتمد - أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة ، لوعد الله مجتنبها بتكفير الصغائر . قال ابن مفلح : ولأنه معنى قول ابن عباس . ذكره أحمد وأبو عبيد . وألحق بذلك ما فيه لعنة أو غضب أو نفي إيمان ; لأنه لا يجوز أن يقع نفي الإيمان لأمر مستحب ، بل لكمال واجب .

قال الشيخ تقي الدين : وليس لأحد أن يحمل كلام أحمد إلا على معنى يبين من كلامه ما يدل على أنه مراده ، لا على ما يحتمله اللفظ من كلام كل أحد . القول الثاني - وهو لسفيان الثوري - أن ما تعلق بحق الله تعالى صغيرة ، وما تعلق بحق الآدمي كبيرة . والقول الثالث - ونسب إلى الأكثر - أن الكبيرة ما فيه وعيد شديد بنص كتاب أو سنة . الرابع : ما أوجب حدا فهو كبيرة وغيره صغيرة ، وهو لجماعة . الخامس - وهو للهروي - أن الكبيرة كل معصية يجب في جنسها حد من قتل وغيره . وترك كل فريضة مأمور بها على الفور ، والكذب في الشهادة والرواية وفي اليمين . القول السادس - وهو لإمام الحرمين - أن الكبيرة كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة . ورجحه كثير من العلماء . ومجموعة ما جاء منصوصا عليه في الأحاديث من الكبائر خمس وعشرون : الشرك بالله تعالى ، وقتل النفس بغير حق ، والزنا ، وأفحشه بحليلة الجار ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، والاستطالة في عرض المسلم بغير حق ، وشهادة الزور ، واليمين الغموس ، والنميمة ، والسرقة ، وشرب الخمر ، واستحلال بيت الله الحرام ، ونكث الصفقة ، وترك السنة ، والتعرب بعد الهجرة ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، ومنع ابن السبيل من فضل الماء ، وعدم التنزه من البول ، وعقوق الوالدين ، والتسبب إلى شتمهما ، والإضرار في [ ص: 277 ] الوصية

التالي السابق


الخدمات العلمية