الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        المسألة الرابعة : اختلفوا في تفسير الحابي ، فقيل : هو السهم الذي يقع بين يدي الغرض ، ثم يزحف إليه فيصيبه من قولهم : حبا الصبي ، وهو كالمزدلف إلا أن الحابي أضعف حركة منه ، وقيل : هو الذي يصيب الهدف حوالي الغرض ، وقيل : هو القريب من الهدف ، كأن صاحبه يحابي ، ولا يريد إصابة الهدف ، ويروى هذا التفسير عن الربيع ، ولم يجعل كثير من الأصحاب الحوابي صفة السهام ، لكن قالوا : الرمي ثلاثة : المبادرة والمحاطة والحوابي ، وهو أن يرميا على أن يسقط الأقرب والأسد الأبعد ، إذا ثبت هذا ، فلو شرطوا احتساب القريب من الغرض ، نظر إن ذكروا حد القرب من ذراع أو أقل أو أكثر ، جاز وصار الحد المضبوط كالغرض ، وصار الشن في وسطه كالدارة ، وإن لم يذكروا حد القرب ، فإن كان هناك للرماة عادة مطردة ، حمل العقد عليها ، كما تحمل الدراهم المطلقة على النقد الغالب ، وإن لم تكن عادة مطردة فوجهان ، أصحهما : بطلان العقد للجهالة ، والثاني : الصحة ، فعلى هذا وجهان ، أحدهما : يحمل على أن الأقرب يسقط الأبعد كيف كان ، والثاني : يحمل على إسقاط البعيد أو الأقرب للأبعد ، أما إذا قالا : يرمي عشرين رشقا على أن يسقط الأقرب الأبعد ، فمن فضل له خمسة ، فهو ناضل ، فهو صحيح والشرط متبع ، وعن " الحاوي " ما يشير إلى خلافه ، والمذهب الأول ، لأنه ضرب من الرمي معتاد للرماة ، وهو [ ص: 382 ] ضرب من المحاطة ، وحينئذ فإن تساوت السهام في القرب والبعد ، فلا ناضل ولا منضول ، وكذا لو تساوى سهمان في القرب ، أحدهما لهذا والآخر للآخر ، وكان باقي السهام أبعد ، ومهما كان بين سهم أحدهما وبين الغرض قدر شبر ، وبين سهم الآخر والغرض دون شبر ، أسقط الثاني الأول ، فإن رمى الأول بعد ذلك ، فوقع أقرب ، أسقط ما رماه الثاني ، ولو وقع سهم أحدهما قريبا من الغرض ، ورمى الآخر خمسة ، فوقعت أبعد من ذلك السهم ، ثم عاد الأول ، فرمى سهما ، فوقع أبعد من الخمسة ، سقط هذا السهم بالخمسة ، وسقطت الخمسة بالأول ، ولو رمى أحدهما خمسة ، فوقعت قريبة من الغرض وبعضها أقرب من بعض ، ثم رمى الثاني خمسة ، فوقعت أبعد من خمسة الأول ، سقطت خمسة الثاني بخمسة الأول ، ولا يسقط من خمسة الأول شيء وإن تفاوتت في القرب ، لأن قريب كل واحد يسقط بعيد الآخر ، ولا يسقط بعد نفسه ، هذا هو الصحيح المنصوص وبه قطع الجمهور ، وقيل : يسقط بعيد نفسه ، كما يسقط بعيد غيره ، ولو وقع سهم أحدهما بقرب الغرض ، وأصاب سهم الآخر الغرض ، فالمنقول أن الثاني يسقط الأول كما يسقط الأقرب الأبعد ، ولك أن تقول : وإن كان الشرط أن الأسد أو الأصوب يسقط غيره ، وأن الأقرب يسقط الأبعد على معنى الأقرب إلى الصواب ، فهذا صحيح ، وإن كان الشرط الأول أن الأقرب إلى الغرض يسقط الأبعد عنه ، فينبغي أن يتساويا ، ولو أصاب أحدهما الرقعة في وسط الغرض ، والآخر الغرض خارج الرقعة ، أو أصابا خارج الرقعة وأحدهما أقرب إليها ، فقد حكى الشافعي - رحمه الله - عن بعض الرماة أن الذي أصاب الرقعة ، أو كان أقرب إليها يسقط الآخر ، قال : والقياس عندي أنهما سواء ، وإنما يسقط القريب البعيد إذا كانا خارجين عن الشن ، وفي هذا تأكيد لما استدركناه ، وعد صاحب [ ص: 383 ] " الحاوي " المذهبين وجهين ، ونقل الشافعي - رحمه الله - عن بعض الرماة أنه قال : القريب الذي يسقط البعيد هو الساقط ، وهو السهم الذي يقع بين يدي الغرض ، والعاضد ، وهو الذي يقع في اليمين أو اليسار دون الخارج ، وهو الذي يتجاوزه ويقع فوقه ، قال الشافعي : والقياس أنه لا فرق لوقوع اسم القريب من الغرض ، فالاعتبار بموضع ثبوت السهم واستقراره لا بحالة المرور ، حتى لو قرب مروره من الغرض ، ووقع بعيدا منه ، لم يحتسب به إلا إذا شرط اعتبار حالة المرور ، ولو شرطا أن ما أصاب القرطاس أسقط ما وقع حواليه ، فقد حكى الإمام والغزالي في صحته قولين حكياهما عن نقل العراقيين ، ووجه المنع بأنه تعسر إصابة الوسط ، وقد يصيبه الأخرق اتفاقا ، وهذا النقل لا يكاد يوجد في كتب الأصحاب ، والمفهوم من كلامهم القطع باتباع الشرط .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية